مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
الاندماج والتنمية الاقتصادية

 شكل موضوع الاندماج بين الدول وعلاقته بمسار التنمية عموما ومسار التنمية الاقتصادية على وجه الخصوص احد اهتمامات الباحثين و كذلك رجال السياسة منذ عقود من الزمن.

ولعل ضيق أسواق بعض الدول وضعف قدرة اقتصاديات البعض الآخر على خوض غمار المنافسة الدولية وكذلك ما حققته بعض الدول في مجال الاندماج خاصة في القارة الأوروبية وما له من اثر فعــــــال على المستوى التنموي كــــان وراء إفــــراز الكثيــــر من الأفكار لــــدى عـــدد هـــــام مـــن الأكاديمييــــن المهتمين بالشأن التنموي وشجع الكثير من صناع القرار على اخذ الكثير من الإجراءات في اتجاه الاندماج.
ويمكن القول بتعدد التفسيرات لهــــذا الاندمــــاج والتي تنطلق مــــن عوامــــل اقتصاديــــة تجاريــــة وغير تجارية وكذلك من اعتبــــــارات إستراتيجيـــة وكذلك سياسية لكن كلها تستند إلى البحث عن حسن التصرف حين انفتاح الاقتصاديات الوطنية على العالم.
فالبلدان مدفوعة بقناعتها بأهمية التكامل الاقتصادي مع آخرين وكذلك بخلق بيئة مشجعة لانفتاح اقتصادياتهــــا عبـــــر تخفيـــض الآداءات الديوانيـــة وأيضا بسهولة إقامة إطار للتعاون السياسي والاقتصادي والاجتماعي في إطار جهوي نظرا لتوفر عناصر التناغم لدى المنخرطين في عمليـــة الاندمـــاج و قلة عددهم كل ذلك بهدف تحرير حركة رؤوس الأموال. فاستراتيجيــــا تكــــون المفاوضـــات ثم إقرار الاتفاقيـــات وتحقيقهـــا على أرض الواقــــــع أكثر سهولة في إطار جهوي منه في إطار متعدد كمنظمة التجــــارة العالميــــة (OMC) لذلــــك يمكــــن القول بان الجهوية (Le régionalisme) معوض للتعددية (  multilatérisme ) كما يمكن الإطار الجهـــــوي من تثبيت الإصلاحات الداخلية التي تتخذ على الصعيد السياسي ويدعّم كل توجه نحو تحقيق الاستقرار كهدف استراتيجي ويصبح لمجموعات الضغط سلطة تفاوضية أقوى، وبذلك تتوفر بعض شروط التوازن بين مختلف مكونات المشهد العام.
وإذا كانت البلدان السائــرة في طريــــق النمـــو تبحث من خلال اتفاقيات الاندماج الجهوي على ولوج أسواق وتامين مستلزمــــات إنتاجهــــا وجلـــب الاستثمــارات وكذلك تقوية سلطتهــــا التفاوضيــــة على الصعيد الدولي، فإن القوى العظمى تندمج فيما بينها لتضع أطرا ومعايير تتلاءم بشكل أفضل مع السياق الاقتصادي للعولمة مع تفضيل الإصلاحات المواتية وبالتالي تمكينها من تمدد مجال نفوذها وتأثيرها. 
ومن نتائج ذلك الاندماج انه يؤدي على الصعيد الجهوي بين البلدان إلى التخفيـــــض مـــــن التوتـــر بين الدولة والسوق نظرا لما يوفره للاثنيـــــن معــــــا من إمكانيات إضافية وآفاق أرحب للفعل والقرار ويساهم بالتالـــي في خلق مجال تعديل جديد يخفف على الدولة مهمتها التعديلية . 
تاريخيا عرف الاندماج أربعة حقبا ت كان عنوان الأولى ”الوحدة القمرقية“ أو الديوانية ووصفت الثانية بـ”الحمائية“كما  نعتت الثالثة  بـ”الدفاعية“ أو ”المغلقة“ أما الرابعة فتلك التي عرفناها منذ أكثر مــــن عشريــــــــن سنـــــة وهي ذات طبيعــــة مزدوجــــة جمعت بين الكمي والنوعي وتميـــزت بدخــــول حيـــز التطبيــــق لكثيـــر من الاتفاقيـــات التي عقـــــدت تحت إطــــار ”القــــات“ GATT)) مــــن سنـــــة 1945 إلى سنـــــة 1995 ثـــم ”منظمة التجارة العالمية“OMC)) والذي بلـــــغ عـــــددها 147 اتفاقــــا بين 1995 و2006 .
ولعل أهم ما لفت الانتباه في هذه المرحلة التنوع وكذلك تزايد مجالات التطبيق فشمل الاندماج من جهة بلدان الجنوب فيما بينها وسمّي ذلك بـ”الاندماج الأفقي“ ومن جهة أخرى بلدان من الشمال مع بلـــــــدان من الجنوب من جهة أخرى والذي أطلق عليه وصف ”الاندماج العمودي“.
 لقد أصبح الاندماج ملاحظا في جميع جهات العالم وبدا بمنتديات بسيطة انتهت إلى اتفاقيات غير مسنودة كتابيا ثم وحدة اقتصادية مرورا بإقامة منطقة للتبادل الحــــرّ لتصل إلى الوحدة الديوانيــــــة ثم السوق المشتركة إلى أن عبرت قاطرة الاندماج إلى الوحدة النقدية كما هو الحال بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي.
