نقاط على الحروف

بقلم
اسماعيل بوسروال
أدغال الانتقال الديمقراطي في تونس...والخروج من المتاهة

 مقدّمة

 
عاشت البلاد التونسية في شتاء هذا العام مرحلة دقيقة من الانتقال الديمقراطي إذ ألقت عملية الاغتيال للمعارض السياسي البارز شكري بلعيــــد بظلالهــــا على الساحة الوطنية ... حيث استقال رئيس أول حكومة منتخبة بعد الثورة السيد حمادي الجبالي بسبب قناعات واستنتاجــــات حصلت له من خلال ممارسته للسلطة في مرحلة الانتقال الديمقراطي...ثمّ أفضت المشاورات العسيرة إلــــى تشكيـــــل حكومــــة جديـــدة بقيـــادة السيد علي العريض .
 تزامـــن ذلك مع مسيرات في هذا الاتجاه ومسيرات في الاتجاه الآخر ...ومنابر إعلامية تدور فيها حوارات تتضمن معلومات وإشاعات وتفاصيل تجعل المشاهد يشك في كل ما يدور حوله في هذه البلاد ... 
 
بناء مؤسسات الدولة
ومتطلباته الموضوعية الغائبة 
 
لقد حدثت بالفعل ثورة في تونـــس وسقـــط رأس النظام والتونسيون الآن بصدد بنـــاء نظام جديـــد ...لكن هل أن التمشــــي المنتهــــج إلى حدّ الآن يؤكد أننا على الطريق لبناء مؤسسات دولة وطنية حديثـــة علـــى غــــرار فرنســـا أو بريطانيــــا غربـــا أو على غرار تركيا أو ماليزيـــا شرقـــا ...مع التوق إلى ما هو أفضل ؟...
للإجابة على هذا السؤال ارتأيت أن أقدّم مفاهيم الفيلسوف الألماني ”هيغل“بصياغــــة تقتضيهـــا عملية النقـــل البيداغوجــــي ...أي بعبارات يفهمها أغلب الناس بعيدا عن المصطلحات الفلسفية  المعقـــدة دون إخــــلال بالمعنــــى الأصلــــي.  وقد اقتصـــرتُ على أفكار”هيغل“ لأنها تخدم تحليل الوضعية الحالية كما تبدو لي . 
إن بناء مؤسسات الدولة يتطلب أولا مواطنين يحترمون أنفسهم ويحترمون القانون ...ذلك أن الدولة كمــــا حددهـــــا الفيلســــوف الألمانـــي ”هيغـــــل“ هي ”المثل الأعلى“ الذي ينتجه العقــــل البشــــري حيث تحتكر الدولة السلطة والقـــوة (الجيش – الأمن – السجون – تطبيق القانون ) وبذلك يمرّ الإنســـان من مرحلة الحياة الفردية التي تكون فيها السيطرة للغرائز إلى مرحلة الحياة الجماعية التي يكون فيها الاحتكام إلى العقل ...إذ أن الإنسان الفرد يتم تهذيبه من الحياة الغريزية القائمة على الشهوة والعدوانية  بواسطة ”العمل في الجمعيات والمنظمات والأحزاب“ ( المجتمع المدني ) فيصبح كائنا اجتماعيا له سلوك يستجيب لانتظارات الجماعة التي يعيش فيها
ويؤكد ”هيغل“ أن ”العقل البشري“ينتج نظاما يتفق عليه الأفراد ويستنتجونه من نشاطهـــم في الجمعيــــات والمنظمات والأحــــزاب وتتم صياغته في شكل ”قانون“ لأن ”القانون“ هو نتاج للعقل الإنساني ينظم الحياة المدنية وهو إنتاج يخلص الفرد من سيطرة الغريزة ويرتقي به  إلى تحكيم العقل فتكون لسلوكه تبعات وتأثير في الآخرين وهي ”المسؤولية“ .
ويعرف”هيغل“الحرية في هذا الصدد بأنها ”الامتثال للقانون“ ...وتعني بعبارات واضحة أن ”الحرية“ هي تصرّف شخصي في إطار قانوني... والفرد يتحمّل مسؤولية هذا التصرّف سلبا أو إيجابا ...ولعل أهم ما أشير إليه في هذه النقطة أن عدم احترام القانون ينتج عنه عقوبة معلومة سلفا من قبل المواطنين. وتلعب العقوبات دورا رادعا في منع حدوث التجاوزات نظرا لتشربها من قبل المواطنين ورضاهم بها .
إن ما دفعني إلى تلخيص نظرية ”هيغل“ حول الدولة والمجتمع المدني والقانون والحرية والمسؤولية هو ما يلاحظه التونســــي  بعد الثورة – وبنظرة موضوعية -  من غياب السلوك المدني المتحضر القائم على احترام القانون الجاري به العمل وذلك من قبل المواطنين بمختلف درجاتهم الثقافية والاجتماعية ...
 
