نقاط على الحروف

بقلم
د. مصباح الشيباني
ذكرى يوم الأرض في فلسطين والحكام العرب المتآمرون دائما

   المقدمة:

  إنّ المتتبّع للتحولات التي تعيشها المنطقة العربية منذ سنتين يلاحظ دون عناء ، على الرّغم من أن بعضنا يحاول أن يغمض عينيه عن الحقائق الصارخة التي نراها يوميا أمام أعيننا، أنّ الغرب الذي أذاقنا مرارة الاستعمار وما يزال يفرض هيمنته علينا بشتى السّبل والوسائل، قد كانت علاقة حكامنا العرب معه علاقة ”التآمر“، وأخطر هذه المؤامرات التاريخية تمثلت في إقامـــة دولــــــــة ”إسرائيــــل“ في فلسطين العربية ودعمها عبر المال والسّلاح لضمان تفوقها في المنطقة، والعمل كذلك، على تصفية كل القوى والأنظمة العربية الوطنية التي وقفت بشكل أو بآخر أمام أشكالها الاستعمارية القديمة والجديـــدة في الوطن العربي.
ولعلّ ما يحدث الآن في وطننا العربي مـــــن أحــــداث خير دليل على أنّ الدول الغربية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مازالت متحكمة وتقود حكامنا القدامى منهم والجدد على حد السواء للتفريط في كل شيء للعدو الصهيوني حتـــــى فــــي شرفهـــم إن كان لهم شرف. لهذا، فإن فهم مآل المشهد الفلسطيني ونحن نُحيي الذكـــــرى 37 ليــــوم الأرض لا يمكن أن يكون واضحا إلا بفتح ”ملف“ خيانة النظام العربي الرّسمي للقضية العربية قبل اغتصاب الأرض المقدّسة وبعدها من قبل العصابات الصهيونية.
 
