في النفس والمجتمع

بقلم
عادل دمّق
هل يؤسس الإسلام لنظام ديمقراطي؟

 مواقف 

 
”مفاسد أسلمة الديمقراطية التــي لا تعدلهــــا مصلحـــة-  إن تطبيق الشريعة من خلال البرلمان هــــو طلب للشريعة مــــن غير وليهـــا. فاستئذان البرلمان في تطبيق الشريعة معناه جعله حكما على شريعة الله. والمسألة هنا ليست مسألة شكلية، بل هي فرق ما بين العبودية لله والعبودية للبشر من دون الله“ 
الدكتور إياد قنيبى :12.23. 2012
 
”....وأخطر ما في هذه المسودة أنها تقصي الإسلام عن الدولة وعن تنظيم حياة الناس  حيث تبنت نظام كفر: هز النظام الجمهوري ،فجعلت السيادة للشعب لا للشرع ...إن  تبني مشروع الدولة المدنية العلمانية حرام لأن الدولــة المدنية وجهة نظر غربية  يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها، فهي تخالف الإسلام جملة وتفصيلا “ 
رسالة مفتوحة من حزب التحرير-03.01. 2013
 
”لا ديمقراطية بلا علمانية: وإذا كانت الديمقراطية هى حكم الشعب بالشعب، وإذا كان الشعب متطوراً ومتغيراً، فإن تفكيره بالضرورة يكون علمانياً. ومن ثم تكون العلاقة حتمية بين الديمقراطية والعلمانية... ومن هنا يمكن القول بأنه «لا ديمقراطية بلا علمانية». وأضيف: لا ديمقراطية مع الأصولية الدينية لأن هذه الأصولية تتوهـــم امتـــلاك الحقيقـــة المطلقــــة، وتكفر مَنْ يكون على نقيض هذا الوهم“ 
مراد وهبة/ 30 ديسمبر2012 - جريدة المصري اليوم.
 
أضواء
 
”إنّ المواطن الذي يفشل في توحيد إرادته الذّاتيّة مع الارادة الموضوعية التي تجسّد الدرجة القصـــوى من العقلانية لن يحقق في سعيه حريّته الكاملة“
هيجل  -فلسفة الحق 
 
”لا يتسنّى استنباط أفضل القواعد التّي تنبني عليها المجتمعات والتي تناسب الأمم  إلا لقوّة فائقة العلم والحكمة، مطلعة على كــلّ أهــواء البشر دون أن تعرف الأهواء إليها سبيلا ... قوّة لا تكون لها أيّـة صلة بطبيعتنا و إن كانت تعرف أعماقهـا ..بكلمـة واحدة لا بــدّ من آلهة لسـنّ القوانين للبشر.. كيف يمكن لجموع عمياء، لا تعرف غالبا ما تريد –لأنها نادرا ما تعرف ما هــــو خير لها – أن تنفــــذ من تلقاء نفسها مشروعا في عظمة نظام تشريعي وعسره ؟...... لقد أتى محمد بأفكار جـدّ سليمة – وحبك بحذق نظاما سياسيا –وطيلة مابقي نظام حكمه قـائما في عهد خلفائه فقد ظل هذا الحكم يمثل نموذجا راقيــــا وصالحـــا من حيث هـو كذلك ...ففي مثل هذا النظام سيؤدي كل واجبه، ممتثلا للقوانين عن كـل طواعية والرؤساء عادلين وراشدين والقضاة نزهاء أعفاء والجنود بواسل لا يهابــون المــــوت –وســــوف لا يعـــرف مجتمع كهذا لا الترف ولا الحرص على متاع الدنيا الزائف- وكل هذا في منتهى الحسن والجمال ... إن النصرانية لا تدعو الى غير العبودية والاستكانة –وروحها  تلائم الاستبداد كل الملائمة وتستفيد منه على الدوام –فالنصارى الحقيقيـــّون خلقــــوا ليكونوا عبيـــدا ولا يعرفون ذلك ولا يضيرهم في شيء“
 صفحات 146  – 150–   152  روسّو – العقد الإجتماعي –
 
