بهدوء

بقلم
شكري عسلوج
المعوقات الفكرية لرقينا الحضاري

 يومها في مقتبل العمر، وكنت قد تركت ورائي الأحبة والديار ووليت وجهي شطر القارّة العجوز، مهد الحضارة الغربية طالبا لعلم، لعلي أنفع به وطنا ترعرعت بين أحضانه ومَلئْت صدري من نسائمه وعبق شذاه وتوطد في وجداني حبّه وإكباره. كانت الصدمة الثقافية والحضارية، قاسية على إدراكي الغض آنذاك وكادت تهزّ ثوابتي وتربك قناعاتي، خصوصا عندما وقفت على البون الحضاري الشاسع، بين ما هم عليـــه من تقـــدّم ورقـــيّ وما نحن عليه من تخلّف وتقهقر.

ألفيت نفسي أقارن وبشكل تلقائي ومتواصل، يكاد يرتقي إلى الهوس، بين أحوالنا وأحوالهم في كلّ المجالات وعلى مختلف الأصعدة ويؤرقني سؤال حارق : لماذا هم على ما عليه من تقدّم ونحن على ما عليه من تخلّف؟ ولماذا كلما انبلجت شمس كلّ صباح جديد، تراهم يواصلون وضع لبنات صرحهم الحضاري ويرتقون إلى آفاق أرحب ومستويات أرفع، بينما تعمل معاول الهدم في ربوعنا بدون هوادة ويستشري الفساد والانحطاط فـــي مجتمعنــا وتُخــرّب بيوتنــا بأيدينــا قبل أن تطالها أيدي أعدائنا. خِلْت أني وجدت ضالتي والجواب الشافي والكافي علـــى سؤالـــي الحــارق، يوم سمعت طرح مُفكّر ألماني حيث يقول: إن التقــدّم هو محصلة كل القـــــرارات الصائبـــة وإنّ التخلّــف هو نتيجة كل القرارات الخاطئة. استهوتني الفكرة وشدّت انتباهي، فهي وبالرغم من بداهتها وبساطتها في ظاهر الأمر، إلاّ أنها تَنِمّ على عمق فلسفي وتضع الأصبع على موضع الداء. وبالفعل، فالقرارات التي يتمّ اتخاذها في كل آن وحين، والتي تهمّ الأفراد منّا والمجتمعات، والتي تحدّد التوجهات والمصائر الخاصّة منها والعامّة، والتي تضعنا على دروب السؤدد والخير أو تقودنا إلى صحاري التيه والضياع، هي بالأساس مَحْصلة وعي فردي، يصبّ في وعي جماعي ويرتبط معه في إطار جدلية معقّدة ومتعددة الأبعاد، وهي بدون شكّ نتيجة فكر يُوجّهنا، قد يرفعنا إلى مراتب علييــن أو يهوي بنا إلى أسفل سافلين. دفعني هذا، والسِّنون تمرّ مرّ السحاب، إلى إمعان التفكّر ومحاولة سبر مواطن الخلل واستقراء كنه العلل الفكريـــة الكامنــة في ذواتنا والتــــي تعــــوق نهضتنـــا الحضاريــــة. ورغم أني أدرك يقينا، أن مقالا كهذا لن يُوفي البتّة للموضوع حقّه، ولن يُسهب في الإحاطة بكل جوانب هذه المعضلة الشائكــة، ولن يعــدو أن يقـــدّم أكثــر من رؤوس أقلام، فأني أردته دعوة ملحّة للقارئ الكريم، تدفعه إلى إعمال العقل والرويّة من أجل التحديد المُشخصن، كل مـــــن موقعـــه وبالرجــوع إلى خلفيته الاجتماعية والفكرية والعقائدية، لطرائق تفكيرنا التي أصابها الزيغ والعوج والتي تجعلنا لا نفتر ولا نكلّ من اتخاذ القرارات العبثيــة واللاعقلانيـــة، التي تقودنا نحو الفشل والفوضى والتخلف والانحطاط، كأن هذا قدرا كان علينا محتوما، لا مناص منه ولا خلاص.
