وجهة نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
الاستقالات الحزبية: مبرّرات ومحاذير

 تُعدّ ظاهرة الاستقالات التي عرفتْها ولا زالت تعرفها الأحزاب التونسية واحدةً من أبرز الظواهر السلبية التي طالما شغلت الرأي العام السياسي والإعلامي.

ونظرا لما تمثله هذه الظاهرة من دور في إرباك المشهد الحزبي والسياسي وإضعاف مسار الديمقراطية في بلادنا، أجد من المهم كثيرا التوقفُ عندها بالتحليل والتقويم مساهمة في الإنارة والترشيد.
 
دوافع الاستقالات الحزبية
 
عموم الذين انخرطوا في التنظيمات الحزبية، وعايشوا الأحزاب السياسية في تونس، يدركون جيدا أسباب الخلافات الداخلية، ودوافع استقالات بعض المنتظمين سواء كانوا أفرادا أو مجموعات، وهي في نظري وانطلاقا من تجربتي في العمل الحزبي والسياسي ثمانية أسباب أساسية:
1-افتقاد المؤسسة الحزبية لتقاليد التسيير الديمقراطي، وطغيان الطابع الفردي على أدائها. فزعيم الحزب جرت العادة أن يأخذ القرارات السياسية، ويعقد التفاهمات والتحالفات دون رجوع إلى القواعد والمؤسسات لاستشارتها أو إشراك ممثليها، مهما كانت أهمية ما يتم عقده أو خطورته على جسم المؤسسة الحزبية ومستقبلها السياسي.
2-انحراف الحزب عن المبادئ والأهداف المنصوص عليها في الوثائق التأسيسية، وعدم اكتراثه بما يوجه إليه من نقد وبما يلقاه من احتجاج، مهما كان حجم الناقدين المحتجين، ومهما كانت خططهم التنظيمية. وعادة ما تتحصّن القيادة الحزبية في مثل هذه الأحوال بتأويل النصوص المرجعية طورا، وادعاء تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية طورا آخر.
3-تعرّض بعض الأعضاء الحزبيين للتجاهل الدائم والتعتيم المقصود والتهميش التنظيمي، وعدم إشراكهم في تحمل المسؤوليات والأنشطة، بسبب عدم انسجامهم مع قيادة الحزب أو بسبب تصدرهم لحملات نقد مواقفها وأدائها.
4-تكلس المؤسسة الحزبية، وعدم قدرتها على مسايرة التطور الحاصل في الواقع، وعجزها عن تعصير طرقها ووسائلها في الإدارة والتسيير والنشاط، وتصادمها مع الأجيال الجديدة المتحفزة للتجديد والتغيير.
5-غموض الرؤية السياسية والفكرية لدى بعض المنتظمين، وعدم قدرتهم على استيعاب الفلسفة السياسية التي يتمحور حولها النشاط الحزبي، وعدم إدراكهم لجوانب التمايز عن سائر الأحزاب المنافسة على الساحة السياسية، وتقصير المؤسسة الحزبية في تسويق فلسفتها وتوضيح رؤيتها في العمل السياسي.
6-تعصب بعض الأعضاء في مستوى القاعدة أو في مستوى القيادة لآرائهم الشخصية ومواقفهم الذاتية، وعدم استعدادهم لمجاراة مواقف الأغلبية ومسايرة متطلبات الديمقراطية، وانخراطهم في الأنشطة التنظيمية المخالفة والتصريحات السياسية المناوئة.
7-النزعة الوصولية لدى بعض المنتظمين الذين يعملون بكل الطرق والأشكال الممكنة على الوصول إلى مراكز القرار، وتحمل المسؤوليات ذات الأهمية التنظيمية والسياسية دون امتلاكهم لمقتضيات المسؤولية من دربة وكفاءة وفاعلية وتفرغ، ودون احترام للآليات الديمقراطية التي تؤطر العلاقات التنظيمية والخيارات السياسية.
8-اضطرار بعض الأعضاء الحزبيين للانسحاب نهائيا من المؤسسة الحزبية التي ينتسبون إليها لأسباب ذاتية صرفة، من ذلك بروز الموانع الصحية أو العائلية أو المهنية أو المادية أو القانونية.
 
مخاطر الاستقالات الحزبية
 
لا يولي في غالب الأحيان النشطاء السياسيون أهمية كبرى لما يحدث في أحزابهم من استقالات وانشقاقات. وكثيرا ما يهوّنون من تأثيراتها السلبية بمنطق الغربلة لخلق الانسجام والتجانس الضروريين في العمل السياسي، ويظلون على هذه العقلية وهذا الأسلوب في التعاطي مع المنسحبين إلى أن تتحول أحزابهم إلى مجرد طوائف سياسية.
إنّ الاستقالات الحزبية بقطع النظر عن مشروعية أو لامشروعية دوافعها تكتسي خطورة كبيرة على المستوى التنظيمي الحزبي من جهة، حيث تتعرض المؤسسة الحزبية إلى الإرباك والزعزعة فتفقد تماسكها وتوازنها، ويضعف أداؤها، وتتشوه صورتها لدى الرأي العام، وتبتعد بالنهاية عن لعب أدوار مؤثرة في الحياة السياسية.  وعلى المستوى السياسي العام من جهة ثانية، حيث تعجز الأحزاب عن تجذير الديمقراطية، وعن تحقيق مبدإ التداول السلمي على الحكم.
 
تطويق الاستقالات: مصلحة وطنية
 
في مثل هذه المرحلة الانتقالية التي يخوض فيها التونسيون معركة التحرر من براثن الاستبداد والفساد، تبدو تونس في حاجة أكيدة إلى أحزاب قوية متماسكة في هياكلها ومنتظمة في أدائها، حتى تكون قادرة على لعب أدوار فاعلة في بناء الديمقراطية وقطع الطريق على قوى الجذب إلى الخلف.
وهذا يقتضي تطويقا جذريا لحالة التشظي الحزبي والتردي السياسي، التي طبعت لوقت طويل الحياة السياسية التونسية، ولن يكون ذلك ممكنا إلا متى تشبعت الأحزاب بالديمقراطية، وتحلت بما يكفي من الإشراك والاستشارة والاحترام والشفافية والمرونة، ومتى تحلى الأعضاء الحزبيون بالمبادرة والمثابرة والمرابطة والضغط بجميع الوسائل الديمقراطية عند الضرورة، والتحرك بعقلية القيادة وروح الجماعة في تحمل الأعباء الحزبية وتعميق الرؤية وتوضيح المسار، والاحتكام في جميع الأحوال للمنافسة الشريفة،  والتحرر من النزعة الوصولية والتعصب الأعمى.
فهل تنجح الأحزاب التونسية في وقف نزيف الاستقالات الانشطارات والتحول بالتالي إلى قوى سياسية فاعلة يراهن عليها التونسيون في تحقيق أحلامهم في الحرية والديمقراطية والكرامة؟ أم سيظل الحال على ما هو عليه ويبقى بذلك التناوبُ على الحكم حلما يراود الواهمين؟