1ـ فلسطين..روح الأمة الممزّقة
 
   لقد سلكت الحركة الصهيونية منذ ”وعد بلفـــور“ في 02 نوفمبر عام 1917 تنفيذ خطة استراتيجية واضحة لتهويد فلسطين عبر مقولة ”ما أصبح في يدنا هو لنا، وما يزال في يد العرب هو المطلوب“.
ولتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، تحالف العدو الصّهيوني مع الإقليمية العربية قبل قيام دولة ”إسرائيل“ وبعده. ومنذ عشرينيات القرن الماضي، طرحت عديد المشروعات والمبادرات للتّسوية وللتفويت في الأرض العربية في فلسطين وفي غيرها مــــن الأقطـــــار العربيــــة. وبــــدأ التّطبيـــل والتهليل ـ عبر مختلف وسائل الدعاية ـ من قبل النّظام العربي للتعايش السلمـــــي مــــع المستعمريــــن. وقد انطلـــق هذا المشروع الاستسلامي منذ أن كانت فلسطين خاضعـــــة إلى الانتــــداب البريطانــــي إثر الحــــرب العالمية الأولى عـــــام 1918.
لم تكن هبّة الشّعب العربي فــــــي فلسطيــــن المحتلـــة يوم السّبت 30 مارس 1976 مصادفة، بل كانت وليدة تأزم الوضع الذي أصبح يعانيه الفلسطينيون في ظل سياسة التهويد الذي سلكه الاحتلال الصهيوني منذ عام 1948.
فقد قاوم الشّعب العربي في فلسطين سياسة التّهويد والاستيطــان على أرضهم منذ قيام ثورة البراق في 22 أوت 1929، وتكرّرت مرة أخرى إثر اندلاع ثورة 15 أفريل 1936 عندما شكلت بعض القوى الفلسطينية ”اللّجنة العربية العليا“ التي قرّرت الإضراب العام وطالبت بتحقيق الأهداف التّالية:
1ـ إيقاف الهجرة ومنعها منعا تاما،
2ـ منع انتقال الأراضي العربية لليهود،
3ـ إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب.
لقد استخدم الاستعمار البريطاني جميع أنواع القوة وآليات القمع لإخماد هذه الثّورة، لكنّه لم يفلح في ذلك، فالتجأ إلى الحكّام والملوك العرب بهدف الضّغط علــــــى الفلسطينييــــن والعــــرب، فأصـــدروا نداء يوم 8 أكتوبر 1936 جاء فيه:”لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبدالله ندعوكم إلى الإخلاء إلى السّكينة حقناً للدّماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل“. فهذا البيان الصّغير استطاع أن ينهي ثورة دامت ستة أشهر.
  لقد تعلمنا من دروس التّاريخ أنّه في جميع معارك التحرّر الوطني تشهد السّاحات الداخلية انقسامــــا عموديــــا بين قــــوى المقاومــــة وبين قوى المساومة. وغالبا، إن لم يكن دائما، لم يكن الخطأ الاستراتيجي لمصلحة المستعمرين في وطننا العربي هو الخطر الحقيقي على المقاومة الوطنية في فلسطين، وإنّمـا الخطـــــر يكمـــن في محاولات أنظمتنا العربية مواجهة أي حراك ثوري بدعوى اعتماد استراتيجية ”السياسة الواقعية“ أو ”سياسة المراحـــــل“، ولكنّهــــا في حقيقتها ليست إلا استراتيجية التّسويات العربية الرّسمية المُجهضة لنضالات الشّعب تحت الشّعار الذي أصبح مبتذلا بدعوى”إنقاذ ما يمكن إنقاذه“، ووضعه أمام أمرين كلاهما مــــرّا: إما اليأس والإحباط، أو قبول التّسوية غير العادلة مع العدو الغاصب لأرضنا.
وفي هذا الإطار يمكن أن نذكّر بالنّقاط التالية:
1ـ منذ انعقاد ”مؤتمر مدريد للسّلام“ (1991) أصبح العزف منفرداً، وأصبحت القوى الوطنية مفتّتة ومتصارعة ليس على الصّعيد العربي فحسب، وإنّما على الصّعيد الفلسطيني أيضا بين مؤيّد ومعارض للتّفاوض. وأصبح البعد القومي العربي للقضية الفلسطينية شبه غائب في الكتب والبرامج المدرسية وفي صفحات الصّحف والفضائيات العربية الخاصة منها والعامّة. وهو مؤشّر يدل على التّجاهل المتعمّد من قبل الغرب الاستعماري والأنظمة العربية المتواطئة معه لروح القضية الفلسطينية والعمل على تبخيسها وتحقيرها لدى المخيال الاجتماعي والسّياسي العربيين. والأمر ذاته بالنسبة إلى الاهتمام بقضايا الأحداث الجارية في المجتمع الإسلامي والمذابح التي ترتكب يوميا ضد الأبرياء من أبناء هـــــذه الأمــــة في مختلف المواقع والسّاحات في العالم.
2ـ  يعرف الجميع أنّ الحكام العرب لما قبلوا مفاوضات ”السّلام“ مع العدو الصهيوني وذهبوا إلى ”مدريـد“ لم يكونوا ضعفاء مثل اليوم، بل إنّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى (8 ديسمبر 1987) هي التي دفعت بـ ”دولة إسرائيل“ إلى طلب ”السّلام“ لكن توقيع ”اتفاقيات أوسلو“ عام 1993 أضعفت العرب والفلسطينيين وجرّدتهم من أهم قوّة في ذلك الوقت وهو ســـــلاح الانتفاضـــــة وعزلــــت المفاوضيــــن أو ”المستسلمين“عن البيت العربي، أي حوّلت القضية الفلسطينية في رأي هؤلاء المتآمرون من قضية عربية إلى قضية فلسطينية. وهكذا أضاعت مفاوضات ”أوسلو“ المسار الصحيح لحـــــل هـــــذه القضيـــــة وهو جعلها القضيـــة المركزيـــــة للعـــــرب جميعـــــا. ولكن من المؤسف أن نتائج ”مفاوضات أوسلـــو“ كانت استسلاما وانهزامــــــــــا للعــــرب المفاوضيــــن وغير المفاوضين معاً. 
 