يُخبرنا علم النفس التحليلي بأن الأمراض النفسية والعقلية بما فيها العصيّ منها، يُمكن الشّفاء منها والإفلات من سطوتها إذا تمكّن المريض، بواسطة إيحاءات وأسئلة موجّهة من الطبيب المُعالــج، من تشخيص عقده والتعرف عليها واستيعابهـــا وبالتالي الخــروج بها من دائرة اللاوعي المُبهمة إلى نطاق الوعي، الذي يُمكن التعاطـــــي معـــــه بوسائــــل المنطــــق والحُجّـــــــة والبيــــــــان. كما أنه لاغرو في أن الأمراض الفكرية والنفسية (العقلية) ينطبق عليها ما ينطبق على الأمراض العضوية (البدنية)، من مبادئ العدوى والوراثة والأوبئة والمناعة والعلاج إلخ. وبذلك نستطيع القول أن الأمراض العقلية شأنها شأن العلل البدنية، تصيب الفرد كما تنتقل منه إلى المجموعة عبر العدوى المحدودة أو الأوبئة الواسعة الانتشار كما أنها تنتقل بين الأجيال بالتوريث. ولتبيان ذلك، أستهل حديثي بما تطرّقت إليه المقولة التي تُنسب إلى منارة الفكر التونسي، العلامة ابن خلدون، بأن العربي (التونسي) يحب السيادة (الزعامـــــة) ولو على حجر (خــــراب). ومع أنّي أنأى بنفســـي عن التجريح والتقريع إلا أني لا أجد بُدّا من أن أسوق لكم تباعا المقولة الثانية، في أنّ أهل تونس شمّاتون في المصائب حسّادون في النعم. لا يُنكر إلّا جاحد، بأن كلّ هذا  كان حقيقة في ربوعنا بالأمس الغـــابر كمـــا هـــو واقـــع مشهـــود فـــي يومنا الحاضر وأخشى ما أخشاه أنّه، وبدون إرادة صادقة وجادّة، من الجميع وخاصّة من النّخب التي بين ظهرانينا، لإعادة تقييم ذواتنا وإصلاحها، سيكون كذلك حالنا في الغد القادم ولـــن يورثنـــــا ذلك إلا ركام الأحجار،التي هي عنوان الخراب بامتياز. تصيبنا الدهشة ولا نكاد نصدق بأن ما قاله بن خلدون الذي وافته المنية منذ ستة قرون ونيف، يكاد يكون توصيفا دقيقا لمجريات الأمور في مجتمعنا بصفة عامّة وفي الساحة السياسيــــة علـــى وجــــه الخصـــوص، ولَكَأنّ طباع الشعوب وعللها تتوارثها الأجيال كما تتوارث الأمراض الوراثية، وكأن هذه الآفات الفكرية والنفسية والاجتماعية قد نُسخت على شريطنا الوراثي وأصبحت جزءا من موروثنا الجيني، تتناقله الأجيال عبر العهود والأزمنة. لقد شهدنا بعد الثورة تهافتا محموما من كلّ حدب وصوب ومن كل من هبّ ودبّ على المناصب والمكاسب والمواقع كأن الوطن غنيمة حرب، كُلّ يسعى لأن ينال نصيبا منها، أو فريسة بين براثن قســـورة ينهـــش من لحمها وهي ما زالت تتنفس وتتلقفهـــا الضبـــاع من بعده لترديها أثرا بعد عين، في تراجيديا مُقرفة ومحزنة في ذات الوقت، يدفع تكاليفها الشعب وتدور أحداثها حول صراع إعادة توزيع الثروة والسلطة. أبطال هذه التراجيديا ينقسمون إلى قوى مُستحدثة تريد الإمساك بزمام الحكم وتسعى إلى تشكيل نظام جديد يقطع مع الماضي كما فوّضها الشعب لذلك من جهة، وفي المقابل تصطفُّ قوى النظام السابق التي تحاول مُستميتة المحافظة على السلطة التي استأثرت بها لعقود والإفلات من ساعة الحساب وقد أزفت وقوى سياسية أخرى تتبنى مشروعـــا مجتمعيّـــا مغايــــرا، لم تُوفّق في اختبار الصناديق في أول انتخابات حرّة ونزيهة، ولكنها بالرغم مــــن ذلـــك تبحث لنفسهــــا عن مكان في سدّة الحكم،  وهـــي مستعدّة لبلوغ ذلك إلى أن تحرق