مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
قراءة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي بعد عامين من الثورة

 كثر في الأيام القليلة الماضية الحديث عن الوضع الاقتصادي وانعكاساته الاجتماعية بنبرة تشاؤمية وصلت إلى حد وصف الحالة بالكارثة. ولم يكن هذا الوصف مقتصرا على بعض الفرقاء السياسييــــن، بل بمشاركـــــة بعــــض المختصين فــــي المجال. وإن كان موقف السياسيين مفهوما لاعتباراتهم السياسية والانتخابية الضيقة  و الغير مبرر لاعتبارات علمية وموضوعيــة، إلا أن ما لفت الانتباه هو انخراط بعض ممن يوصفون بأنهم خبراء في الميدان في هذا النمط من التقييم للحالة الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا بعد عامين من الثورة المباركة والتي حسبناها أتت من جهة على نمط للعلاقة بين النخبة والمجتمــــع قائم علـــى الاستخفــــاف عبر المغالطات أو قراءة لمعطيات غير محينة  أو توجيهية وبشرت من ناحية أخرى بنمط جديد لتلك العلاقة يرتكز على احتـــرام ذكاء الشعب والتعبير عن تطلعاته.                                                                                                          

ولعله من المفيد التذكير بان أهم العبر لثورتنا المباركة ونحن نحيا  فجر عامها الثالث هي إحيائها للأمل في النفوس بقدرة المجتمع وهياكله الحية والفاعلة على فرض اختياراته بعد أن عملت آلة الاستعـــلاء عليـــه والطغيان في الأرض علـــــى بث الوهــــن في النفــــوس و الاستسلام في العقول للأمر الواقع الذي كان يصور له عبر آلته الإعلامية وبتوظيف رخيص لمـــن هم محسوبــــون على الخبراء والمختصين في أكثر من ميدان.                                                                                                             
لذلك من المجدي لفت الانتبــــاه إلى أن محــــاولات بث الإحباط في النفوس عبر ما يشاع باستعمال كل الوسائل هو في حقيقته يتعارض مع الرسالة القوية التي بثتها ثورتنا المباركة من جهة ومن جهة ثانية ارتكاب حماقة غير مقدرة العواقب على أصحابهـــا والتي لن تزيد صناع الثورة في بلدنا إلا إصرارا على الاستمـــرار في تحقيق أهداف الثورة سواء ممن اختارهم الشعب في محطته الثوريـــــة الثانيـــــة يوم 23 أكتوبــــر 2011 بعد محطته الأولــــى يوم 14 جانفي  أو من قوى المجتمع السياسية والمدنية عبر آليتين الأولى وسائل الضغط لفتا للانتباه بعيدا عن مقولة الغاية تبرر الوسيلة والثانية قوة الاقتراح مشاركة في صنع القرار.                                                                                                            
وبالعودة إلى الوضع الاقتصادي لا بد من الاستئناس برأي الجهات والمؤسسات وكذلك الوكالات المختصة الداخلية منها والخارجية ســــواء التي تعنى بشأننــــا الاقتصـــادي أو التي هي في علاقة مباشرة مع اقتصادنا على مستوى التمويل والاستثمــار أو على مستوى المبادلات التجارية قبل إبداء الرأي الخاص والمنطلق من معطيات موضوعية وبمقارنات بسيطـــة تساعــــد على تعديل الرؤيـــــة في الموضوع وتناغما مع روح الثورة المحيية للأمل في النفوس والمبشرة بإمكانية النهوض بالبلاد وتحقيق عزة الوطن وكرامة المواطن.
