بهدوء

بقلم
محمد القوماني
القرآن هاديا للعقل لا وصيّا عليه

 الخلافة..الرحمة..الشهادة..

 
تقوم النظرية التوحيدية الإسلاميـــة في الوجود علـــى الاعتقــــاد بأن الله خلق الإنســــان واستخلفـــه في الأرض. ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَــــةِ إِنِّــــــــي جَاعِـــلٌ فِــــــي الأَرْضِ خَلِيفَــــةً ﴾ (البقــرة/30). والاستخـــلاف في القرآن يعنـي إنابـة الله النــــوع الإنسانــــي لتعميـــر الأرض وإدارتها. ومن هنا تتــــأسس غائيّة الحياة  ومركزيّة الإنســــان على الأرض فــي هـــــذا التصـــور. لذلك لا ينفك القرآن يذكُر الإنسان ويؤكّد دوره في الحياة ممّا يجعله يستقطب الخطاب القرآني توجيها وتشريعا. واستخلاف الجماعة البشرية يجعل كل فــــرد شاهـــدا على عصره، مسؤولا في الدنيا ومُحاسبا فــي الآخـــــرة عما قدمت يداه ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾.(النبأ/40). وواضح من خلال هــــذه الآيــــة أن الكافر يتنصّل من مسؤوليته عن أفعاله ويتمنى، دون جدوى، لو كان مثل التراب غير عاقل وغير حرّ وغير مسؤول. إذ العقل ميزة  الإنسان الأساسية عن سائر المخلوقات، وأداته في التمييز والمعرفة، وبه علم الأسماء كلها،  وكان الأجدر بخلافة الله تعالى في أرضه. ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَـــةَ عَلَى السَّمَــــاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَـــالِ فَأَبَيْــنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَــــا وَأَشْفَقْــــنَ مِنْهــــَا وَحَمَلَـــــهَا الْإِنْسَــــانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾. (الأحزاب/72).
كرّم الله تعالى الإنسان فخلقه من طين وسوّاه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ. فَـــإِذَا سَوَّيْتُـــهُ وَنَفَخْـــتُ فِيــــهِ مِـــن رُّوحــــِي فَقَعُــــواْ لَهُ سَاجِدِين ﴾ (سورة الحجر/27-28). ثم كان تأهيله  لخلافته تعالى في الأرض.     
احتضن الله الإنسان في المرحلة الأولى في الجنة كما يُحتضن المولود في طفولته مـــن قبــــل والديـــــه. ووفّر له كل ضرورات الحياة من مأكل وملبس ومشرب ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَـــدُوٌّ لَّــــكَ وَلِزَوْجِــــكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَــا وَلا تَعْـــــرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ﴾.(طه/ 117ـ119). ثم تروى القصة الدينية أنه أكل من شجرة أوجبت هبوطه للأرض. وتذهب بعض التأويلات إلى أن هذه الشجرة قد ترمز إلى حريــــــة الإنســــان ومسؤوليتـــه. ولم تتوقف العناية الإلهية بالإنسان عند هذا الحدّ، بل استمرت المساعدة والإرشاد برحمة من الله تعالى. فكان الوحي مرشدا للإنسان في صيرورته على الأرض. وكان أنبياء الله عليهم السلام معلّمين للبشرية في ارتقائها وتحررها عبر العصور. 
كان الوحي عبر التاريخ مواكبــــــا لتطــــور وعـــي الإنســـان، حتى اكتماله ونضجه واستقلاله. ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾. (المؤمنون/ 44). إذ أن تأهيل الإنسان للتعويل على نفسه، لم يكن ليحصل بقرار ”كن فيكون“. بل استغرق التأهيل العقلي عناية استمرت قرونا عديدة، حتى جاء الرسول الخاتم محمد صلّى الله عليه وسلم ليكون اللبنــة الأخيرة فــــي البنـــــاء النبــــوي. وجاء القــرآن ليعلــن استقـــــلال العقــــل وتوقّف الوحــــي نهائيــــا. ففي حدود القرن السابع للميلاد، نستطيع أن نقول إن مهمة تأهيل الإنسان اكتملت، على أن يتحمّل كامل مسؤولياته معوّلا على نفسه، ويكون  كل جيل شاهدا على عصره، قبل ختـــم النبــــوة أو بعدهــــا، ثم يحاسبه ربه تعالى عن المهمة المناطــــة بعهدتــــه. ﴿ تِلْكَ أُمَّـــةٌ قَــدْ خَلَـــــتْ لَهَــــا مَــــا كَسَبَــــتْ وَلَكُم مَّــــــا كَسَبْتُــــمْ وَلاَ تُسْأَلُـــونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾. (البقرة/141(.