البلاد وأن ترمي العباد في أتون الحرب الأهلية أو التدخل الأجنبي أو حكم العسكر لأنها لم تغفر نجاح قوى تونسية أخرى في نيـــل ثقــــة الشعــــب ولن تتوانى في دفع الوطن إلى الهاوية والإفلاس لمجرّد إثبات أن الشقّ المنافس الذي يتقاسمون معه نفس الوطن ونفس المصير، فاشل وليس جديرا بالحكم وأن الناخب لم يرتقي إلى الرشاد حيث أخطأ وخاب ظنه بأن منح الحكم لسواهم. وهم فوق كل ذلك، يختلقون الأعذار ولا يريدون التريث إلى الموعد الانتخابي القادم الذي بات على الأبواب، كي لا يُمنح  الشعب القاصر فرصة أخرى لتكرار حماقته كما يظنّون، حتى ولو أدّى ذلك إلى فراغ دستوري وأدخل الوطن في فوضى تُنبأ بصَوْمَلة بلادنا أو بَلْقَنَتِها، ديدنهم في ذلك شمشون الجبّـــــار، عندمـــــا قـــــال: عليّ وعلى أعدائي. وبذلك نُدرك بما لا يدع مجالا للشك بأن كل ما نراه ونسمعه، لا يعدو أن يكون إلّا صراعا محموما على السلطة والثروة، والذي تتذيل فيه المصلحة العليا للوطن، قائمة اهتمامات الجهات المتدخّلة والمتداخلة. إذّاك نُدرك ونأسف لأن بن خلدون كان على حقّ وما زال كذلك فيما جادت به قريحته، حتى الجدل القائم حول استقلالية مؤسسات الدولة (قضاء، أمن، بنك مركزي، إعــــلام، إدارة، إلخ.) والذي صمّ آذاننا وساهم في مزيد توتيـــر الأجــــواء في ربوعنا، هو في حقيقة الأمر حقّ أُريد به باطل وهدفه الحقيقي غير المُعلن، هو التمويه على الصراع القائم بهدف السيطرة على مواقع السلطة بين القوى الصاعدة والقــــوى الآفلــــة. ولا يُستثنـــى من ذلك حتى الخلاف الذي أقضّ مضاجعنا حول تضمين الشريعة  في الدستور، فهو علاوة على أنّه صراع حول التوجّه الإيديولوجي الذي ستُحدّد على أساسه عقيدة دولتنا والنمط المجتمعي لبلادنا، إلّا أنّه بالتأكيد أيضا، صراع حول سلطة التشريع التي يُدافع رجال القانون الأشاوس من أجل الاحتفاظ بها كمصدر استرزاقهم وتأثيرهـــم القوي في الدولة والمجتمع بينما يريد فقهاء الدّيــــن استرجاعهــــا خالصـــــة وبدون منازع، بعدما أُنتزعت منهم قسرا يوم نُكبت البلاد بإغلاق جامع / جامعة  الزيتونة المعمور وتهميش دوره، وإجبار مشايخه وعلمائه الفطاحل على الاسترزاق بمهن وضيعة، لم يُستثني منها حتى تسريح المجاري. 
يُعدّ الفصام من بين العلل المستشرية في مجتمعنا، وهو مرض يصيب عدداً من وظائف العقل ويجعله يضطرب في تحديد العلاقــة مع الواقع وتكوين المفهوم. يتجلى هذا المرض العقلي في جملـــة من الأعراض لعلّ أبرزها: 
◄ اضطراب التفكير، حيث يفقد المريض القدرة على التفكير بشكل واضح ومنطقي ومترابط ويؤدي ذلك إلى اقتناعه بأفكار غير صحيحة اقتناعاً تامّاً. فعقولنا تهيمن عليها وتحكمها الغرائز البدائية والعقد النفسية والشهوات الفاسدة والمعتقدات البالية والمصالح الضيقة والنزوات الشخصية، حتى تخال أحدهم بالنظر إلى تصرفاته وأفكاره وأقواله وخياراته، كأنه مسلوب اللبّ مُنتفي الوعي والإدراك. إذ كيف لنا أن نُفسّر سلوك شخص يدّعي أنه مُفكر إسلامي، يستهجن أمام الملأ إزعاج آذان الفجر للنيام أو نفسية أستاذ إسلاميّات يقذف أمّهات المسلمين على موجات الأثير أو دوافع سليل عائلة عريقة قدّمت لتونس أبرز مشايخها، يضع فيتو على كل إشارة للدين في دستورنا المُرتقب، مهما صغرت.