  2ـ النظام العربي وسلاح الاستسلام
 
  منذ سنة 1970 بدأت الهزائم الكمية أمام العدو الصهيوني تتحول إلى هزائم كيفية أو نوعية، وبات الحراك الشعبي العربي وقواه المقاومة يواجهان تحديا لإخراجهما من العمل السياسي، ووضعهما بين فكّي كمّاشة الأنظمة العربية الرجعيّة والهجمة الاستعمارية الغربية والصهيونية. ودخلنا في مرحلة التعايش السّلمي العلني بين أنظمتنا الإقليمية وبين العدو الصهيوني، ويحاول النظام العربي تأسيس ثقافة القبول بالأمر الواقع. وأصبح الهدف الاستراتيجـــي لهذا التحالف العلني احيانا والمتخفي أحيانا أخـــرى هو إجهاض أي حراك شعبي عربي أو فلسطيني مقاوم للعدو وقمعه استجابة للضغوط الخارجية أولا، وتحسبا من تداعياته في السّاحات العربية الأخــــرى ثانيـــــا. ولتحقيــــق هذه الأهداف اعتمد كلاهما ـ الحكام العرب والصهاينة ـ جميع أصناف الحملات والتشويه الإعلامي والثقافي لطبيعة الصراع القائم بيننا وبين الصهيونية، ومحاولة إظهاره على أنّه صراع حدود وليس صراع وجود. 
لقد انخرطت أغلب الأنظمة العربية التي قبلت مسرحية ”المفاوضات“ مع العدو ووفق شروطه في النكبــــــــة العربيــــة في فلسطين، وأصبحت حليفا رئيسيا في تصفية المقاومة العربية والفلسطينية بالاغتيالات لرموزها تارة وبالسّكوت عن حروب الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها الأرض العربية في فلسطيــــن وفي غيرها من الأقطار العربية تارة أخرى. فعندما نقرأ اتفاق ”أوسلو“ في العمق يتضح أنه اتفاق إذعان من قبل قيادة عربية مسكونة حتى النّخاع بثقافة الهزيمة والاستسلام، وباتت مشغولة فكرا وممارسة بالدّفاع عن مصالحها الذاتية والعمل على مراكمة ثرواتها ولو كان على حساب طموحات شعوبها. 
ويبدو أنّ حتى الحكومات الجديدة في تونس ومصـــــروالمغـــرب، التي يدّعي بعض زعمائها أنّهم من أنصار الحق العربي في فلسطين وأنّهم من المدافعين عن عروبة القدس وإسلاميتها، قد أعمتهم مصالحهم الحزبية الضيقة ومنعتهم من الإدلاء بأي موقف أو إصدار أي بيان سياسي يندّد بالحرب الصهيونية على غزة عــــام 2012. ولم يكلفوا أنفسهم إلا بالقيام بزيارات تضامنية مع شعبنا في غزة .
إذاً، منذ توقيع اتفاقيات ”كامب ديفيد“ بين مصر والكيان الصهيوني عام 1979، ثم مع اتفاقيات وادي عربــــة بين الأردن والعــــدو، ومن خلال تبادل التمثيل الدّيبلوماسي مع النّظام المغربي وموريتانيا وأخيرا مع اتفاقيات ”أوسلو“ عام 1993، وعبر افتتاح مكاتب تجارية في أكثر من قطر عربي آخــــر، كــــل هــــذه الاتفاقيــــات هي على غاية من الخطورة تمت من قبل النظام العربي الرّسمـــي في اتجاه المزيد من التنازلات عن الحق العربي في مقاومة الاحتلال الصهيوني، ومحاولة يائسة منه في وضع النّهاية الحاسمة لصراعنا معه، وكذلك الإسراع في بناء مشروع إقامة دولة ”إسرائيل الكبرى“ ومنحها مشروعية احتلالها للأرض العربية بأيد عربية. 
———————-