للنقاش

بقلم
د.مصدق الجليدي
الحركة الإسلامية بين الدعوي الديني والدعائي السياسي

قضية العلاقة بين الدعوي والسياسي لدى حزب حركة النهضة أجّل النظر فيها السنــــــة الماضيــــة إلى مؤتمر قادم قد ينعقد بعـــد سنـــة أو تزيــــد. وإذا ما كانت الحاجة إلى الفصل بيـــن هذيـــن الأمريــــن من وجهة نظر غيـــر الإسلامييــــن بّينــــة بذاتهـــا، فإن السؤال الذي يطرح هو حول الحاجـــــة إلى طرح هذه القضية من داخل النهضة ذاتهـــا، وهي المنتفعة على ما يبدو بهذا التداخل بين الهويتين والوظيفتين الثقافية الدينية من جهة والسياسية المدنية من جهة ثانية؟ الانتفاع كما هو ظاهر يتمثل في العـــزف علـــــى أوتــــار العاطفـــة الدينيـــة التي يشترك فيها النهضويون التاريخيون (الجماعة الإسلامية فالاتجاه الإسلامي سابقا) مع السلفيين ومع عدد هام من عامة التونسيين. كما يتمثل بالمناسبة ذاتها في استغلال الفضاء المسجدي لإنتاج الخطاب السياسي الحزبي النهضوي، بالتوازي وأحيانا بالتداخل مع الخطاب السلفي، وترويجه ضد خصــــوم النهضــة بأنواعهـــم. وهذا مما لا نسمع بــــه بل ممــــا نسمعـه باستمـــرار. وإذا كان الدافع إلى التعبير عن ضرورة مراجعة هــــذا الوضــــع منذ حوالي سنة مضت، أي خلال المؤتمر الأخير للنهضة الذي قرر تأجيل النظر فيها إلى مؤتمر استثنائي قادم، إذا كان هـــذا الدافــــع هو على ما يبدو حجم الإحراج السياسي الذي بدأت تشعر به العناصر الشابة والمعتدلة في النهضة، بحكم تعــــارض المــــزج بين الوظيفتين مع إرادة التوجه المدني الخالص في تجربة الحكم التي يباشرها الإسلاميون اليوم، فإن تأكيد رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي في حوار أجرته معه جريدة الصباح مؤخرا (الثلاثاء 12 مارس 2013) على أن هذا الموضوع سيعاد طرحه بصفة رسمية في مؤتمر النهضة القادم، والضغط المتجدد من تلك العناصر المعتدلة في هذا الحزب ذي الخلفية الإسلامية باتجاه هذه المراجعة، هذان الأمران يمكن أن يفهما على خلفية الأحداث والتطورات الأخيرة الحاصلة في البلاد والتي كانت النهضة على صلة بها بشكل أو بآخر، وهي أحداث اتسمت بالتوتر والعنف واتجهت الاتهامـــات فيهــــا إلى خطــــاب التحريـــض النهضــــوي والسلفــــي المسجــــدي وإلى الزعامات المحسوبة على شــــق الصقــــور في النهضـــة، هذه الزعامات التي يتجسد من خلال حضورها في الفضاء العام التداخل التام بين الدعوي الانفعالي الديني والدعائي التعبوي السياسي، نذكر على سبيل المثال الحبيب اللوز والصادق شورو، إضافة إلى الزعيم التاريخي للنهضــــة الشيـــخ راشد الغنوشــــي الذي تتكاثر الدعوات له الآن للتفرغ للشأن الدعوي وطنيا ومغاربيا وعالميا.  كما يمكـــن أن يكون للعامل الخارجي تأثير على الإسلاميين للقبول بمناقشة هذه المسألة، بحكم الحرص على تقديم صورة الحزب المدني الحديث الجدير بالدعم والتعاون معه من قبل شركاء تونس الأوروبيين أو الغربيين بصفة عامة التقليديين منهم أو الجدد. وإسهاما بسيطا منا في هـــــذا النقـــاش الذي يُعدّ له والذي لا يخـــص في رأينا الإسلاميين وحدهم، بل يشمل أيضا كل المهتمين بالشأن العام في تونس، نقدم الأفكار النقدية التالية، بادئين بإعــــادة الطــــرح الفكـــــري الجــــذري للمسألـــة من خلال طرح السؤال: ما هي الفروق الجوهرية بين علوم السياسة وعلوم الدين أو بين السياسيّات والدينيّات؟ من الواضـــح أن الجامع بينهما هو اشتراكهما في مجال التدخل العام ألا وهو المجال العملي، فهي جميعا ليست بالعلــــوم النظريــــة الخالصــــة، بل همّها جميعا السلوك والعمل. هي لا تبحــــث عن تفسير للواقــع بل تبحث عن تغيير له. ومع ذلك فهنالك اختلاف أساسي بينهما، وهو أن أحدهما يستند إلى المطلق (وهو الديــــن) والآخر يستنــــد إلى النسبي (وهو السياسة). وهذا ما يفسّر الفشــــل في تحول الداعية الديني إلى رجل ديمقراطي حقيقي. الداعية يدعو إلى ما يعتبره حقا مطلقا وخيرا مطلقا، ويعتبر من يخالفه عنهمـــا ضـــالا أو كافرا أو زنديقا، بينما داعية السياسة يقــــدم بضاعــــة يجتهد في تزيينها وعرضها كأحسن ما يكون، ثم يترك للناس حرية اقتنائها أو الإعراض عنها. مع داعية الدين المخالــــف غيـــر متديــــن وغير معترف به، ومع داعية السياسة المخالف يظـــل سياسيـــا وهو معترف به ويمكن أن يكون ديمقراطيا مثله مثل المعارض لــــه أو المختلف عنه. 

وإن وجها من وجوه التوتر القائم في علاقة الإسلاميين بالسلطة عائد إلى هذه العقلية الدعوية الدينية المهيمنة على الوظيفة الدعائية السياسية في خطابهم اللاهوسياسي (اللاهوتي-السياسي).وهو ما يبرز في حالة التوتر والاستنفار الدائمين في ذلك الخطاب الذي تكون له في عديد الأحيان امتدادات مادية عنيفة بدرجة أو بأخرى وبشكل أو بآخر.

  والنتيجــــة العمليـــة التي يمكــــن استخلاصهــــا من هذا كله هو ضرورة انفصال الحركة الدعوية الثقافية الإسلامية عن الحزب السياسي المدني لدى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، كمـــا هو حاصــــل في تجربة الإسلاميين السياسية في المغرب أو في تركيا على سبيل المثال. فإذا ما نجحت هذه الحركـــات في هـــذه المهمـــــة المدنية فائقة الأهميــــة (حركــــة النهضـــــة أساســــا) من دون مطالبتنا لها مع ذلك بالتخلي عن عمقها القيمي والحضاري العربي الإسلامي مُتأوَّلا على نحو ما، فستكون قد استجابت لا فقط لحاجة أكيدة لها لضمان تطورها وترسيخ قدمها في ساحة الفعل السياسي وتوسيع دائرة القبول الشعبي المدني بها، بل ستكون مستجيبة في ذلك لحاجة وطنية عامة في بناء تصالح تاريخي كبير بين الدولة والدين في إطار السلم الأهلي والرقي المدني مع بعد حضاري وعمق روحي لا يمكن لهذا الشعب التفريط فيهما !