تلك مقدمات عقدية ضرورية نحسب أنها مدخل لأي محاولة جادة في تجديد الفكر الإسلامي وتصحيح السلوك والارتقاء بالعلاقات الاجتماعية. ولنا أن نتساءل بعد كـــــل هذه المقدمـــات، ما قيمة الخلافة (النيابة) إذا لم تُتبع بصلاحيات التمثيل الفعلــــي؟ وإذا كان الله سيضلّ يفعل كل شيء في الأرض، فماذا سيبقى للإنسان الخليفة أن يفعل؟ وكيف ستكون علاقة العقل بالقــــرآن بعد أن أعلن هــــذا الأخيـــر ختم الوحي واستقلال العقل؟
 
الوحي مرشدا للعقل
 
يصور ليسنج (رائد التنوير الألماني في القرن الثامن عشر) علاقة الوحي بالعقل فــــــي التاريــــخ في دراسة طريفة له بعنوان ”تربية الجنس البشري“ فيذهب إلى أن ”الوحي بالنسبة للجنس البشري قاطبة بمثابة التربية بالنسبـــــــــة للفـــــرد الواحــــد“. (1) وكما يتدرج المربي مع الفرد يتدرج الوحي مع وعي الإنسانيـة، فيأتي كـــل وحــــــي ملائمــــــا لزمانـــــــه. وكما أن تربية الطفل تقوم على وعده بالثواب الحسي ووعيده بالعقاب الحسي، فيُربى بالحلوى وبالعصا، كذلك تقوم التربية الإنسانية في مهدها على الوعد والوعيد أي على الجزاء الحسّي ثوابا كان أم عقابا. لذلك كان الأسلوب الحسّي وضرب الأمثال مواكبا لمرحلة كانت فيها قدرة العقل عن التجريد ضعيفة. وكما يعتمد المُربّي على الأمثال لتقريب المعاني للطفل، اعتمد الوحي الأمثال لتقريب الحقائـــــق إلـــى العقـــل. لذا فان التفسير الحرفي للقرآن، الذي جاء فاصلا بين مرحلتين، وجمع بين خصائص عصرين، وقوع في التشبيه والتجسيم وقضاء على المعاني المجرّدة. وعليه وجب الاعتماد على المجاز وعلى التفسير الرمزي (التأويل) للوصول إلى الحقائق. ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾  (العنكبوت/43). وكما أرشد الوحي العقل في مرحلة التأهيل، فإن العقل ينيرالوحي بعد ختمه بالـتأويل. ومثلما أن طفلا ينمو طبيعيا في أسرته، يمكن أن يفوق طفلا يتربى لدى مختص بمؤسسة، فان شعبا معينا يمكن أن يفوق بعقله شعبا آخر يهتدي بالوحي. وكذلك يمكن أن يفوق بعض الأفراد الوعي الجماعي، وكما أن المثال الأول ليس دليلا ضد التربية المختصة، فان الحالتين الأخيرتين ليستا دليلا ضد الوحي.
