زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
صحبةٌ منعدمةٌ لسيّدةٍ منقبضةٍ

 كانتْ وحيدة في المحطّة، محتمية داخلها من غضب الطبيعـــــة. وحالما توقّفت الحافلة صعدتْ متثاقلة، وترجّلتْ بخطى وئيدةٍ لتأخذ مكانها على مقعد قبالتي. جلستْ متهاوية متهالكة، ووضعتْ حقيبتها على ركبتيْها، وسدلتْ كلتا يديها، ثمّ شبّكتْ أصابعها، ورفعتْ رأسها نحو النافذة ترسل نظرها بعيدا، تحدّق في الفراغ شاخصة، لا تحرّك لها جفنا ولا رمْشا، يأخذها شرودٌ عجيبٌ، ويسكنها وجومٌ عجيبٌ.

لم تكن مستقرّة في جلستها. كانت متململــــة، قلقــــة كالجالــــس على الجمر، تتزحزح مرة إلى الأمام، وتتزحزح مرة إلى الخلف. تحني هامتها مُطرقة حينا، ثم ترفعها متأففة حينا آخر.
كنت أرى صدرها يهتزّ وينخفض، وكذا فمَهـــــا ينتفـــــخ وينفـــرج، بالكاد كانت تخرج الأنفاس، تنقبض، تكاد من ضيقها تنفلق.
كنت أراها متقلبة، متوترة، متوثبة كمن يريــــــد كســـر أغلالـــــه، متحفزة كمن يحاول رفع أثقاله.
كانت تارة تفكــــرك أصابعهـــا، وتارة تعضّ إبهامها، وتارة أخـــرى تضع رأسها بين راحتيهـــا، ثم تسنـــــده بعد ذلــــك إلـــــى النافــــذة كأنّي بها تستثقله.
كنت أرقب حركاتها منتبها، وأتأمل سكناتهــــا متأثــــرا، وأغـــوص في أعماقها متألما، وكنت كلما حاولتُ جاهدا تجاهلها وصرفَ نظري عنها اصطدمتُ بعيون من حولي ترمقها جاحظة فتعيدني إليها ثانية أتابعها بقلب معتصر وفؤاد منفطر.
المسكينة اندفعت فجأة كالمصعوق، وانطلقت كالمبروق، ولم تشعر أنها قد داستْ على قدمي، فلا كلّمـــتْ، ولا اعتـــذرتْ، واتجهـــتْ إلى سائق الحافلة مترجيّة أن يسعفها في سهوتها بعد أن جاوزتْ محطتها.
تفهّم السائق لغفلتها، ورقّ لحالتها، ولبّى رغبتها، فنزلت بخطى متسارعة، ومشت غير عابئة بهطل الأمطار وعويل الإعصار، وتلاشت عن الأنظار بين العمران.
في هذه الآونة نظرتْ إلي سيّدة كانت على مقربة، وقالت مشفقــة: ”يا لها من مسكينة مهمومة! لا أحـــدَ يصحبهــــا فـــــي وحدتهــــا، ويسير برفقتها حتّى يهون من شدتها!!“
وروتْ لي في معنى الصّحبة والرّفقة أنّ الحسن البصري رحمه الله قد قال: ”تواصلوا مع أصحابكم، فالصاحب الوفيّ مصباح مضـــيء قد لا تُدْرِكُ نورَه إلا إذا أظلمتْ بكَ الدنيا“.
وتناهى إلى سمعي من خلفي صوت لرجــــــل يدعمهــــا بالقــــول: ”إنّ من يحيطون بنا في الواقع من آباء وأبناء وإخوان وأجوار وأصدقاء يمثّلون زينتنا في الرّخاء وعدتنا في البلاء“.
وأضاف :
”إنّ هذه المسكينة لو كانت محاطة مصحوبة لأمكنَها أن تلطفَ من ضِيقها، وتخفّفَ من ضيْمها وتهوّن من كرْبها“.
وما كاد الرّجل ينهي كلامه حتّى توقّفتِ الحافلة، وأنهتْ سفرتَها، فتنازل الرّكابُ، وتفارقوا، وتواروا.
غادرتُ بدوري محطة النقل وأنا أستعيدُ مشاهد تلك السيدة المكتربة المنقبضة، وأحتفظ بصورتها الحزينة المؤثرة، وأستحضر ما قاله الجماعة في الحافلة من أنّ الإحاطة والصّحابة من الأهل والأجوار والأصدقاء والخلان حاجتان ضرورتان لكل إنســــان، وأنّ المـــرْءَ إذا انفردتْ به المشكلات وحاصرته الأزمات أذهبتْ عقله، وحطمتْ نفسه، وزلزلتْ كيانه.
  وتذكّرْتُ ما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم في التوادد والتراحم والتعاطف بين كافــــة المؤمنيـــــن ومـــــن ذلك قولــــه صلى الله عليه وسلم: ”مثلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى“.
غادرتُ المحطّة وأنا أعْلمُ أنّ هذه السيدة المسكينة لا تشكّلُ حالة استثنائية في الواقع، بل جسّدتْ مثالا حيًّا من حالات مماثلة لا تُحْصى بين التونسيين قد أبرز حاجة المجتمع إلى قيم التكافل والتعاون والتآزر والتراحم والتعاطف وإلى جمعيات خيريّة وهيئات إنسانية تعمل على التّدخّل في حياة المواطنين بالإنصات والتوجيه والإحاطة والمساعدة حتّى يصبح التونسي للتونسي بالفعل”كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا“.
—————