◄ اضطراب المشاعر أو عدم تناسب التفاعل الوجداني و التناغم الانفعالي والعاطفي مع الناس. نحن قوم نشعر ما لا نفكّر ونفكّــــــــر ما لا نقول ونقول ما لا نفعل. إذ كان الأمـــــر كذلـــك فـــلا غرابــــة في أن يستشري فينا الكذب والغشّ والنفاق والتحيّل.
◄ ضعف الإدراك، حيث يبدأ المريض بالبعد على الواقع ويؤدي ذلك به إلى تصوّر أشياء غير موجودة على أرض الواقع. نظرية المؤامرة على سبيل المثال، وإن كانت في بعـــض الأحيــــان حقيقة لا يُمكن إنكارها فهي لا تعدو أن تكون في أحيان أخرى، حيلة نخدع بها أنفسنا ونُقنع بها عقولنا المُتعبة والعاجزة عن استنباط الحلول، ونريح بها ضمائرنا التي تؤنبنا، بـــــأن المصائب التي تُحيـــــق بنا هي من فعل أعدائنــــا الحاقديــــن وليســـت من فعلنا وفعل إخواننا الحمقى.
◄ تباين السلوك، حيث يقوم المريض بسلوكيات غريبة لا تتناسب مع سنّه أو مكانته الاجتماعية أو مستواه المعرفي أو محيطه الثقافي أو القيم السائدة. نحن نرى المساجد تعُجّ بالمتعبدين الرُكّع السّجود، والطائرات لا تكاد تســـع المعتمرين والحجيج، ولكنّنا نبحث طويلا ولا نكاد نجد أثرا وصدى لمظاهر التدين تلك في واقعنا المجتمعي المُعاش. فأين مكارم الأخلاق، والعمل المتقن الجاد، والممارسات الإنسانية الرّاقية، ونظافة اليد والقلب والعقل واللسان التي يحثّ عليها ديننا الحنيف؟ أتذكّر في هذا السياق المثل التونسي الشعبي ”أَعْطِ الفَرْض وأُنْقُب الأرض“ كما أستحضر القولة الشهيرة للإمام محمد عبده عندما زار بلاد الفرنجة، بأنه وجد في أوروبا مسلمين بلا إسلام ووجد في بلاده إسلاما بلا مسلمين ! (إسلاما في مفهومه الحقيقي وجوهره ومقاصده وتجلياته وليس في شكله وتقاليده وطقوسه). من الغريب أن نرى أنّ هذا الفصام الذي نجده عند المحافظين منّا، لا يستثني أيضا الحداثيين من بيننا وإن اختلفت تجلياته بين أولائـــك وهـــؤلاء مع اقترانه عندهم بضحالـــة الفكـــر التــي تمنعهـــم من التمييز بين الشكل والقشــــــور التـــي يولونهــا كل العناية، والجوهر واللبّ الذي يُهملونه أيّما إهمال. فأدعياء الحداثة والتغريب من أبناء وطننا لا يُنَظِّرون البتة للطريقة التي تُمكّننا من اللحاق بركب الحضارة بتقليد الغرب في نظامه ونظافته وجودة منتوجاته ورُقيّ خدماته وتقدّمه العلمي وإبداعه الصناعي وجمال عمرانه وقوّة جيوشه وإخلاص عمّاله وإبداع مثقفيه وإنما يدافعون بكل شراسة واستماتة على نمطه المجتمعي وبالخصوص ما يتعارض فيه مع تعاليم ديننا من صراعات بين الطبقات والأجيـــال والجنسيـــن ومن علاقات خنائيـــــة ومعاقـــرة الخمـــور وحريـــة لا محدودة في اللبوس الفاضح والاستهتار بالأخلاق الحميدة والتعدّي على المقدسات وهتـــك الأعـــراض. في كل هذا تتجلى قدرة نُخبنا على اختلاق متاهات فكرية، تُلهي عقولنا عن مشاغلنا ومصالحنا الحقيقية وتؤجج الفتن والصراعات بين مكونات المجتمع دون أن تساهم حقيقة بالنهوض بمجتمعاتنا وإيجاد الحلول لمشاكلها المتعدّدة والشائكة.