لقد صرح محافظ البنك المركزي التونسي  بأن بلدنا خرجــت من فترة الركود الاقتصادي سنة 2012 بتسجيلها معدل نمو تجاوز 3 بالمائة بعد ان كان سلبيا بـ 2 بالمائة في سنة 2011. كما أبقت وكالة موديز الدولية للتصنيف الاستثماري على درجة الاستثمــار في تونس نظــــرا لتجاوزهـــا مرحلــــة الركـــــود الاقتصــــادي رغم العوائق التي اعترضت العملية الإنتاجية داخليا ” BAA3“ والمبادلات التجارية الخارجية على حد سواء وذلك عبر النجاح نسبيا في جلب الاستثمار والتحكم أيضا نسبيا في عجز الميزان التجاري والمحافظة على الموازنات المالية الكليّة رغم بلوغ نسبة الدين العام 46 بالمائة من الدخل الإجمالي الخام. هذا التصنيف يشير إلى أن مخاطر الاستثمار في بلدنا محدودة مما يسهل عملية الاستثمار الخارجـــــي في اقتصادنا الوطني أضـــــف إلى ذلك رتبة الشريك المتميز  الذي منحها الاتحاد الأوروبي شريكنا الاقتصادي الأول لبلدنا حرصا منه على المحافظة على علاقاته التجارية معنا والتي لا تزال لصالحه - دون أن ننسى التخفيض في الترقيم السيـــــادي لبلدنــــا في وقت سابق من السنة المنقضيـــة 2012 والذي قد يؤثر سلبا على الاقتراض الأجنبي ويزيد في كلفته.
إن النمو المسجـــل بما يزيد عن 3 بالمائة بعد الركود الاقتصــادي الذي عرفـــه اقتصادنا سنة 2011 هو مؤشر ايجابي على قدرة التونسيين على تجـــاوز مرحلـــة الخطـــر التي تعقــــب كل الثــــورات مما ينبئ بإمكانية تحقيقه لنسبة نمو أكبر خلال هذه السنة والسنوات القادمة خاصة إذا نجحت الحكومة الشرعية الحالية والحكومة التي ستفرزها الانتخابـــات القادمـــة بالتعــاون مع منظمات العمال والأعراف والفلاحين وكل مكونات المجتمع السياسية والمدنية على بسط الاستقرار في البلاد شرط كل نمو اقتصادي ايجابي .      
إن النموّ المسجل في سنة 2012 كان يمكــن أن يكـــون أكبر لو احترم الجميع نتائج انتخابات الثورة وانفتحت الترويكا الحاكمـــة أكثر على كل من أفرزتهم صناديق الاقتراع وأحـــدث من اصطفوا منذ البداية في خانة المعارضة تغييرا عميقا في علاقتهم بالسلطة منسجمين مع التغيرات العميقة التي أفرزتها الثورة على مستوى السلطة وعلى مستوى وضع الحريات في البلاد عموما.                                        
إن نمو اقتصادنا بما يزيد عن 3 بالمائة لا يعني استقرارا اقتصاديا الذي يبقى تحقيقه أمرا مطلوبا كما يفرض استمراره وضوحا في الرؤية ودستورا مصادق عليه وبحيّز التطبيق مصاحبا بتشريعات تفصيلية دقيقة وواضحة ويستوجب استقرارا لمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية التي نأمل أن تتكاتــــــف جهــــــود كل المخلصين في هذا الوطن "السفينة الجامعـــة لنــا" إلى قيادتــــه نحو شاطئ الاستقرار، شاطئ إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي وحسم المعركة الانتخابية القادمة لصالح  الثورة .                                                                                                        
إن النمو الاقتصادي الايجابي المسجل في السنة الثانية للثورة خاصة في بلدنا الذي يتلمس طريق التنمية، لا يعني تحقيق تنمية اقتصادية فضلا عن تحقيق تنميـــــة اجتماعيـــــة -التي تبقى هدف كل تنمية سياسية واقتصادية حقيقية- وذلك لطبيعة التنمية ذاتها المتعددة الأبعاد والاتجاهــــــات والمجـــــالات ولفعلها التغييــــري على مستوى الذهنيات والهياكل وفق نظرة استشرافية للاقتصاد وللاجتماع وما يتطلب تحقيق ذلك من مدة زمنيــــة طويلة نسبيا وكذلك مشاركة واسعة محليا وجهويا ووطنيا واستثمارا للخبرات والإمكانيات البشرية الهائلة التي تزخر بلادنا وتفتخر بها والقادرة لوحدها على إنتاج مستوى من القيمة المضافة  لتحقيق زيادة لافتة  وحاسمة في الثروة.                                                                        