”هناك عقل مبــــدئ ، وهو الله ، والقوانيــــــن عبارة عن العلاقات التى توجد بينه وبين الموجودات المختلفة،وفيما بينها وبين بعضها، فعلاقات الله بالكون تتلخص فى أنه خلقه وفق قواعد وضعها هو، وهو يحفظه ويصونه وفق نفس القوانين التى خلقه بمقتضاها، فالعالم المادى والحال هذه مَسُود بقوانين لا تتغير لأنها أساس وجوده واستمراره...الإنسان يخرق باستمرار القوانين التي شرعها الخالق ويبدل تلك التي وضعها بنفسه ..هو كائن ذو بعد واحد، يتردى في الجهل والضلال ...“
 منتسكيو – روح القوانين –ص52و55- مكتبة لاروس -
 
آفاق التجاوز
 
المتابع للتطور الغالب لمواقف الاسلاميين من الديمقراطية يلحظ أنها قطعت مرحلتين : مرحلة أولى تميزت بالعداء والرفض ثم تلتها مرحلة جنحت للتفاعل والوفاق ، وأحسب أن في الأفق بوادر مرحلة  يكون فيها الدين شرطا قاعديا للتمكين لديمقراطية إنسانية منفتحة ومستفيدة !!!!
كيف ؟
من خلال مفهوم الإسلام للعقد السياسى وطبيعة التعاقد ، ومسؤولية الحكم والحاكم، ومكانة الأمة، وخصائص إرادتها، والعلاقة بينها وبين الحاكم، نتبيّن أنه ليس فقط بين الإسلام من الوجهة السياسية والنظام الديمقراطى أوجه تشابه، بل إن أهم ما تحتوى عليه الديمقراطية من عناصر، وأفضل ما تتميز به من صفات، يشتمل عليه الإسلام. فإن كان يراد بالديمقراطية (حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب)؛ فهذا المعنى متمثل ولا شك فى نظام الدولة الإسلامية والشعب يفهم فى الإسلام على نحو معين، أو شامـــل. وإن كان يراد بالديمقراطية ما صار يقرن بها عادة، من وجود مبادئ سياسية، أو اجتماعية معينة : مثل مبادئ المساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقــــق العدالـــة الاجتماعيــة، وما إلى ذلك، أو كفالة حقوق معينة كحق الحياة والحرية والعمل، وما أشبه فلا شك فى أن كل تلك المبادئ متحققة، وهذه الحقوق مكفولة فى الإسلام. غير أنه ينبغى أن يلاحـــظ أن نظرة الإســــلام إلى هذه الحقوق من حيث المنشأ الطبيعى تختلف، فقد تعتبر حقوقاً، أو تقــــرر على أنها هي الأصل فى الأشيــــاء، أو أنها هي القانون الذى وضعه الله للوجود، أو الفطرة، ولكن مع كل ذلك، لا يؤثر هذا الاختلاف فى النظرة فى طبيعة تلك الخصائص أو الحالات؛ والنتيجة واحــــدة، وهى أن الإنســــان تضمـــن له كل هذه الأمـــور. والواقع أن الشريعة الإسلامية إنما ترمى إلى أن تحقق العدالــــة المطلقـــة فى أكمل صورها، وأن توفر للإنسان أسمى وأكــــرم حيــــاة يمكن أن تتوفر تليـــق بإنسانيتــــه. أما إن كـــان المراد من الديمقراطية ما تعورف علـــى أن نظامهـــا يستتبعـــه، وهو تحقق مبدأ الفصل بين السلطات فهذا أيضاً ظاهر فى النظام الإسلامى فالسلطة التشريعية هنا، وهى أهم السلطات فى أى نظام ديمقراطى مودعة فى الأمة كوحدة، ومنفصلة عن سلطة الإمام، أو رئيس الدولة، فالتشريع يصدر عن الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة، أو الاجتهاد، وهو بهذا مستقل عن الإمام بل هو فوقه، والإمام ملزم ومقيد به؛ وما الإمامة فى الحقيقة إلا رئاسة السلطة التنفيذية والقضاء مستقل أيضاً، لأنه لا يحكم وفقاً لرأى الحاكم، أو الرئيس وإنما يحكم وفقاً لأحكام الشريعة، أى أمر الله، ولا يمكن أن يحكم إن أريد له أن يبقى قضاء إسلامياً إلا هكذا. وإن فكرة الإجماع التى هى من خصائص الشريعة الإسلامية، والتى انفردت هى بتقريرها، لتؤيد القول بأنه خُصِّصَ للأمة وإرادتها مكان فى النظام الإسلامــــى أرقـى مما يمكن أن تناله فى أى نظام ديمقراطى، مهما كمل. فالمسلمون قد قرروا -من قبل أن يظهر روسو وأمثاله ويتكلموا عن الإرادة العامة ويمجدونها - أن إرادة الأمة معصومة، وأنها من إرادة الله، وجعلت مصدراً للتشريع، وإن كانت تعتمد فى النهاية على مصدرى الكتاب والسنة، ومن الناحية العملية تمثل هذه الإرادة بإجماع المجتهدين من علماء الأمّة.
  