◄ اضطرابات اللغة والكلام، حيث نلاحظ خللا واضحا في بناء الجملة الكلامية وفي إدراك مدلولات الألفاظ واستعمالها على النحو السليم. إن ثقافتنا يُمكن توصيفها بأنها ثقافة كلام وإنشاء وليست بثقافة فعل وعمل. نحن نعتقد أنّ مجرّد الحديــث عـــن الأشيـــاء هو في حدّ ذاته إنجاز لها وما اكتظاظ المنابر بأنواعها، ببائعي اللغط ومروّجي الجدل من ساسة وإعلاميين ورجال قانون وشعراء وكتـــاب وفنانيـــن إلا دليـــل على ما أقول. أرأيتم  يوما منبرا للمهندسين يتداولون فيه كيفية إلحاق تونس بالبلدان المصنّعة أو حوارا تلفزيا يُناقش فيه العلمــاء تطويـــر البحــث العلمــي في جامعاتنا أو ندوة لعلماء النفس والاجتماع يقترحون فيها حلولا لمشاكل مجتمعنـــا؟ حتى حســـن الكــلام الذي برع فيه أجدادنا، بمـــا جـــادت بــــه قريحتهــم من روائع الشعر والأدب بدّلناه بلغة ركيكة،هجينة ولقيطة تمتزج فيها عديد اللغات، وبدّلناه بفحش الكلام الذي استشرى فينا كما تستشري النّار في الهشيـــم ولم يُستثنى من ذلك حتّى الأطفال منّــــا. مــن الغريــب أن تسمع الشاب يصف صديقه على مـــرأى ومسمــع من المارّة على قارعة الطريق، بأقـــذع الأوصـــاف التي يندى لها الجبين وهو يضاحكه وكأنّه يسمع مديحا وكأن معاني الكلمات قد قُلبت فـــي إدراكـــه رأســا على عقب. إذا سلّمنا بأنّ الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، وإن كانت الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثــة، فلنا أن نقدّر كم نزرع بألسنتنا من أحراش الشرّ والخبث كل يوم بينما نمتنع عن زرع جنان الخير والطيب.  
يُعاني مُجتمعنا أيضا وعلى نطاق واسع  من التوحّد. هذا المرض الذي يَحُدّ من قدرة المخّ على استيعاب المعلومات ومعالجتها بطريقة مُرضية ويؤدي إلى حدوث إعاقة عند الفرد، تمنعه من التواصل والتجاوب مع الآخرين ومن اكتساب وتطوير مهارات السلوك الاجتماعي عنده. التونسي يتصرف عادة، وكأنه يُعمّر كوكب الأرض هذا لوحده، فهو لا يكترث البتّة من تأثير ما يأتيه من أقوال وأفعال على من يُحيط به من الناس ولا يُعامل الغيـــر بنفـــس الطريقــة التي يرتضيها لنفسه. نُلاحظ هذا جليّا في حياتنا اليومية عندما يُلقي الجار قمامته أمام باب جــــاره، وعندمــــا لا يستنكــــف أحدهـــم من أن يوقف سيارته في وسط الطريق العام ويعيق حركة المرور ويضرّ بمصالح الناس، أو عندما نقف في الطوابير مُتسلحين بالصبر حتى يأتى أحدهم و يقفز على دور الآخرين متسلحا بنزق ووقاحــة قلّ نظيرها وغير آبه باحتجاجات الآخرين. هذا التوحّد الذي يسم تصرفاتنا، نلاحظه أيضا في عدم قدرتنا على الإصغاء لبعضنا، فسريعا ما يتحوّل التواصل بيننا إلى نقاش بيزنطي أو لحوار للصــمّ لا يَسمع فيه كلّ مُتدخّل إلاّ صياحه ونفخه ونفثه ويعتمد فيه كلّ مُحاور على حُجّة القوّة بدلا من قوّة الحُجّة للحطّ من شأن مُحاوره والاستهزاء به وإبراز حَماقته وقصــور فهمــــه وعـــدم إطلاعـــه ولا يُستثنى من ذلك إستعمال الألفاظ النابية والتعابير السوقية البذيئة وحتى قبضات الأيدي كما شهدنا ونشهـــد فــي الحـــوارات التي تُتْحفنا بها التلفزة الوطنية وحتى أثناء المداولات تحت قُبّة المجلس التأسيسي. عدم قدرتنا على التواصل البنّاء وإخلاص النية، يجعل اجتماعاتنا لا تخرج بنتائج عمليّة وقرارات واضحة تُلزم الجميع وتجعلنا لا نَقْدر على العمل الجماعي المتكامل لتحقيق هدف مشترك، بالرّغم من أنّ هذا هو السبيــل الوحيـــد الـــذي يمكّننـــا من تحقيق الإنجازات. 
