كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
الطريق طويل و السالكون قليل... وقليل ما هم

 السالكون في طريق التأسيس والبناء، قليل وهم الآن أقل،الصادقون زمن الليالي القاتمــــة التي مرت بالوطـــن نفـــر كانـــوا وهم الآن على ضوء مصابيح الوطن أقل و قليل ما هم .

الاستبداد....ذاك الإخطبوط الاصطناعي المركب والمتعدد الأجنحة والأطراف،جمعهم وفرق من كان يضمر الدوران حولهم، جمّع الأوفياء لمبادئهم والمؤمنين بالمسير عكس خط سير السلاطين، والمستعدين لتقديم الغالي والنفيس من أجل رؤاهم التي تناهض رؤية الباب العالـــي، وفـــرق من كـــان يـــروم أن يلتحــــق بهـــم، فيهم من الأتباع والحالمين وحتى المنشدين الكثير. 
الاستبداد....كان، يخترق الجدران والهياكل والأجسام والأفكار والأرواح، لأشعته...قوة نفاذ تعادل أشعة ﭬاما بالرغم من سرعته البطيئة في حالات الاستعصاء والرقابة والمسؤولية،إلا الأوفياء لرؤاهم والمؤمنين بعدالة منهجهم والذين في سلوكهم ومعايشهم التطابق والتجانس  الفعلي بين تصوراتهم النظرية وأداءهم العملي، الإسلامي منهم أو القومي أو اليساري أو الليبرالي أو مــــن يأخـــذ من كل الذي سبق بطرف، فإنه لم يستطع أن يغير من قيمتهم الإنسانية الأصيلة التي حفظتهم من الانحناء أو الطأطأة لشخوص الاستبداد مع بعض الاستثناء أين استطاع مستشاري قلاع الفســـاد أن يجرّ بعض  القامات إلى حدائقه الخلفية باستعمال جميع الطرق وأرشيف الأمن السياسي هو الذي يشخص كيفية السحب الجهنمي،علما وأن هذه الحالات لا تخلو من وطأتها أي تجربة إنسانية، لأن هناك من يصمد وهناك من يسقط ولو في الربع الساعة الأخيرة أو في الوقت بدل الضائع و لأن أيضا عفن السلطة يتم تسريبه إما بالإغراء أو بالسيف، في هذه المرحلة التي تسمت بمرحلة العذابات أو مرحلة الجمر  والصهر الممنهج في مدينة للملح وهي على المستوى النفسي تميزت بإحساس جمعي بالاختناق والانكسارات والتشظي وبتضخم للفردانية المتألمـــة والوحدانيـــة مع هواجس متشعبة من الخوف من ان يستفرد بهم ذئب الاستبداد.
في مرحلة ما بعد الاستبداد،مرحلة المعاني في اللامعنى أحيانا،مرحلة الخليط وفضاء المابعد ثوري،أين تغيب الهويات المعنوية إلا هويات اللباس والمنبر والساحات و البلوريتاريا المقنعة،مرحلة ما بعد الدفقة الثورية الأولى أو ما بعد طلقة الألم التي نتمناها الأخيرة،فالمارون كثر  و المتجمهرون أكثر،                  و المتجمعون  على جثة العنقاء، سـرا وعلنـــا، لا يحصـــوا عـــددا، والحالمــون بتقاســـم الغنائـــم مع تقاسم الأدوار فالشوارع الخلفية لم تستوعبهم،أما السابقون، السالكـــون الأولــون، فقد قلّوا، دخل لبعضهم دخن وعطن،عطن الأرائك التي اعتقدوها اعتقادا أصوليا أرثوذكسيا،يسارهم ويمينهم، محولا لساحة الحرية و لشارع العدالة الاجتماعية،و دخن قوائم كراسي القصـــور السياديـــة، ولم يبقى من لم تمسه نشوة الركـــوب علـــــى صهـــوة الثـــورة إلا من رحم، وهم الآن أقل من القليــل، ومن لم تستطع عصا الاستبداد وعسلها أن تحني ظهره فإن التزلج على قشدة التأسيـــــس أسقــط الكثيــــر من الحالمين بالتربع على البابويـــة، أمـــا  الأوفيــــاء الخالصين من الزنك أو النحاس فلم تغيرهم أو تغير تنعمهم  وغناهم الداخلي الدفقات الثورية ولا المابعد ثورية أو الثورجية ولا الوقفات الرمزية أو الافتراضية التي تغذي تضخم الــــذوات والرمزيـــات الجوفـــاء، وحافظوا بالتالي على توهجهم الداخلي والخارجي وهم الآن أكثر حساسية وخوفا على عملية البناء الوطني، وهم الآن في ارتيــاب من الغزل السياسي المبالغ فيه وتوجس من خيوط المغزل السلطوي الذي ينمو، هم الآن أقل لأن المحـــن تصلب العود وتجمع المتجمع أما إشعاعات  الغنائم المتمناة، في السياســـة والثقافــــة والمال...، في تداخل فيزيائي مع التحربب السياسي ”من الحرباء أو من حربوب“ والانقسام البيولوجي الحزبي، فإن قوة نفاذها أحد وأكبر وهي تصل إلى المركبات النووية للخلايا إضافة لمذاق العسل المغري وجزيئاته الممغنطة وذرّاته إن هضمت تسري في عروق الروح مسرى الدم من الجسم، لهذا ترى أثار النعمة والبياض والرفاه على وجوه بعض الإخوة والرفاق...وبعض المساجين القدامى، بعد أن كنّا نرى عليهم أثر السجود والشحوب والاصفرار  والفزع من التعب والسهر والحمى والغثيان....
إذا... طريق الوفاء في مرحلتين مختلفتين صعب والسالكون فيه أقل من القليل، وأمثال أبا ذر  نوادر فطوبى لهم ،وطوبى لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ولمن حافظ على توازنه، الفيزيائي النفسي والروحي والمعرفي، بعد التدفق ”الثورجاني“ والهذيان القيمي، فالمنابر والمجالس والمساجد والساحات والأزقة والشوارع والحانات والمقاهي والمطاعم والنزل والمنازل....أغلبها أضحى محطات عبور للقطارات المُثوَّرة.
ووطني الآن في أمسّ حاجة لطينة من هؤلاء الأوفياء الذين لم تُغَيِّر من هيأتهم وشحناتهم وهالاتهم تعاقب الليل والنهار.
والله نسال أن ينجينا من ألآت.... وفيه تنحسر الذات في ظل هياكل سياسية مستنسخة، مركبة، موهومة بالفناء، محنطة ومتكلسة.
دمتم سالمين.