رسالة العراق

بقلم
نعمه العبادي
منهجية ثالثة لمكافحة الفساد

 يفترض هذا العنوان وجود منهجيتين أخريتين لمكافحة الفساد،وهما منهجية المكافحة الموجهة ”للأفراد“، بوصفهم الفاعلين الأساسيين في عملية الفساد، ومنهجية المكافحة الموجهة ”للمؤسسات“ ،بوصفها الفضاء الذي يتيح للأفراد ممارســـة الفســــاد سواء من جهة الثغرات في القوانين والتشريعات التي تحكم تلك المؤسسات، أو حلقات البيروقراطية التي تتيح للعاملين فيها التسلل من خلالها وممارســة الفســـاد، أو لضعف ضوابط الرقابة والتحصين التي تمكن الفاسدين من تحقيق أهدافهم بعيدا عن طائلة العقاب، أو لطبيعة الممارسة القيادية والإدارية التي تشكل نقطة ضعف ينفذ من خلالها الفاسدون.

تعتمد المنهجية الأولى على مقولة (أن الفساد سواء كان فرديا أو جماعيا يرتبـــط أولا وبالذات بالأفـــراد)، أي أن الأفراد هم من يقومون بالفساد،ولذلك،فإن مكافحة الفساد لا بد أن تنصبّ على الأفراد من جهة تحصينهم عبر الوعظ والإرشاد، ومـــــن جهة أخـــرى من خلال معاقبتهم وردعهم لأنهم المسؤولون المباشرون عن الفساد.
وأما المنهجية الثانية فتستند إلى مقولة (أن ردع الأفــــــــراد لا طائـــل منـــه ،ولا بد من سد الثغــــرات في المؤسسات ،وتشريع القوانين الكافية وإحكام السيطرة على حلقات الممارسة الإدارية بحيث ينسدّ الطريق على المفسدين).
أثبتت التجارب العملية أن الفساد لم يتوقف تماما أمام تلك المنهجيتين ،لذلك تقدم هذه المقالة رؤية ثالثة وسطية تعتمد فيها على منهجية مزدوجة تتوجه إلى الأفراد والمؤسسات معا ،وتكون ممارسة المكافحة بطريقة تكاملية تعاضدية ،إذ تعتقد أن الوعظ والعقاب للإفراد لن يكون نافعا ما لم يسانده تحصين للمؤسسات وسدّ الطريق أمام الثغرات والنواقص والمناطق الرخوة التي يمكن أن يتسلل منها الفساد. كما أنها تفترض أن العمل على ”الأفراد“ و”المؤسسة“ ، كلاهما لابـــد أن يكون عبر ”التحصين والوقايــــــة“ و”العقاب والردع“.
يوجد ســـــؤال مركــــزي مهم فـــــي هذا الموضوع من الضروري التعرض له ومفاده ،لماذا يفسد الإنسان؟ ،أو لماذا يقبل الإنسان على الفساد؟
بعيد عن المناقشة الفلسفية ومنهجيات تحليل أسباب الفساد التي تتجادل بين ترجيح الخصائص الذاتية للمفسد وبين ترجيح أسبـــــاب التنشئـــــة والبيئـــة ،وبين من يذهب إلى الجمع بينهما ،فإن المؤكد أن خللا ما في شخصيـــــة وكينونــــة الشخـــص الذي يقبل على الفساد ويمارسه ،وقد يكون هذا الخلــــل أصيل في ذاته كما يذهب البعض إلى وجود شخصيات فيها منحى ذاتي للجريمة ،وبين من يرجع هذا الخلل إلى سوء التربية والتنشئة التي تربّى عليها هذا الفرد ،أو إلى تحديات خارجية ( ضغوط الإغراء أو الحاجة أو أسباب أخرى ) تسببت في تحويله من شخص سوي إلى شخص فاسد .
هذه الحقيقة التي تكملها حقيقة أخرى، أن المفسد يحتاج إلى منفذ في مؤسسته ودائرته ومجال عمله ليمارس من خلالــــه جريمتـــه، ولو لا هذه الثغرة أو الخلل لما كانت الرغبة والإرادة لدى المفســــد أن تمكنه من تحقيق مبتغياه.
في العراق ،وبعيدا عن التضارب في حجــم الفســـاد ونوعـــه لا شك من وجود حالة من الفساد تمثل عائقا كبيرا بوجه التنمية وبناء الدولة العراقية الجديدة ،ولعل بعض التقديرات تذهب إلى أن خطر الفساد أكبر من خطر الإرهاب ،باعتبار أن الفساد يدعم الإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذا الواقع يقتضي أن نعمل على منهجية الطريق الثالث، والتي ترى وجود عناصر وممكنات مهمة لا بد من حشدها في معركة الوقوف بوجه الفساد.
لا شك في أن الجهود الجبارة والاستثنائية التي بذلتها وتبذلها هيئة مكافحة الفساد (النزاهة) ودوائر المفتش العام وجميع الجهات الرقابية ،إلا أن هناك عناصر وممكنات فاعلة لا بد من استثمارها في هذه المعركة الشرسة.
تحدي تحفيز الضمير وتثوير منابع الخيـــر في الأشخـــاص كبيــــر وهو مهمة الأنبياء والأوصياء والصالحين ودعاة الفضيلة والرشاد ،ويحتاج إلى منهجية حكيمة تمس إنسانية الإنسان وتغازل قوى الخير فيه ،لذلك لا بد من استثمار المؤسسة الدينية بكل أطيافها ومكونتها ،وتحفيزها للقيام بالدور الأســـاس والفاعــــل والمتمثـــل في بناء الإنسان وتهذيبه.
اليوم لا بد للمساجد أن تقوم بدورها الحقيقي في مناشدة الإنسان ومخاطبة ضميره واستصراخ قوى الخير فيه ،ودعوته إلى الفضيلة ومجانبة طريق الفساد والمفسدين ،وتذكيره بالعار الاجتماعي والعقاب الرباني ،وبحق الناس ونفسه وأسرته عليه في مسؤوليته بالحفاظ على حقوقهم.
ليست المؤسسة الدينية وحدها المعنية بهذا الدور، بل القبيلة ومؤسسات المجتمع المدني لها دور فاعل في تحفيز الحس الإنساني والمسؤولية الوطنية للإفراد والجماعات من أجل الابتعاد عن الفساد والمفسدين.
منهجية بناء الأفراد والمؤسسات معا تقتضي أن تكون هناك مراجعة شاملة وكاملة لكل مسارات وطرق الفساد وتعقب الثغرات والهنات والمناطق الرخوة التي تسلل ويتسلل منها الفساد بحيث يتم معالجة ذلك بحلول جذرية وليست ترقيعية.
لا بد من العمل على إشاعة حرمة وحصانة المال العام ،والتركيز على العار الاجتماعي والعقاب الديني في مواجهة الفساد والمفسدين، والنظر إلى أن العراق في حلبة صراع مع التحديات والأخطار، وهو في أجواء معركة حقيقية، ولذلك من يمارس الفساد في هذه الأوقات كمن يمارس إضعاف بلده في لحظات المعركة لصالح أعدائه.
إن المثقفين والمفكرين وجميع المهتمين ببناء الإنسان مدعون بقوة لمساندة المال العام وحصانة الدولة ومشروع التنمية في قبال هجمات المعتدين من الإرهابيين والمفسدين، وهي معركة وجود بأوضح صورها.
————————