تعاني مجتمعاتنا أيضا من فشلها الفكري والقيمي في خلق واستنباط الآليات أو ما أُصطلح علـــى تسميتـــه بالمصعــــد الاجتماعـــي، والذي يسمح بالارتقاء والبروز والرّيادة لمن هو أرسخنا علما وأرجحنا عقلا وأحكمنا رأيا وأقوانا حُجّة وأطيبنا معشرا وأصدقنا قولا وأرفعنا أخلاقا وأنفعنا للناس وأحرصنا على الصالح العام عوض أن نهاب ونقدّر ونرفع من هو أكثرنا جهلا وأسخفنا رأيا وأسلطنا لسانا وأكذبنا رواية وأحطّنا أخلاقا وأخبثنا طبعا وأعنفنا ممارسة وأقدرنا على الأذى. نحن قوم لا نكنف من أن نرفع أشرارنا ونحطّ من شأن أخيارنا ويصحّ فينا ما يقال عن الشعوب التي تصنع سفّاحيها، حيث نجنح في الكثير من الأحيان إلى أن نوكل أمورنـــا إلى أراذلنا وأشرارنا ونقصي من هم أشرافنا وأخيارنا.
من السلوكيات المشينة والشائعة في ربوعنا، أنّ تحقيق وإثبات الذّات يمرّ عبر إلغاء وتحطيم الآخر، وبالفعل فأن التونسي يبذل الغالي والنفيس ولا يدّخر جهدا في إفشال مشروع منافسه التونسي، وإرباك سعيه نحو الأفضل، والحطّ من قيمته ومستواه ما استطاع لذلك سبيلا، وذلك لكي يضمن نجاحه ويُبرهن على تميّزه ويشعر بتفوقه أمام غيره، شعاره في ذلك: أنا أضرّ فأنا موجود. حتى ولو استجاب القدر لأحدنا وأدرك النجاح بالرغم من كل العراقيل، فسيكون من شبه المستحيل أن ينعم به ويفرح، إذ أن الذين يحيطون به لن يألوا جهدا في اختلاق المُنغِّصات وافتعال المشاكل حتى لا يتذوق طعم نجاحه ولو للحظة. أروي لكم في ذات السياق، قصّة ذاك الأب التونسي وهو يعظ ابنه أُسوة بلقمان الحكيم ويقول: يا بني أخوك التونسي قادر على أن يتجاوز عن كل أخطائك ويغفر لك كل زلّاتك مهما عظمت وتراكمت إلّا نجاحك فهذا لن يغفره لك أبدا. الكثير منّا مع الأسف لا يشعر بالنعمة ولا يستسيغها ولا يتمتّع بها إلّا إذا حُرم منها أخاه. وهنا يحقّ السؤال: أين نحن من أنّ أحدنا لن يؤمن حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّه لنفسه؟ تخيلوا للحظة كم سنجني من الخيرات والمكاسب وكم سنرتقي ونتقدم إذا حاول كل موظف أن يكون أفضل من منافسه في العمل، وإذا أسدت كل شركة، خدمات أرقى وصنّعت منتوجات أجود من تلك التي تقدّمها الشركة المنافسة، وإذا اجتهد كل حزب سياسي وقدّم حلولا أفضل للنهوض بالبلاد من تلك التي يقدّمها الحزب المنافس وإذا وجّهنا  كل المجهودات نحو كلّ ما هو بنّاء ومفيد عوض أن نبرع ونُبدع في كلّ ما هو هدّام ومُضرّ،  وإذا كرّسنا جهودنا للارتقاء إلى الأعلى عوض أن يُجرجر كلّ منّا، الآخر نحو الأسفل. 
تشوّش المنظومة القيميّة عندنا بسبب تعدّد التأثيرات الخارجية من الشعوب المتعدّدة التي دالت على أرضنا وتداولت علينا قبل أن تمضي تاركة فوضى ثقافية وإيديولوجية تحول بيننا وبين تحديد هوية وطنية مُحدّدة المعالم ومُكتملة الجوانب، وتجعلنا لا نفكّر بشكل متجانس ولا نقيّم  المصلحة بنفس الطريقة ولا نتبنّى نفس السلّم القيمي ولا نعمل في نفس الاتجاه ويصدّ البعض منّا مجهودات وتوجهات البعض الآخر.