والوحي في المرحلة الواحدة يتوجه إلى أوسع الناس، أي العامّة، ويُصاغ حسب فهمهم. وهذا لا يمنع بعض الأفراد المتفوقين ذهنيا، أو الخاصّة، أن يفهموا الوحي حسب طريقتهم. كأن يفهموا  بعض العقائد أوالقصص والأمثال بطريقة رمزية، وليس بمعناها الحرفي. فبعض الأحداث والأوصاف التي يرويها الوحي، قد لا تكون فعلية، بل هي مجرد أسلوب للتأثير على العامة وتحريضهم على الطاعة. وكما يقول اسبينوزا ”الكتاب لا يعرفنا الأشياء بعللهــــا القريبــــة بل يرويهــــا بترتيـــب وأسلـــوب مـــن شانهمـــا أن يثيرا في الناس أو في العامة بوجه خاص أعظم قدر ممكن من الخشوع“ (2). وتعاليم الأنبياء تتجاوز أحيانا حدود الذهن. لأنه بالصور والكلمات نكوّن أفكارا تزيد عن تلك التي تكوّنها المفاهيم العقلية. وقد انتهى ”اسبينوزا“ من خلال دراستـــه للوحي فـي التاريـــخ، إلى إن الوحي لا يجعل الأنبياء أكثر علما، بل قد يتركهم على أفكارهم التي كونوها سلفا ويتشكّل بمقتضاها. ويقصد ”اسبينوزا“ هنا بالأفكار الإطار المعرفي مثل التصوّر ”الكوسمولوجي“. فقد اعتقد يسوع مثلا بدوران الشمس حول الأرض، وبثبات الأرض، حسب وعي المرحلة السابقة لكوبرنيك. كما أن رمزية الفهم، تفرضها طبيعة الوحي الرمزية، والتي اعتبرها الشهيد علي شريعتي من خاصيات المذاهب السامية السائرة على دين إبراهيم. (3).
  ولانّ الوحي  مكمّل للعقل ومرشد له، فقد اعتبره المعتزلة لطفا من الله ورحمة منه تعالى. وجعلوا الإيمان والتكليف واجبين بالعقل قبل ورود السمع، وربما لنفـــس السبب أيضا نجد القــــرآن، وهو أرقى صيغ الوحي وآخرها، يفتتح كل سورة فيـــــه بالتأكيـــد على صفة الرحمان الرحيم، دون بقية صفات الله الحسنى الأخرى، فيما يُعرف بالبسملة.
 ولعلّ تاريخية الوحي ومواكبته للوعي البشري تصبح حقيقة أكثر وضوحا من زاوية نظر إسلامية، إذا طرحنا الأسئلة التالية وفكّرنا مليّا في أجوبتها.
(1) لماذا نلاحظ في دراستنا لتاريخ الأديان، كثافة للأنبياء والرسالات ”السماوية“ منها و”الوضعية“ طيلة العصور القديمة؟ حتى أن بعض كتب التفسير تتحدث عن قتل بني إسرائيل لأربعين نبيا في يوم واحد. ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ﴾  (الشعراء/ 208) وفي المقابل نلاحظ تراجعا للنبوءات وللرسالات وتباعدا بينها تدريجيا إلى أن تم ختم النبوة، حتى أنه لم تشهد الإنسانية بين عيسى ومحمد رسولا  لمدة ستة قرون. ولم يطلع على الناس بعد محمد  خاتم المرسلين دين ”سماوي“ ولا حتى ”وضعي“ تقريبا؟.
(2) إذا كان الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قد أغلق باب الرسالات السماوية وقال ”لا نبي بعدي“. فلماذا أُغلق باب الديانات الوضعية بعده، والحال أن مفتاحه  يُفترض أنــــه ليس بيـــد محمد؟
(3) هل أن ختم النبوة وتوقف الأديان عن الظهور وانقطاع الوحي، مسائل ترجــــع إلـــى قـــرار سمـــاوي متعالــي لا نفهمـــه؟ أم هي تُفهم ضمن الحكمة الإلهية والتجربة التاريخية والوعي الإنساني في تطوره المُطّرد، وضمن قوانين وخصائص قابلة للدرس وللتأمل العقلي؟
(4)كيف يُنير العقل القرآن، بعد أن أعلن هذا الأخير توقّف الوحي واستقلال العقل؟
في أهمية الوعي التاريخي
 
شكّل الفكــر العربــي بعد هزيمة حزيران 1967 حلقة متميزة في صيرورة الوعي العربي، يمكن أن نصطلح عليها بحلقة النقد والمراجعة. ولعل من أهم  الانتقادات التي وجهت للفكر العربي قبل الهزيمة هي عدم كونية هذا الفكر وغياب الوعي التاريخي فيه. أي عدم إدراك هذا الفكر لطبيعة المرحلة التاريخية التي يتنزل فيها، وعدم استيعابه لأهم التحولات التي شهدها العالم وشهدتها صيرورة الوعي البشري على وجه الخصوص. ومن جهة ثانية عدم الوعي والتحديد الواضحين لطبيعة اللحظة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا ومميزاتها وعلاقتها ببقية اللحظات السابقة من تاريخنا الديني والقومي والوطنــــي. وهو مـــا أوقـــع  هذا الفكــــر في نوع من ”الإبهام التاريخي“(4) أو أفقده الطرح العلمي الموضوعي لمشكلات الواقــــع وتحدياتـــه، أو أسقطه في معالجة الواقع بوعي ”مُفوّت“ (5) أو مُسقط. وكان ذلك أحد أسباب الإخفاق في تحقيق مشروع النهضة المنشود الذي مضــــى علـــى تعثّـــره أكثــــر من قرنين من الزمن. 