 وما تجدر الإشارة إليه أن الاستمرار في المنوال التنموي القديـــم لن يمكن من استيعاب الرأس المال البشري المتعلم الممثل بأصحاب الشهائد العليا نظرا لنوعية الشغل الذي يعرضه وسنبقى نراوح مكاننا بل سيؤثر ذلك حتما بطريقة سلبية على نسب النمو مستقبلا. لذلك كان لابد من استشارات واسعة لبلورة منوال تنموي جديد يؤطر الخطط والبرامــــج الاقتصاديـــــة المستقبليـــة ويرتكز على اللامركزية في القرار التنموي ضمن توجهات وطنية عامة يتفق عليها الجميع وبموارد مرصــــودة علـــى ذمـــة القائميــن على التنفيذ في مختلف المستويات محليا وجهويا ووطنيا مع إقرار آليات للمتابعة والمراقبة والتقييم المستمرين وهياكل للتنسيق بين مختلف المستويات وفي اتجاهات ثنائية ومتعددة وفق المزايا التفاضليـــة لكل محلية أو جهة إحداثا للتكامل في العملية التنموية، مع حسن توظيف لكل الطاقات البشرية واستثمار لكل الموارد الطبيعية والتراثيـــة، على ان يستفيد كـــــل طرف بثمـــار جهده التنمــــوي مع إشعاعه على الأطراف الأخرى ومدّ يدّ المساعدة لها حتى نتجاوز أخطاء تجربـــة التنميـــة المعتمــــدة علــــى الأقطاب في ستينات القرن الماضي.                                                          
أما على مستوى العلاقات التجارية الخارجية فقد أصبح تنويع وجهتنا مسالة حيوية ومصيرية يتوقف عليها مستقبل اقتصادنا والإبقاء على علاقات محدودة ببعض دول الاتحاد الأوروبي وبصفة منفردة ليس فيها أدنى تنسيق مع دول الجوار، لن يكون مجديا فضلا عن إبقاء اقتصادنا غير محصنا وسريع التأثر سلبا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول كما هو وضعنا الآن مجسدا بتراجع الصادرات نظرا للازمــــة الماليـــة واختيارات التقشـــف التي باتت تخيم على الوضع الاجتماعي فــــــي تلك البلدان مما يؤثر سلبــــــا على طلباتهم وينعكس بالتالي سلبا على صادراتنا .                                                                    
ان زيادة قدرة اقتصادنا التنافسية وفتح آفاق أرحب لصادراتنا يبقى خيارا استراتيجيا مطلوبا يقلل من مخاطر العلاقات التجارية الدولية المحدودة ويفتح أمام منتجاتنا أسواقا واعدة. كما أن اندماج اقتصاديات الشمال الإفريقي الذي نحسب أن بعض شروطه توفرت، كالإرادة السياسية في دول الربيع العربي في المنطقة وواقع الحريات الذي هو بصدد التطور، يمهّد لإحداث تنميـــة اقتصاديــــة  في المنطقة قائمة على التعاون والتنسيق والتكامل، وتقوى بذلك قدرتنا التفاوضية في ميدان التجارة الدولية مع الاتحاد الأوروبي وكذلك منظمة التجارة الدولية.                                                                                   
إن إحداث تنمية حقيقية باعتبارها ضرورة حياتية وحماية لاستقرارنا الاجتماعي والسياسي وكذلك استقلال قرارنا السياسي، ونظرا لما توفره من ضمانة لعدم عودة الاستبداد ما ان بقيت قائمة على محاربة الفساد وتتمحور حول تحقيق كرامة كل مواطن تونسي والمحافظة عليها هو جوهر هدف ثورتنا المباركة الذي يبقى تحقيقه والنضال من اجله مسؤولية وطنية وأمانة جماعية حملنا إياها شهداء الحرية والكرامة وهي إحدى تعبيرات الوفاء لتضحيات أجيال وأجيال.                                                                
إن القطع مع المنوال التنموي القديم المغلق والذي افرز بطالة وفقرا على المستوى الاجتماعي وعجزا ماليا وآخر تجاريا أصبح أمرا مفروغا منه كما أن الاعتماد على منوال آخر منفتح على العالم لا على دول بعينها والمعتمد على مصادر تمويل متعددة ومتنوعة أصبح مطلوبا أكثر من أي وقت مضى.       