يُخبرنا تاريخنا السياسي بأن التداول على السلطة في محيطنا الثقافي العربي، لا يتم عادة إلاّ بشكل عنيف ودام، فكتب التاريخ المعاصر منه والقديم، مُفعمة بأخبار الخيانات الداخلية والانقلابات العسكرية والمؤامرات النُخبوية والثورات الشعبية والحروب الاستعمارية. تلك هي القاعدة مع الأسف وما يَشُذّ عن ذلك إلاّ ما قلّ وندر، على غرار ما حدث عندنا في 23 أكتوبر 2011. هذا يترتّب عليه أنّ المُرتقي لسدّة الحكم ينزع بشكل تلقائي إلى إلغاء من سبقه بتوفيقاته وإخفاقاته، ويجعلنا في كل عهد حكم جديد، نعيد اختراع العجلة ونراوح مكاننا حضاريا، بأن نهدم ما بناه أسلافنا ونعيد الكرّة من جديد، بدل مواصلة البناء على أسس من سبقونا إذا ثبتت صحتها. وقد كنت سابقا تناولت هذا الموضوع بالتحليل ، في مقال نُشر باللغة الفرنسية تحت عنوان: أسرار حضارة، وقد تطرق في فحواه إلى أن الاستمرارية الفكرية للحضارة الغربية، منذ أيام الإغريق القدماء إلى يوم الناس هذا، هي من أبرز السِّمات التي أسهمت في تفوّقها وديمومتها. هذا بالإضافة إلى قدرتها على تصحيح مسارها وتكييف نفسها ذاتيا دون أن تفقد جوهرها، متماهية في ذلك مع مقتضيات مجريات الأمور عبر الأزمنة والعصور، الشيء الذي يجعل الأجيال المتعاقبة على امتداد آلاف السنين كل منها يواصل ما بني أسلافه حتى توصلوا لبناء صرحهم الحضاري كما نشهده اليوم.
وعلاوة على ذلك فنحن لا نعير بالا ولا نُقيم وزنا لفهم الأسباب الحقيقية لواقعنا المُزري وأحوالنا المقيتة ولا يهُمّنا تشخيصها الجدّي وإيجاد الحلول الحكيمة والطرائق العمليّة الكفيلة بتجاوز مشاكلنا الحقيقية ونقائصنا المتعدّدة وتحقيق المصلحة دون جلب المفسدة ولكنّا في المقابل لا نألو جهدا في البحث، وخصوصا في صفوف من يخالفنا الرأي والانتماء من بني جلدتنا، عن المُتسببين المُفترضين في مصائبنا لنُنكّل بهم ونُنزل بهم أشدّ العقاب أو على الأقل ولكي نكون متناغمين مع مبادئ حقوق الإنسان كما فهمناها، نُشهّر بهم ونصفهم بأقذع النعوت ونكيل لهم من الشتائم ألونا ونتّهمهم بأبشع الجرائم ونفبرك لهم قضايا كيدية وزلاّت أخلاقية ولا نرعى فيهم إلاّ ولا ذمّة. إذا نجحنا في ذلك، تنتشي بنخوة الانتصار أفئدتنا، ويُشفي غليلنا، وترضي ضمائرنا، ونَخْلُد إلى نوم العادلين، مُعتقدين بأنّنا أخلصنا النيّة لهذا الوطن وقمنا بالواجب وزيادة، ويتلاشى المشكل في وعينا وإدراكنا كأنّه لم يوجد على أرض الواقع أبدا. من المُضحكات المُبكيات ومن غرائب الأمور عندنا، أنه وكلمّا أِنبرى أحد المخلصين الصادقين منّا، ونبّه إلى موقع الخلل أو أشار إلى موطن الزلل، عُومل بقسوة وفضاضة وأُنزل به أشد ّ العقاب وكأنه المُتسبب في الخطأ والمسؤول عنه. ففي إدراكنا المعكوس، يكون المسكوت عنه كأنْ لا وجود له، فمن تجاسر وتطرّق إليه وأخرجه إلى دائرة الضوء فكأنّما أخرجه من عدم وأوجد ما لم يكن ولذلك فهو يتحمّل وزره وتبعاته.
 هذا غيض من فيض وما خفي كان أعظم، فهل من مُدّكر؟ 
—————-