في النفس والمجتمع

بقلم
عادل دمّق
ابن خلدون و الاتجاهات الفكرية و السياسية المعاصرة

 من مظاهر التميز في المقدمة اعتماد ابن خلدون على التحليل النفسي فحينمــا نطالــع العديــد مـــن الفصـــول تجدنا أمام نماذج من التحليل تتجاوز أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في أحدث انجازاته فهو حينما يتناول ظاهرة بالدرس لا يقف عند حدود الوعي و الإدراك الشعوري و إنما ينفذ إلى الأعماق اللاشعورية و أوضح ما يتجلى هذا المنزع حين يتصدى لدراسة الاتجاهات الفكرية والسياسية في شقيها المتقابلين الاتجاه الديني السلفي والاتجاه الليبرالي العلماني.

 
(I) الاتجاه الليبرالي العلماني
 
إن ما يميز هذا الاتجاه هو التجافي عن تعاليم الدين والاعتداد بالرأي ”الحر“.
نقرأ في فصل: ”أبطال الفلسفـــة و فســــاد (رأي) منتحليهــــا“: ”أما قولهم أن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه و إصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانية المذموم فأمر مبني على ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها و اعتباره بحال الصبــي في أول مداركه الجسمانية كيف يبتهج بمــــا يبصـــره مـــن الضـــوء و بما يسمعه من الأصوات فلا شــــك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون اشد و ألذ“(1) . 
ابتهاج النفس: جانب نفسي عميق، مؤثر من حيــــث لا يشعر الإنسان و هذا الابتهاج ناتج عن الشعور بالتميز و الاستقلال و الرغبة الجامحة في إثبات الذات.
بإدراكها الذي لها من ذاتها: شعور بالاستقلال والحرية يغذي الإحساس بالقوة و القــــدرة و لعـــلّ ابن خلدون يقتبس من التنزيل: ”فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِــــنَ الْعِلْمِ وَحَــــاقَ بِهِــمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ “ سورة غافر 83.
كحال قارون كما جاء في سورة القصص ” إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ۩ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَـــــنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ ... وَلَا تَبْغِ الْفَسَـــادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ۩ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ“ الآيات 76-78
”لا تفرح“: للفرح مظاهر لا تخفى عن الملاحظة.
”إنما أوتيته على علم عندي“: تعبير ينمّ على اعتداد بالأنا وشعور بالكبر والتعالي ” إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ “ سورة غافر 56.
الكبر: حالــة يتميــــز بهــــــــا الإنســــان حيــــن يعجــــب بنفســـه- وفي أثر نبوي:"احذر أنا ولي وعندي"(2).
واعتباره بحال الصبي: إيراد في محل التشبيه قد يوحي بحالة نكوص وحنين يعيشها الراشد الذي لم يدرك الرشــد. فهو صبيانــي في تفكيره وتقييمه وأحكامه.
وكتابات العلمانية تعج بالدعوات إلى التحرير والاستقلال والإبداع والخلق.
و شهادة التوحيد هي التي تعالج هذا الميـــل ” وَنُنَزِّلُ مــِـنَ الْقُــرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ “ الإسراء 82.
”يَا أَيُّهَــا النَّـــاسُ قَدْ جَاءَتْكُــــمْ مَوْعِظَــــةٌ مِــــنْ رَبِّكُـــمْ وَشِفَـــاءٌ لِمَــا فِي الصُّدُور “ سورة يونس 57 
و قد أدرك روجاي قارودي هذا البعـــد:”تجعـــل كلمــــة التوحيـــد في الدين كل قدرة و كل علم و كل تملك امرا نسبيا“(3).
و نقرأ في كتاب قواعــد العقائـــد:”فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه و ارادته فمن لم يكن الله معبوده و استكبر عن ذلك فلا بد ان يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا ذليلا لذلك المراد المحبــــوب، أما المــــال وأما الجــــاه وأما الصـــــور وأما ما يتخذه إلها من دون الله كالشمس والكواكب و الاوثان... وغير ذلك مما عبد من دون الله“(4).
قارن:
“Tout être humain, qu’il le veuille ou nom est à la recherche d’un absolu. Où le trouver ? En dieu pour ceux qui y croient. Quant aux autres ils se débrouillent comme ils peuvent pour satisfaire leur fringale d’absolu. Ils absolutisent donc le travail, la patrie, leur idéologie, leur chef d’Etat que sais-je… ! ” (5)
 