إن ذلك القطع يتطلب عدم الاكتفاء بنمط التمويل التقليدي وتطعيم الدورة الاقتصاديـــة بأنماط تمويلية جديدة ومتجددة أثبتت جدواها فـــي كثيـــر مـــن الـــــدول المشابهة لبلدنا على المستوى التنموي  في معالجة ظاهرتي الفقر والبطالة كالتمويل الأصغر والتمويل الإسلامي. ونظرا  لنجاعة هذا الأخير  خاصة في مواجهة الأزمات المالية التي أنتجها النظام المالــــي العالمـــــي وكذلك في قدرته على استيعاب جزءا من القدرات البشرية التي بقت على هامشه.                                                                                              
 وبالعودة إلى مسالة التشغيل، كان لابد من تسجيل تراجع نسبة البطالة من 18.9 بالمائة في نوفمبــــر 2011 إلــــى 17 بالمائـــة في موفى أوت 2012 نتيجة إحداث أكثر من 72 ألف موطن شغل إضافي في القطاع الخاص، دون اعتبار الانتدابات في الوظيفة العمومية والمنشآت العامة والتي ستوفر 31.500 موطن شغل .                                                                           
وما يبعث على الأمل أن هذه الزيادة ب 72.400 موطن شغل رغم أنها أتت والبلاد لا تزال تتلمس طريقها نحو الاستقرار بعد أن عصفت بأركان دولة الفساد والاستبداد فاقت 43 ألف المسجلة قبل عام من الثورة أي سنة 2009 وهذا دليل على قدرة هذا المجتمع على رفع التحديات واستعداده للبذل والعطاء أكثر ما أن توفر له الأمن ولممتلكاته الخاصة والعامة وما استقر الوضع السياسي والاجتماعي في البلد. أما على مستوى آفاق التشغيل فمن المطمئن تسجيل مشروع الإستراتيجية الوطنية للتشغيل والتي تتضمن نتائج العمل المشترك الموجه لمصلحة المعطلين على العمل وهو مجموعة برامج تمتد من 2013 إلى 2017 لفتح سوق الشغل أمام حاملي الشهائد العليا. هذا المشروع في انتظار الإقرار وتوفير كل مستلزمات وشروط النجاح نظرا لأهميته الاجتماعية بحكم اندراجه ضمن مسار تحقيق أهداف الثورة ولأهميته الاقتصادية والتنموية عموما لما سينتج عنه من زيادة معتبرة للقيمة المضافة وذلك لطبيعة مواطن الشغل التي ستحدث ولنوعية المنتدبين.                                                                
ولعله من المفيد الإشارة في الختام إلى أهمية الاعتمـــاد الدائـــم على منهج الاستشارات الواسعة في مختلف المجالات التنموي وتفعيل العقد الاجتماعي الموقع عليه مؤخرا بين الحكومة واتحاد الشغل ومنظمة الأعراف والعمل على اتخاذ كـــل القـــرارات التي من شانها بسط الاستقرار السياسي والأمني وحسم ملفات الفساد القديم ووضع آليات مقاومة استمراره وتفعيلها.