وإذا أردنا الوقوف عند حقيقة الاندماج فسنعرف انه مسار يتجاوز إجراءات إلغاء العوائق الحدودية أمام مبادلات السلع والخدمــــات بين البلدان ليصل إلى تناغم في المعايير وكذلك في الأطر التنظيمية والقانونية للتخلص من الإجراءات والمعايير التجارية  المختلفة من بلد إلى آخر والتي تعيق تدفق رأس المال وانسيابية الرأس المال البشري في الاتجاهين و تشكل بالتالي عوائق  حقيقية أمام تزايد النشاط الاقتصادي وتنوعه .
إن اندماج اقتصاديات شعوب دول الشمال الإفريقي في هذه المرحلة التاريخية وهي تتطلع للمصالحة مع جميع مكونات محيطها الجغرافي  دون الاكتفاء بالجهة الشمالية منه بات ضرورة تنمويــــة ملحــــة لأنه يضمن سعة في السوق بمختلف أنواعه (سوق السلع والخدمات وسوق الشغل وسوق المــــال ) وسعة في الرزق وذلك بما يمثلـــــه من مساهمة في توفير الاستثمار وإقامة المشاريع واستيعاب الطاقات البشرية و تقوية للقدرة التنافسية في عالم التكتلات المتميز بشدة المنافسة. 
كما أن هذا المثال من الاندماج الأفقي يحد من سلبيات الاندماج العمودي الحاصــــل بشكل غير متـــــوازن بين تونس مثلا والاتحاد الأوروبي و الذي استفاد منه الشمال أكثر مما استفاد منه الجنــــوب منذ عقــــود من الزمن كما يوفر فرصة لإحداث شيء  من التوازن بين ضفتي المتوسط على مستوى تبادل المنافع فضلا عن توفير الحد الأدنى من الحصانة للضفة الجنوبية أمام عدوى الأزمات التي باتت دورية لدى الضفة الشمالية وبوتيرة تصاعدية في ظل العولمة نظرا لما تقوم عليه من تحرر وانفتاح وترابط بين الأسواق خاصة التجارية والمالية منها.
كما يمثل هذا النوع من الاندماج حلا لبعض الإشكالات التي تطرحها العولمة فهو من جهة يحمي البلدان المندمجة من مخاطر يفرزها اقتصاد عالمي ما فتئ يندمج يوما بعد يوم كمخاطر عدوى الأزمات المالية والبنكية ومن جهة ثانية يمكـــــن دول هذه البلـــدان من الحفاظ أو على الأقل استعادة جزء من سيادتها التي تستهدفها العولمة. 
 وإذا استحضرنا بعض عوامل النمو الاقتصادي كوفرة الموارد الطبيعية والمستوى العالي من  رأس المال وأهمية عدد السكان يمكن لاندماج دول الشمال الإفريقي فيما بينها خاصة إذا حققنا بقية شروط ذلك النمو - من حالة تكنولوجية معتبرة وعقلية ابتكاريه متقدة وتنظيمات ناجعة ودرجة عالية من التكوين المهني ومستوى عال من الادخـــار والاستثمـــار...- أن يمنح نمونا الاقتصادي  نقطتين أو أكثر و ما يعنيه ذلك من توفير ما لايقل عن سبعيــــن ألف موطــــن شغل إضافي سنويــا نـــــرى أن مجتمعنـــا في أمس الحاجة إليها. 
ومن المعلوم أن التنمية تتطلب نموا لكنها لا تقوم عليه بمفرده فالنمو ضروري لإحداث تنمية لكنه غير كاف كما أن التنمية تفعل فعلها في النمو من الخارج كقوة محركة دائمة فهي المتغير الهيكلي الذي وجب توفيره.
إن مسار اندماج دول الشمال الإفريقي أصبح اليوم ميســـرا أكثـــر من أي وقــــت مضى وذلك لتوفـــــر مجموعــــة من العوامـــل الطبيعية واللغوية والثقافية وخاصـــــة السياسيــــة مما يساعــــد على إحداث تنميــــة اقتصاديـــة عبر إحداث ”تغييرات ذهنيـــة واجتماعية من شانها أن تجعل الشعوب أكثر  قدرة على الزيادة الدائمة لإنتاجها الحقيقي العام“ كما عرفها الاقتصادي الفرنسي فرانسوا بيرو منذ ستينات القرن الماضي.
ولعله من الضروري القول بأن الاندماج الذي يراد منه تخطي العقبات التي تحول دون تحقيق تنمية اقتصادية يتطلب بناء مقاربات مشتركة يتوافق عليها بلدان الشمال الإفريقــــــي في مجـــالات الاقتصــــــاد الكلـــــي وفي الجباية والماليــــة وكذلك التصـــــرف في الموارد الطبيعية المشتركة وفي الزيادة في نسق حركة اليد العاملة وتعديل تكاليــــف الإنتــــاج وحسن توزيــــع  المدخـــــول بين البلــــدان إضافــــة إلى إرساء شروط السلم واتقاء شر النزاعات فضلا عن الاستثمار المشترك في البنية التحتية الحدودية سواء بين تونس وليبيا او بين تونس والجزائر في مجال النقل والاتصالات والتيار الكهربائي وغيرها من المجالات. 
————————