يتفق كثير مــــن المفكريــــن العــــرب ممّن يمكن تصنيفهم ضمن التيار النقدي في الفكر العربي المعاصر، في وصف هذه المرحلة من الوعي البشري على أنها مرحلة انتصار العقل وسيادتـــــه وحكمـــــه لكل الأمور بعـــد تخلصــــه مــــن عوائقــــه القديمـــة. لذلك نلاحظ أن   كتابات حسن حنفي على سبيل المثال، تهتـــم كثيـــرا بمرحلــــة التنويـــر الأوروبي وتتمحور حول أعلامها. ولا عجب في ذلك مادامت هذه الدورة الحضارية يسودها النموذج الغربي ويطبعها ببصماته، بعد التحولات العملاقة التي شهدها العالم بقيادته طيلة القرون الأخيرة. 
يصوّر حنفي هذا التحول بقوله: ”لقد بدأ الشعور الأوروبي منذ بدايته الأولى بالاستشهاد في سبيل العقل في شخص سقراط، أو في منهج المناقشة الحرة المفتوحة. ومنذ القرن الأول حتـــى القــرن السابــع أي طيلة العصر الوسيط نشأت معظم حركات التحرر داخل الكنيسة باسم العقل، وقد فرضت حرية تفسير الكتاب المقدس نفسها باسم العقل. وما إن حلّ القرن السابع عشر حتى أصبح العقـــــل إلهـــا وأعطيت لـــه كل صفات الإله من الشمول والإطلاقية واليقين والصدق والاتساق، فقام برفض الموروث، ولم يقبل شيئا على انه حق ما لم يثبت انه كذلك (...) وأصبح العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس“(6)  وفي القرن الثامن عشر خرج العقل من ميدان الفكــــر والعلـــم إلى ميدان الطبيعة العامة والمجتمع العريض، وطبقه ”اسبينـــوزا“ فـــي السياســــة والتاريــــخ والمجتمع. واستطاع القرن التاسع عشر حصد انتصـــار العقـــل في القرون الماضية، فتوالت الاكتشافات العلمية وتواصلـــت فـــي القـــرن العشريـــن فتمت السيطرة على الطبيعة وبدأ غزو الفضاء ثم جاءت الثورة الرقمية فغيرت وجه العالم وتم تأليه العقل أو يكاد، وصارت العقلانية عنوان المرحلة بامتياز. والعقلانية هنا تعني تحكيم العقل بكامل الحرية وفي كل الحالات وبصوت مرتفع وهو ما يعنيه التنوير.
 
 التنوير رفع للوصاية عن الإنسان
 
في نص مشهور للفيلسوف الألماني كانـــط يجيب عـــن ســـؤال ما هو عصر الأنوار؟ فيقول: ”هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر(عند الإنسان)خارج قيادة الآخرين. والإنسان (القاصر) مسؤول عن قصوره، لأن العلّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة عل اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك، ذلك هو شعار عصر التنوير“ (7).  ويستعمل حنفي مصطلح التنوير بنفس المعنى فيذكر أن ”التنوير هو إذن رفع جميع الوصايا عن الإنسان ذكرا أو أنثى، ورفع جميع صور التوجيه والإرشاد عنه، وهي عملية شاقة.  فالإنسان بثقله يــــود أن ينعـــم في حظوة الآخرين وتحت غطائهم. وما يحدث للفرد يحدث للجماعة فترفع من عليها حتى تعمل عقلها. وهذا هو ما يفسر ثورة الشعب على الحكام الذين يستعبدونه وينصبون أنفسهم ولاة أمره، فالحرية هي سبيل التنوير، والحرية هـــــــي الاستعمـــــال العـــــام للعقــــل فـــي كل المجالات“(8). ولما كان التنوير مهمة شاقة، فإن تحقّقه في الواقع يحتاج إلى جهد ووقت، لذلك قـــــال كانـــط: ”إذا سئلنا بعد كــــــــل هــــذا هــــل نحن نعيـــش قرنــــا متميـــزا؟ فان إجابتي تكون على النحو التالي: لا لأننا في الواقع نعيـــــش قرنــــا يسيـــر نحو التنوير“.(9).