نظرات نقدية فى الديمقراطية 
 
لا شك أن الكلام عن الديمقراطية متشعب ، ومتعدد الجهات ، كما أن نقد النظرية ينبغى أن يشمل فيما يشمل المبادئ والغايات المرادة من ورائها ، ولا يقف فقط عند حد النقد العام ، أو نقد ما انتهت إليه النظرية فقط .ومن هنا فإنه ينبغى أن تقوم العديد من البحوث التى تتناول بالنقد والبحث الجوانب المتعددة لتلك النظرية ، وميزانها بميزان الإسلام .تشمل هذه النظرات إذن العديد من الجوانب ، لكنها - وفى ضوء ما سبق - لا تعدو أن تكون نماذج لما يمكن أن ينقد  وليس بالضرورة أهمه .على أنه لا ينبغى أن يفهم هذا النقد على أنه تبرير للواقع السياسى فى عالمنا الإسلامى ، أو مساعدة على إدامة أمد بقائه .
 
إشكالية الخصوصية 
 
إن المتتبع لتاريخ الديمقراطية فـــي العالـــم الغربـــى يستشعـــر أول ما يستشعر بمدى تأثير خصوصية الظرف التاريخى الكامن وراء نشأة وتطور الديمقراطية، فلعله إذا لم يكن بأوروبا كنيسة تحكم بالحق الإلهى، وأمراء يحكمون بالإقطاع لم يكن هناك ديمقراطيـة، أو على الأقل بصورتها الحالية، فلو كان هناك ظرف تاريخى مغاير لكان ينتج عنه نظرية سياسية مغايرة لما انتهت إليه الأحداث اليوم، وأدل دليل على ذلك أن الديمقراطية فى الغرب ليس صورة واحدة، ولا نظريـة واحـــدة، ولا تعريــف واحـــد، وبيـــن تطبيقاتهـــا كثيـــر من الاختلاف فى الدول الغربية نتيجـــــة كثيــــر مـــن الاختـــلاف بين الظروف التاريخية لتلك الدول . 
 