(II) الاتجاه الديني
 
هناك دعوات قوية و مؤثرة إلى العودة إلى الدين و الالتزام بتعاليمه في شتى مناشط الإنسان نقرأ في المقدمة: ”وأكثر المنتحلين لمثل هذه الدعوات تجدهم موسوسين أو ملبسين يطلبون رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التواصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب الموصلة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك 
و لا يفطنــون إلــى مـــا ينالهـــم فيـــه من الهلكة لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه و عنايته و الإخلاص له و النصيحة للمسلمين“(6).
ملبسين: لم يتبين لهم وجه الصواب بل خفي عليهم جراء إدراك وهمي (يحسبون) ناتج عن عقدة :”الرئاسة امتلأت بها جوانحهم“ لم تجد مجالات فتجلٌت في صورة متنكرة: العودة للأصول.
الإخلاص له: الإخلاص مبدأ محوري جوهري في العقيدة الإسلامية.
” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ “. سورة البينة
” ألا لله الدين الخالــــــص“ سورة الزمر. والإخــــلاص يتمثــــــل في الاستجابة لله ولكل ما أمر الله و كما أمر الله و يتحقق بالمجاهدة والمراقبة والمحاسبــــة:”علاج الإخـــــلاص كسر حظوظ النفس وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها بنفسه ويظن أنها خالصة لوجه الله ويكون فيها مغرورا لأنه لا يدرك وجه الآفة فيها.. وهذا دقيق غامض قل ما تسلم الإعمال من أمثاله والغافلون عنه يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات:” وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ...“ سورة الزمـــــر 47-48.  ” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۩ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا “ الكهف 103-104.
وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء فان الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والطبع يلبس عليهم ذلك ويقول :غرضهم نشر دين الله والنضال علــــى الشــــرع...ولو ظهــــر من أقرانهم من هو أحسن منهم وعظا وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك و غمٌه ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى، إذ كفاه هذا الأمر بغيره.. وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحث نفه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر فرح به. وإخباره بذلك عن نفسه قبل الامتحان محض الجهل والغرور.
فمعرفة حقيقة الإخلاص العمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو المستثنى بقوله تعالى:” إِلَّا عِبَــــادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِيــــــنَ “. فليكن العبد شديد التفقد لهذه الدقائق وإلا التحق بإتباع الهواء وهو لا يشعر“(7).
إذا قد يحصل تفاوت بين اعتقاد الشخص والاعتقاد الشرعي، عدم تطابق بيـــــن النمــــوذج والنظيـــر. والله يأمرنا ”يا أيها الذين امنوا امنوا“ و الله يعلمنا ”وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُـــمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهـــُمْ مُشْرِكُــــونَ “ سورة يوسف.
و هذا ما يتوجب التفطن إليه و الحرص على فهمه وتفهيمه وتراثا غني بملامح التحليل النفسي.. أورد البخاري في كتاب العلم وهو الباب الأول في صحيحه بابا بعنوان:”خوف المؤمن مــــن أن يحبــــط عملـــــه وهو لا يشعر“ جاء فيه :قــــــــال إبراهيم التيمـــيّ: ”ما  عرضت قولي على علمي إلا خشيت أن أكون مكذبا“، و قال ابن ابي مليكـــــة ”أدركت الثلاثيــــن من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كلهــــــم يخــــاف الشرك على نفسه“.
هذا التفاوت ساهم فرويد من موقعه في دراسته في كتاب ”مستقبل الوهم“ هذا الكتاب الضجة يقول عنه فرويد:”وقد جاء تقييمي للدين في ”مستقبل وهم“ سلبيّا في جوهره و لكني توصلت في زمـــــــن لا حق إلى صيغة أعدل في هذا التقييم في كتابي مستقبل وهم لم يكن موضوع البحث بالنسبة لي الينابيع العميقة للشعور الديني بقـــــدر ما كان في المقام الأول ما يتصوره الإنسان العادي حين يتكلــــــم عن دينه“(8).
أدرك فرويد حقيقة مهمة جدا:الدين في جوهره و الدين في تصور الإنسان و تأويله و بهذا التمشي تصبح دراسة فرويد متأكدة لتفهم عوامل عدم الإخلاص (تباعد الاعتقاد البشري عن النموذج الأصلي)!! 
فهل نأمل مراجعة صادقة خالصة تساهم في إعادة فاعلية هذه الأمة الوسط و ريادتها للعالم "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
 
الإحالات
 
(1) المقدمة ص 553.
(2) زاد المعاد في هدى خير العباد ص 42. 
(3) روجاي قارودي: مبشرات الإسلام ص 118. 
(4) الغزالي: قواعد العقائد ص 163.
(5)  
Pierre DACO : les Triomphes de la psychanalyste. Edition Marabout p42-5-.65-
المقدمة ص 148. 
(6) الإحياء جزء 3 ص 103-109. 8
(7) حياتي و التحليل النفسي ص 99. 
(8) قلق في الحضارة ص 19. 
ملاحظة:
الإحالات الخاصة بمؤلفات فرويد تحيل إلى طبعات دار الطليعة-بيروت. ترجمة جورج طرابيش و الإحالات الخاصة بالمقدمة تحيل إلى طبعة المكتبة العصرية-بيروت 2002.
——————