وخاصية هذه المرحلة التاريخية، بما هي مرحلة تنوير ورفع للوصاية عن الإنسان، لا نراها منتوجا غربيا صرفا، بل نعدّها تصديقا لرسالة الوحي وإكمالا لما أعلنه القرآن بختــــم النبـــوة، كما يُبِينُ عن ذلك بامتياز محمد إقبال ليخلص إلــــى قولــه: ”لعل من أبرز مظاهر الانقلاب الإسلامي إعلان القرآن صراحة أن قيادة العالم سوف تكون من الآن (أي من وقت اكتمال الوحي) فصاعدا بيد الإنسان الذي لم يعد كائنا تحت الحضانة. وأنه أصبح إنسانا راشدا، عليه الاسترشاد بالمبادئ القرآنيــــة العامــــة والمرشــــدة، ثم انطلاقه بعد ذلك معتمدا على نفسه وعقله في مواجهة خضمّ الحياة من الآن إلى آخر الدهور. وهذا هو جوهر فكرة ”ختام النبوة“. وإن النبوة في نظر الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها“.(10).
ولأن الإنسان/ الخليفة  في التصور التوحيدي للوجود يظلّ مشدودا إلى مُستخلِفه وهو الله تعالى، حتّى لا يؤله الإنسان نفسه فيتنكر لأصله  ويحاول عبثا تجاوز حدوده فيطغى ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق/6ـ7)،على غــــــرار ما حصل في بعض الفلسفات الغربية، فإن العقل المستنير من زاوية النظر التوحيديّة، حين يتحـــــرّر من أيّة وصاية، يظل يهتدي بآخر صيغ الوحي الإلهي، وهو القرآن الكريم، الذي جاء مُلخصا للكتب من قبله ومهيمنا عليها، يتدبّره ويؤوّله وينطق عليه.
فاعتماد العقل أساسا للتكليف وأداة للمعرفة والتمييز وحجة يقينية لا يعني انفصاله عن الوحي، تماما مثلما أن حياة الإنسان من منظور الاستخلاف تظل سعيا لا يتوقف إلى تحقيق كماله الذاتي والاجتماعي باكتساب صفات الله دون إدعاء الألوهيّة. (11). ومن قبل شبه  بن خلدون العقل بميزان الذهب دون أن يغفل حدوده حين يذكر أن ”العقل ميزان صحيح وأحكامه يقينية، لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهيـــــة، وكـــل مــــا وراء طــوره، فإن ذلك طمع في مُحال. ومثال ذلك رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهــــب فطمـــع أن يزن به الجبــــال. وهــــذا لا يــــدل على أن الميــــــزان فــــــي أحكامـــه غير صادق، ولكن للعقل حدّا يقف عنده ولا يتعدّى طوره“.(12).
ففضلا عن حاجة العقل إلى الوحي في قضايا الغيب على وجه الخصوص، يظل القرآن الذي أحاط بجواهــــر قضايـــــا الإنســـان ﴿ مَا فَرَّطْنَـــا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ (الأنعام/38)، إحاطة على وجـــه الإجمـــال وليس على وجه التفصيل الـــــذي تُــــرك للعقــــــل، يظــــّل هذا القرآن إطارا نظريا عاما للعقل ينطلق منه أو يعود إليه، ليهتدي به دون أن يتخلى عن دوره الأساسي. فالإنسان أوّلا وأخيــــرا مكلّف بعقلــــه، والوحي جــــاء يخاطـــب العقــــل، والعقـــــل يظـــلّ في كل الأحوال حكما على الوحي وناطقا عنه وقد أثر عن الإمام علي قوله ”الكتاب خط مسطور بين دفتين يتكلم به الرجال“.