إشكالية الأصول الفكرية التاريخية 
 
ومما يؤكد الخصوصية: إشكالية الأصول الفكرية، فبقدر ما تحاول الكثير من التيارات الفكرية داخل مجتمعاتنا المسلمة التخلص بأكبر قدر وبأسرع وقت من أصولنا الفكرية الخاصة، بقدر ما حاول الفكر الغربى الحديث أن يبنى بنيانه على أساس من خصوصيته الحضارة الخاصة به، بدءاً من الفكر اليونانى والرومانى القديم. فى كتاب الحرية لجون ستيوارت ميل، ذلك الكتاب الذى يعد أحد الأســـــس فى الفكر الغربى الحديث، نجده يهتم بشرح مفهوم الحرية عند الأمم القديمة لا سيما اليونان والرومان، حيث يمثلان المنابع الأصلية للفكر الأوربى الحديث. ولا يخفى على متتبع للنهضة الغربية الحديثة مدى ما لاقاه الفكر اليونانـــي والرومانــــي مـــن إحيـــاء وبعث، ولو عن طريق مصادر وسيطة (كالمصادر العربية المترجِمة لكثير من ثقافة اليونان)، ثم الاعتماد عليه بعد ذلك فى التطوير والتجديد. ولهذا فإن كل المحاولات الحديثة لإفقاد المسلمين الخصوصية الحضارية إما محاولات للسيطرة إن كانت من الآخر، أو محاولات للالتحام به والتبرى مـــــــن الحضــــارة الإسلاميــــة إن كان ذلك من الدّاخل. ولا يمكن أبدا أن تكون هناك محاولة مخلصة للتقدم والرقى والتجديـــد والإصــــلاح إلا وهى تعنـــى تمامــــا بالارتكاز على الخصائص والأسس الحضارية والفكرية للأمة المسلمة .
 
إشكالية التميز الإسلامى
 
فى ضوء ما سبق من إشكالية الخصوصية، وإشكالية الأصول الفكرية التى تميز الحضارات بعضها عن بعض، يتقرر التميز الشديد للفكر الإسلامى، فى تصوراته ومبادئه وأطروحاته - مع ملاحظـــة أن الكلام هنا على مستوى النظريات والأفكار بقطع النظر عن مدى انفصال أو التحام الواقع بها. ويؤكد هذا اختلاف المركز الحضارى نفسه لكل من الحضارتين الإسلامية والغربية، فبينما يمثل النص مركز الحضارة الإسلامية، يمثل الإنسان مركز الحضارة الغربية (*).  فأنى يأتى الاتفاق، والاختلاف يبدأ من مركــــز الحضـــارة، من نقطة الانطــــلاق الحضـــاري، فكيــف تتأتــــي نقطـــة التقاء بين حضارتين افترقتا ابتداء منذ لحظة انطلاقهما، ومن هنا كان الإسلام يمثل التحدى الحضاري الحقيقي للهيمنة الغربية. ومن هنا أيضا لا بد وأن تحيط نظرات الشك والارتياب بكل محاولات المقاربـــات بين الفكرين والحضارتين، وخاصة من الداخل، فتلك المحــــاولات لن تخرج عن أن تكون جاهلة بتمايز الحضارة الإسلامية تمايزا يمنع حتى المقاربة، أو تكون محاولات غير مخلصـــة للقضـــــاء على ذلك التمايز، والارتماء فى أحضـــان الآخر انبهــارا، أو انهزاما أمام حضارته .
 
إشكالية المثل والأخلاق
 
وهذه القضية يتسع القول فيها للغاية، حيث تعود إلى أحد النقاط الفارقة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، الفكر الإسلامي بمعياريته النصيّة، ومطلقاته الإيمانية، وبين الفكر الغربى بمعياريته الوضعية، والتي رغم وضعيتها خرج عنها، ولم يبق عليها انطلاقا إلى النسبية المطلقة، وإنكار المطلق . هذه الكلمات القليلة السابقة كافيـــة عند الوعى بها إلى إدراك مدى النقد الذى يمكن أن يوجه إلى الديمقراطية التقليدية التي وضعت فى إطار المعيارية الوضعية، أو ذلك النقد الذى يمكن أن يوجه إلي الديمقراطيـــة المعاصـــرة التي وضعت فى إطار النسبية المطلقة، وإنكار المطلق .ولهذا فغني عن البيان إيضاح الفروق بين المثل والأخلاق الإسلامية التى ينبغي أن تتوخّاها النظرية السياسية الإسلامية ، وبين تلك المثل التي توختها أو خرجت عنها النظرية السياسية الغربية .
 