هل يمارس التونسيون حريتهم على هذا النحو؟ 
 
اعتمادا على تعريف ”هيغل“ بأن الحرية هي ”الامتثـــال للقانـــون“ و أن عدم احترام القانون له تبعات يتحمل مسؤوليتها من يتجاوزه وذلك في إطار السلوك الفردي الحر والمسؤول فــــي ذات الحيـــن، فإننا نلاحظ أن أغلب المواطنين التونسيين من عادييـــن ونخب سياسية وإعلامية لم يلتزموا بمــــا يضبطه القانـــــون وبالتالــــي فإنهم تعاملوا مع مبدأ ”الحرية“ تعاملا خاطئا . ونسوق على سبيل المثال ما يلي : 
◄إن جولة سريعة في أحد الشوارع الرئيسية المكتظة في إحدى المدن تسمح للمتأمل أن يلاحظ عدم احترام السائقين لإشـــــارات الـــمرور وقواعــــد السيــــر... بل من أغرب مظاهر البعد عــــن التمـــدّن والتحضّـــر و”الحرية والمسؤوليـــة“هو توقــــف السيــــارات والشاحنات في وسط الطريق العام وتبادل السائقين السلام والكلام و”وجهات النظر“ مع تعطيل حركة المرور وتوتيـــر الأجــــواء ...
فأين نحن مـــن تعريف ”هيغل“ للحرية باعتبارها ”امتثالا للقانون“؟ 
◄كما نرى الفوضى العارمة للانتصاب العشوائي للباعة علـــى أبــــــواب المحــــــلات وعلــــى المعبّــــد وحتــــى في جزء مــــن الطريـــــق العــــام...بضاعـــة استمر توريدها بطرق غير قانونيـــــة ويتم عرضهـــــا بشكـــــــل يعطـــــل سيــــر المترجليـــــن ... 
فأيـن نحن من تعريف ”هيغـــــل“ للحريــــة باعتبارها ”امتثالا للقانون“؟
◄كما أن نظرة سريعة على الأحياء السكنيّة تسمح بادراك تهافت السكان على البناء العشوائي والفوضوي بما في ذلك اكتساح أراضي الغير والتعدي على الملك العمومي أو احتلال عمارات الشركات العقارية ....
فأين نحن من تعريف ”هيغل“ للحرية باعتبارها ”امتثالا للقانون“؟
 ◄أما الإدارات فحدّث ولا حرج ...تعمل بنسبة حضور لا تتعدى الأربعين في المائة حسب إحدى الدراسات المسحيّة التي اطلعت عليها ...فسواء حضر الموظف أو غادر لم يعد بإمكان عديد المديرين ورؤساء المصالح اتخاذ إجراءات تأديبية ضد من لا يحترم قواعد الشغل ...
فأين نحن من تعريف ”هيغل“ للحرية باعتبارها ”امتثالا للقانون“؟
إن مشهدا كما تم توصيفه يدل على أن مسار الانتقال الديمقراطـــي في تونس انطلق كدرس نظري يلقيه أستاذ في أحد مدارج الكليات حيث صاغ تدرّجا ممتازا من الناحية النظرية يبدأ بأعداد دستور يضمن الفصل بين السلطات ( نظرية ”منتسكيو“ في كتابه روح القوانين) ويفترض التمشّي  شعبا تتوفر له المتطلبات الضرورية من المأكل والملبس والغذاء والأمن ...كما أنه يفترض محيطا وجوارا مساعدا وينتظر قوى عالمية يسعدها أن ترى التونسيين يبنون مؤسساتهم على مهل ويحققون ما حققته ماليزيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان ...
وكان من الصواب ان تبدأ المراحل متدرجة  كما تبدأ الحياة ...فالأحزاب التونسية لم تتدرب على الحياة الديمقراطية ...وكان من الأفضل البدء بمرحلة انتقالية تدوم بضع سنوات كما اقترح حزب المؤتمر ...مرحلة تسمح بتقبل الآخر والتعايش معه ...
تحتاج مقتضيات الانتقال الديمقراطي الحالي في تونس في مرحلته الحالية إلى ”حكمة السياسيين“ في ظل غياب مركز دراسات إستراتيجية حول ”الأمن القومي“...لأن الشرط الأساسي لأي انتقال ديمقراطي الآن في بلادنا هو ”توافق وطني“ حول قيم وأهداف مشتركة ورؤية تأخذ بعين الاعتبار خطورة الوضع الإقليمي المتمثل في السلاح العابــــر للحــــدود ...والطيران الفرنســـي الذي يحلق في الأجواء المحيطة بنا ...وقريبا يُحتمل تحليق الطائرات الأمريكية بدون طيار في أجواء المغرب العربي لملاحقة مقاتلي القاعــــدة على غرار ما يحدث في اليمن ...إن النخبة السياسية التونسية مدعوة إلى إن تدرك أنها  تسير في أدغال مرحلة انتقالية بالغة التعقيد داخليا وإقليميا ودوليا ...وان توفير عوامل النجاح لبناء مؤسسات الدولة مسألة ممكنة إذا ارتقى تفكيرها وأداؤها وسلوكها إلى مستوى اللحظة التاريخية. 
———————