 
في وضعية الفكر الديني
 
بناء على المقدمات السالفة الذكر، يزول التعارض الذي يقيمه البعض بين الفكر الديني والفكر الوضعي. وتزول التفرقة التي يعتمدها الخطاب الإسلامي التقليدي بين ”الإسلامي“ وبين ”الوضعــــي“. فكثيرا ما يتــــم رفـــض أغلـــب إنتاجيات الفكر الحديث بدعوى أنها ”وضعية“ أي من وضع البشر، في مقابلة ظالمة مع ما يدّعون أنه ”ربانــــي“. و”الوضعيـــــة“ بهذا المعنى تبدو نفس الحجة تقريبا التي اعتمدهــــا المشركـــون في رفض الرسالة المحمديــــة  حين قالوا ﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ (المدثر/25). وكأن صفة البشرية في حد ذاتها تهمة. هذا فضلا على أن القرآن كان صريحــــا في نزع احتكار تأويله من أية جهة، فكلام الله تعالى نجتهد في فهمه ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ (آل عمران/7). 
والتفرقة تظل قائمة بين ”التديّن“ البشري وبين الدين الإلهي. والقرآن يشير في أكثر من موضع إلى أن دين الأنبياء لم يقم إلا ضد أديان أخرى. وأن إله الأنبياء كانت حربا علـــى ”آلهة الطغــــــاة“. ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِــــي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ (القصص/38). فلا وجود إذن في الواقع  لدين في ذاته لأن ”الدين في ذاته افتراض عقلي أو مجرد إمكانية، لأنه لم يوجد إلا من خلال تفسيراته التاريخية. فالكتـــاب المقـــــدس لا يتحدث عن نفسه بل يعرض له مفسر معين أو جماعة معينـــــة ولا يتحول إلى فكر ديني إلا من خلال التاريخ“.(13).
والتديّن ليست له صياغة واحدة، لكن طول الألفة بين التديّن التقليدي وأذهان  الناس قد تكرس ”نمطيــــة“ معينـــــة، يصبـــح كل خروج عنها ضربا من ”الكفر“ والحال أن ذلك ليس إلا صياغة للإيمان ذاته على مقتضى وعي مُغاير. وفي بعض الأحيان قد يكون ”التديّن“ تغطية وتعمية، ويكون ”الكفر“ كشفا للقناع وتعرية للواقع وفضحا للنفاق وتصحيحا للإيمان. ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ (البقرة/256) . 
  لذلك يؤكد الإسلام على ربط القول بالعمل والاعتقاد بالممارسة وتتكرّر في القرآن صيغ هذا التلازم ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَــــاتِ ﴾ (البقرة/25). وتشدّدت  بعــــض المذاهب الإسلامية مثل الخوارج  فـي هـــذا التـــــلازم  فكفّـــــروا أصحــــاب المعاصي. فالإيمان دون الأعمال ميت. لأن الإيمان مضمون يستجيب لمتطلبات الواقع ويدفعه نحو الأفضل  ويمتلك صدقه في صلاحيته كحل لذلك الواقع. و ليس الإيمـــــان قوالـــب تراثيـــة وأنساقـــا تُردّد ولا تقدر أن تتجاوز اللسان والكتب. ”فإذا تركنا محك العمل فكل شيء يمكن أن يتساوى الفكر الباطل مع الحق، الدين الصحيح مع غير الصحيح، الإسلام مع الكفر“ (14). وعلى العموم فإن الله تعالى سوف يحاسب الناس في الآخرة على أعمالهــــم . فيوم الحســـاب هو يوم ينظر فيه المرء ما قدمت يداه. وقد استطاع ”لاهوت التحرر“ في أمريكا اللاتينية أن يحقق هذه المعاني حين ربط الدين بالثورة. فذهب الأب كاميلو  توريس إلى أن جوهــــــر المسيحيــــة هي محبة القريب (أي الآخرين) إذ ”من أحب القريب فقد أتم الناموس“ كما جاء في رسالة القديس بولس. والمحبة لا تكون حقيقية إلا من كانت فعّالة. فجوهر الرسالة المسيحية هو العمــــل على توفير الحياة للجميع وبغـــــزارة. ولما كــــــان خير الأغلبيـــة لا يتحقق في عالم اليوم إلا بالثورة، فإن الثورة تصبح جوهر المسيحية تضحية الكاهـــــن شرط المحبـــــة. ولا يمكن أن نكون مسيحييــــن في العالـــــم الحالي دون أن نعــــي مسألة البؤس المادي (15).