إشكالية المصدرية
 
مفهوم المصدر أحد المفاهيم الفارقة ، التى تتحدد بناء عليه كثير من القضايا التى يفترق فيها الفكر الإسلامى عن الفكر الغربى، حيث تتشكل فى ضوئه مفاهيم أخرى هامة تمثل حجر أساس فى نظرية الديمقراطية كالإرادة العامة والسلطان والدولة .فالإرادة العامة تمثل أحد الأسس النظرية للديمقراطية. ومن جانب آخر فالإرادة العامة داخلة فى مفهوم الأمة فى الإسلام. ومن هنا يكون الفرق بين مفهوم الإرادة العامة في الغــــــرب وفي الإســــلام. فهذه الإرادة -وحدها في الغرب - هي مصدر القانون، وهي وحدها التى تمارس السلطان، وتوجه قوى الدولة. على حين أن مصدرية القانون فى الإســــلام هي للشرع، والأمة بأسرها مؤتمنة على هذا الشرع وعلى تطبيقه، وعلى رقابة من أسند لهم مهمة التطبيق، فالإرادة العامة فى الإسلام مسئولة عن مراقبة تطبيق الشريعة، وليست هي مصدر التشريع. بل إن هذا الإشكال ينبنى على اختلاف المركز الحضـــارى نفســـــه لكل من الحضارتين الإسلامية والغربية، فبينما يمثل النص مركز الحضارة الإسلامية، يمثل الإنسان مركز الحضارة الغربيـــــة. وبينما تعلي الحضارة الاسلامية القيم تعلــــي الغربيـــة الشكــــل ( دراجـة = ذات العجلتين )
ويتفرع على ذلك اختلاف كبير فى مفهوم السلطان والدولة، وواجبات كل وحقوقه .ففى حين يدور الكل حول الشرع أخذا وتطبيقا وحماية ودفاعا وخدمة فى الحضارة الإسلامية. يدور الكل حول الإنسان فى الحضارة الغربية سعيا لتحصيل المتعة والسعادة له (*) .إن النموذج الذى يقدمه ذاك المتحــــد بالآخـــر من أنه لا بدّ من التخلص من المصدرية الإسلامية بخصوصيتهــــا، بل التخلص من الإيمـــان بالله -مطلق الإيمـــــان- حتى يمكن التقدم واللحــــاق، هو نموذج لم يصنعه كل مفكرو الغرب، بل وجد منهم -من هؤلاء الذين ساهموا بشكل أساسى فى تكوين تلك الحضارة- من يدعو بقوة للإيمان بالله، ولا شك أن هؤلاء تمثل أزمتهم مع الإيمان أزمة كنسية فى المقام الأول، حتى اضطروا إلى الخروج إلى مطلق الإيمان بالله، بعد أن عجزت الكنيسة عن الإجابــــة. بل وجد فيهم من قارب بفكرته عن الله وعلاقته بالموجودات من فكرة شرع الله فى الإسلام . فمنتسكيو فى كتابه الهام (روح القوانين) والذى يعد أحد أعظم ثلاثة كتب قادت الفكر السياسي والاجتماعــــي الأوروبي فى القرن الثامن عشر. يرى أن" هناك عقــــل مبدئ، وهــــو الله، والقوانين عبارة عن العلاقات التى توجد بينه وبين الموجودات المختلفـــة، وفيما بينها وبين بعضها، فعلاقات الله بالكون تتلخص فى أنه خلقه وفق قواعد وضعها هو، وهو يحفظه ويصونه وفق نفس القوانين التى خلقه بمقتضاها ، فالعالم المادى والحال هذه مَسُود بقوانين لا تتغير لأنها أساس وجوده واستمراره" .كما يرى مونتسكيو أنه لا بد من الاستعانة بالدين والروح الدينى فى تهذيب الأخلاق، وتمســـك الأفـــراد بالفضيلـــة التــي هي في إطاعة القوانيــــن .وأنــــه من المفيد جدا أن يعتقد الناس في وجود الله؛ لأن في نكران وجوده تأكيدا لاستقلال الأفراد (أى لضياع حقوقهم)، فحيث لا يكون لديهم إيمان فإنه يتبعه بالضرورة عصيانهم وتمردهم .بل يذهب مونتكسيو إلى أن التدين بأى دين خير ألف مرة من عدم التدين مطلقا كذلك يرى الفليسوف الهولندى الشهير سبينوزا أن العالم يسير بالقضاء والقدر، وأن كل ظواهر هذا العالم فيزيقية كانت أم إنسانيــــة إنمـــا تعتمد علـــى الإرادة الإلهيــــة .!!إن هذا الفكر أقرب إلى روح الإسلام منه إلى الوضع الذى انتهت إليه الحضارة الغربية اليوم .!!!
ومن الممكن المضى قدما والقول بأن الشريعة فى إطار هذا التصور هى الأساس التى يصدر من خلالها الحاكم، ويعتمد فى تصرفاته، فهى مجموعة القواعد والقيم التى يلتقى حولها الجميع ويؤمنون بها، وبسلامتها كشريعة خاتمـــــة، بينمـــا اضطـــر مفكـــرو الغرب إلى الخروج عن ديانتهم حيث قصرت عن إعطاء الإجابات الصحيحة والملائمة للنمو والتقدم، فالخروج عن الكنيسة - وليس عن الإيمان - ضرورة فى إطار الفكر الغربى، وليس هو كذلك فى إطار الفكر الإسلامى .إذن فليست مصدرية الشرع الإسلامى فكرة ثيوقراطية، وليست الحكومة القائمة على هذه الفكرة هى حكومة ثيوقراطية، كما يحلو لمعارضى الحكم الإسلامى أن يصورها .
 