ويبقى التأكيد على ضرورة إعطاء الأولوية في الإيمان للعمل أمر جد مطلوب في حياتنا المعاصرة التي بات فيها الوجدان الإسلامي يعاني من التصورات التي حصرت الإيمان في مجرد التصديق بالقلب أو التلفظ بكلمة التوحيد وأضحى الجميع منتسبين إلى أمة الإسلام طامعين في جنة الرحمان متّخذين القرآن مهجورا أو يكادون. ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمــــِي اتَّخَـــــذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾ (الفرقان/ 30). 
بهذه المنطلقات يمكننا تجاوز حالة التردد ومحاولات التوفيق والتلفيق التي يقع فيها الكثيـــر ممن ينشدون تجديد الفكر الديني، فتراهم يقرون بدور العقل وفاعليته، لكن يقعدهــــم إرثهــــــم التقليـــدي عن التحرر من كل سلطة مرجعية ومواكبة مرحلة التنوير. فيرفعون شعار ”الاجتهاد في حدود النـص“ أو ”لا اجتهاد مع النص“،  وكأن النص واضح بذاته ومن ثم يسلطون قوالبهم الفكرية عن الاجتهادات الأخرى فينزعون منهــــا كـــــل شرعيــــة بدعــــوى أنها اجتهــــادات خارج النـــــص وخارقــــة لـــه. يقولون إنهم مع إعمال العقل لكن إذا عارض العقل النــــص يخضــــع العقــــل للنــــص. لكنهم ينســـون أن العقل هو الحكم في كل الأحــــوال. ومن قبل تساءل اسبينوزا ”إذا كان على العقل أن يخضع للكتاب بالرغم من معارضته له، فهل ينبغي أن يقوم هذا الخضوع على العقل أم يكون خضوعا أعمى؟ لو كان خضوعا أعمى فإننا نسلك كالبلهاء وبلا حكمة،ولو كان خضوعا قائما على العقل فإننا نأخذ جانب الكتــــــاب بنــــاء على أمر العقل وحده، ومن ثم فلو عارض العقل لما سلمنا به (16).
إن زعم التوفيق بين العقل والنقل هروب من المواجهة الفعلية والجريئة لمقتضيات التنوير. فهو تملّق للمشاعر الدينية من جهة، وهو تسلّق كاذب على إنجازات العقل من جهة ثانية. فإذا رمنا تجديدا حقيقيا لتفكيرنا الديني فلا مندوحة من التسليم بأولوية العقل على النقل والإقرار بتاريخية الوحي، وبناء وعي تاريخي والإيمان بفكرة التقدم من خلال تعاقب الرسالات وفلسفة الوحي، واعتماد التفسير الرمزي وحرية التأويــــل، والقــــول بــــأن الفكـــر الديني وضعيّ وأن الإيمان محتوى وممارسة أساسا. وبذلك يكون القرآن هاديا للعقل لا وصيّا عليه.
 
الهوامش
 
(1) ليسنج، تربية الجنس البشري، ص121 (ترجمة د.حسن حنفي).
(2) اسبينوزا،  رسالة في اللاهوت والسياسة ، (ترجمة د.حسن حنفي).
 (3) علي شريعتي، هكذا تكلم شريعتي، ص220 (دار الكلمة).
(4) جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، سلسلة عالم المعرفة.
(5) ياسين الحافظ، الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.
(6) د.حسين حنفي، قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر،(ج2)، ص 45، دار التنوير ط1.
(7) إيمانويال كانط، ماهو عصر التنوير؟، نص مترجم بمجلة الكرمل (ملف فوكو).
(8) د.حسن حنفي – تربية الجنس البشري ص74 (ترجمة) دار التنوير ط1.
(9) ايمانويال كانط – نفس المرجع المذكور سابقا.
(10) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص 143 (بتصرف)
(11) انظر مقالنا، التوحيد أساسا للتصور وباعثا على السلوك (العدد 27 من مجلة الاصلاح ).
(12) عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، ص 825
(13) د.حسين حنفــــي – قضايـــــا معاصـــرة (ج1) ص 80- دار التنوير.
(14) د. علي شريعتي مصدر مذكور سابقا ص192.
(15) كاميلو توريس، المسيحية والثـــورة ص148 (ترجمة دار ابن خلدون طبعة أولى).
(16) اسبينوزا ، رسالة في اللاهوت والسياســــة ، ص167، دار الطليعة.
————