إشكالية السيادة
 
فكرة السيادة فى الغرب منتزعة من الصراع بين الكنيسة كسلطة إلهية وبين الجهات المعادية لها ، وهى جهة الملوك والإقطاعيين ومؤيديهم من الفلاسفة والمفكرين .والأسئلة التى تطرح بعد ذلك هى :
هل لأسباب نشأة السيـــادة كمــــا هـــي في المفهوم الغربي اعتبار ما في النظام الإسلامي ؟ وهل مضمون نظرية السيادة وأساسها يتفقان مع ما تقدمه النظرية الإسلامية فى سلطة الدولة من مضمون وما تستند عليه من أساس ؟ وهل لهذا الجــــدل الفكـــري فى الغرب وما نشأ عنه من مذاهب ونظريات اعتبار عام فى كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، بحيث يصلح كله أو بعضه لأن يردد فى بيئة أخرى ؟
فلئن فصلت المسيحية بين الدين والدولة حتى تميزت البلاد المسيحية بوجود سلطتين منفصلتين : سلطة الكنيسة، والسلطة الزمنية، ولئن أدى ذلك الفصل مع أسباب أخرى إلى ذلك الصراع المرير الذى استمر طيلة القرون الوسطى وحتى القرن 18 ، والذى ما زال يجد صداه فى الخطابات البابوية والقرارات الكنسية للفاتيكان وإلى يومنا هذا، وكأنهم لا يريدون أن يعترفوا للواقـــــع بوقوعـــه. لئن حدث هذا فى الغرب المسيحى وفى ظل المسيحية، فإن الإسلام لم يعرفه، بل هو بطبيعته لا يمكن أن يعرفه، فالإسلام لا يقر وجود سلطتين منفصلتين، وإنما الإسلام نظام شامل. وقد قرر مفكرو الإسلام هذه الحقائق، وبينوا خصائص الإسلام، حتى عاد كل ذلك -كما كان - بديهيــــا، حتـــى في أذهـــان كثير ممن كانوا ينكرون على دينهم ذلك .ومن هنا لم يكن للفقه الإسلامي أن يعرف نظرية السيادة كما عرفها الغرب ، وكما لا يعرف نظرية السيادة فإنه أيضا لا يعرف تعبير السيادة . وإذا كان الإسلام لا يعرف السيادة لا نظرية ولا تعبيرا؛ فإنه يعرف ولا ريب نظرية السلطة والسلطان .
إن السلطة طبقا للنظرية الإسلامية مقيَّدة بأحكام القرآن والسنة، التى تشكل نوعا ساميـــا مـــــن القانـــون الدستـــورى الذى يعلو على القانون الدستورى الوضعـــي. وهناك ضمانات تقييد السلطة فى النظرية الإسلامية للشورى، وفي الحقيقة فإن نظرية السيادة -كما هى فى الفكر الغربى- لا تعـــرف هـــذه الضمانــــات بحكم أنها لا تعرف فكرة التقييد ذاتها، ولا تعترف بها. أما النظرية الإسلامية فلم تكتف بوضع قيود على السلطة، وإنما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد  وهذه الضمانات على نوعين:
تمثل أولاهما في الشورى بما تمثله من ضرورة رجـــــوع الحكـــام إلى الأمة في الأمور الهامة .والثانى يتمثل في الرقابة من الأمة نفسها علي تصرفات الحكام ، وحقها فـــي عزلهــــم إن صدر منهم ما يبرر ذلك .إن هذه النتيجة تدعو ليس فقط إلى تبرئة الفكر القانونى الإسلامى من كل صلة بنظرية السيادة  وإنما تدعو كذلك إلى تخليص الفكر القانونى المقارن من هذه النظرية ؛ لأنه ونظرية الاستبداد سواء بسواء .إنه لا توجد سوى نظرية واحدة صالحة للسيـــادة هــــي تلك التي تقرر أن الله الخالق هو صاحب السيادة على العالم المخلوق ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ( الأعراف 54).
ولكن فى النظام السياســــي وبالنسبـــة للحكـــام مـــن بني البشر، فإنه لا يمكن استخدام نظرية السيادة استخداما صحيحا ذلك أنه طبقا للتحليل النهائي لفكرة السيادة فإنه لا توجــــد سلطــــة دنيويـــة يمكــــن اعتبارهـــــا صــــورة الله علــــــى الأرض، أو نائبة عن الله فى الأرض . فالله هو مصدر السلطة التى يوليها الشعب هؤلاء الحكام  ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ﴾ ( ص 26) .
فالحاكم يحكم بين الناس، لا الناس– الحاكم لا يشرع  وإنما يدير -  التشريع لله، الإدارة شأن عام : ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ ( الشــــــــورى 38).  وعلـــى ذلك فإن هؤلاء الحكام ليسوا نوّابا عن الله، وإنما هم نـــــواب الشعب، ولا يمكن أن ينفصلوا عـــن الشعـــب ويتميـــزوا عنــــه ليحكموه من عل.وما دام مثل هذا الاسم لم يوضع ، أو لم يهتد إليه بعد فيكتفى بأن يشار إليها على أنها (النظام الإسلامى) فإن كان لابـــد من استعمال لفظ ديمقراطية مع مراعاة الفوارق الأساسيـــة فيمكن أن يوصف هذا النظام على وجه تقريبى بأنه ديمقراطية، إنسانية، عالمية، دينيــــة، أخلاقيــــة روحية ومادية معاً، أو يجوز أن تجمع كل هذه الصفات فى تعبير موجز، فيقــــال : إنها الإدارة الراشدة. ولا مشاحة في الالفاظ . 
وفى الختام أذكر ما قاله د.فتحي عبد الكريم  كخلاصة وافية لخصائص النظام الإسلامى : ((إذا أردنا أن نوازن بين الإسلام وسواه من النظم الحديثة هالنا الفرق، بين دين لحمه وسداه الديمقراطية الحقة ، ومذاهب تضلل باسم الديمقراطية الناس والأمم، لتوســــع نفوذها فى الأرض))- الدولة والسيادة فــــي الاســــلام - ص 344 ، وما بعدها .
(*) فبينما يمثل النص مركز الحضارة الإسلامية ، يمثل الإنسان مركز الحضارة الغربية: من المفارقات المدهشة حقا أن حضارة النص آلت إلى الأنسنة والتكريم والهداية في حين آلت حضارة الإنسان الى الإغتراب والعبث والتيه – أذلك لأن النص حاصر الأهواء ( قد أفلم  من تزكى وذكر اسم ربـــــه فصلــــى ) في حين أن الإنسان استعلى ( أرأيت من اتخذ إلاهه هواه ) ؟