وجهة نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
مُسنّة بين مخالب الفقر

 في سياق نشاط تجاريّ لي، قصدتُ ذات صيف ولاية القيروان برفقة أحد الأصدقاء لأقوم بجلب حمولـــة من غلــــة الصبّــــــار المعروفة لدى التونسيين باسم "الهندي".

ولما كنتُ في مستوى مدينة حاجب العيون، توقفتُ على حافة الطريق أين كان ينتصبُ كثيرً من الفلاحيــــن عارضيــــن غلتهــــم في أكياس بلاستيكية مرصّفة على طول مسافة أميال من القارعة، وجعلتُ أدقّق النظر في المعروضات مُتبيّنا أحسن الأثمان وأجود الغلال.
وبينما أنا على ذلك الوضع اقتربتْ منّي سيدة ريفيّة مُسنة تستعينُ بعكّاز على مشيتها الثقيلة، وعرضتْ عليّ أن أشتري غلّتها، وألحّتْ في شأنها، وأطنبتْ في مدحها، فلم أجد لعرضها مانعا، وانطلقتُ معها أنظرُ فـــــي أكياسهـــــــا مُشترطا في إنهــــاء إجراءات الشراء أن لا تكون الغلّة قديمـــــة، وأن لا يختلــــف ما في واجهة الأكياس عمّا في باطنها.
وقد جرى الاتفاق بيننا على تلك الشاكلة.
وما كدْنا نُفرّغُ الكيس الأول في الشاحنة حتّى تبيّن لنا فسادُ الكثير من غلاله وعدمُ صلاحيته للاستهلاك لِما ظهر عليه من تعفّن.
عندها اعتذرتُ عن إتمام عملية الشراء وفق ما اتفقنا عليه، وقدّمتُ لها ثمن ما أفرغْناه في العربة، فتناولتِ النقود، وجعلتْ تفحصُها وتعدّها، ثم دسّتْها في حضنها وقالت لي:
عليك يا ابني أن تشتري بقية غلالي، مادُمت قد شرعت في عملية الشراء.
قلتُ لها بلطف:
»يا سيدتي، وماذا عساني أفعلُ ببضاعة فاسدة؟
هل تقبلين بأن أشتريها لأتلفها؟«
أجابتْ بصوت ضعيف:
»وماذا عساني أفعلُ إذا لم تشتر بضاعتي؟«
وأضافتْ في غُصّة:
»هل يُرضيك أن أموت جوعا؟«
»هل يُرضيك أن يظلّ المرضُ ينخرُني ولا أجدُ ما به أسكّنُ وجعي؟«
قلت لها وأنا أرقّ لحالها:
»ولكن يا سيدتي، أنا لا حيلة لي في الأمر«.
وأضفتُ ملطّفا من لوعها:
»حسبك الله، فعساهُ يجعلُ لك بابا للرزق من حيثُ لا تشعرين«.
قالت وهي تُشير بيديها المُرتعشتين:
»لن تبرح هذا المكان قبــــل أن تشتــــري غلالـــي حتّى أوفّر لنفسي ما به أسترُ حالي«.
ظننتُ أنّها على إصرارها لا يمكنُ أن تتجاوز حدود جدالهــــا فقلت لها وأنا أودّعُها:
»كان الله في عونك وشدّ أزرك«.
وصعدتُ صحبة مُرافقي شاحنتي الصغيرة لنواصل طريقنا.
وما كدتُ أهمّ بتشغيل المحرّك حتى اقتربتْ منّي، وأمسكتْ المقود بقبضتيْها قائلة:
»إذا أردت أن تغادر هذا المكان بأمان فما عليك إلا شراء بقية غلالي«.
تملّكني صمتً وأخذتني حيرة ومرارة، وظللتُ أفكّـــر فـــــي محنة هذه العجوز وفي محن غيرها من المعدمين والفقراء والمهمشين، وأنا أستحضر شخصية سيدنا علي ابن أبي طالب وهو يقول:
”عجبتُ لمن لا يجدُ القوت في بيته كيـــف لا يخرجُ شاهراً سيفه على الناس“ .
في هذه اللحظة تجمهر من حولنا كثير من الباعـــة المنتصبيـــن على قارعة الطريق، وقد تفحمتْ وجوهُهم من الحرّ، وارتسمتْ عليها آيات العسر وعلامات القهر.
نظرتُ في عيونهم الغائرة، وتفحّصتُ فــــي وجوههــــم الشّاحبة كأنّي بي أحكّمهم في الأمر، غير أنهم بدوْا واجمين عاجزين عن فعل شيء من فرط تردّدهم، تردّد بيْن أنْ ينتصروا لهذه المُسنة من باب اشتراكهم معها في لوعة الفقـــــــــر وفي الروابــــط العشائريــــة، وبيْن أن يتدخّلوا لفائدتـــــي من باب العـــــدل لإقناعها بالحسنى حتّى تتخلي عن مطلبها غير المعقول.
وبعد وقت غير قصير من الفراغ والانتظار وتبادل النظرات والهمسات، تقدّم بعضُهم مُوعظا ومُعقّلا، وكان التوفيقُ حليفهــــم في فك قبضتها ورفع تسلطها بعد زهاء ساعة من الاحتجاز، فواصلتُ طريقي حُرّا طليقا.
غير أنّ شبح هذه العجوز ظلّ يُلاحقني، ويُخيّمُ عليّ، وظلّتْ تصريحاتُها بالفقر وتلميحاتُها إلى القهر يفعلان في نفسي وخْزا وألما، ويملآنها أسى وحسرة على ما تلقاهُ، بلْ على ما يلقاهُ آلافُ الناس في أصقاع وطني منْ محن شتّى وأشدّها بهم فتكا محنة الفقر.
وعبثا تساءلتُ ولطالما تساءلتُ:
»منْ يا تُرى لهؤلاء المُعدمين في مثل هذه الربوع النائية ؟
ومنْ ذا الذي يسمعُ أنّاتهم وآهاتهم مهما بلغتْ بهم الويلاتُ واللوعاتُ ؟«.
سألتُ مُرافقـــــي وقد أخــــــــذه وُجـــــوم بالــــغً وسكنـــهُ تأثّرً بيّنً، إذا كان يُشاطرني الرأي في العودة على الأعقاب لشراء غلال العجوز التي قامتْ باحتجازنا، على أن نتولّى إتلافها في طريقنا لاحقا لعدم صلاحيتها، وعسى ذلك يُخفّفُ شيئا من ضيْمهــــا ويكونُ لنا صدقة جارية بإذن الله.
أجابني صديقي على الفور موافقا مُتحمّسا كأنّه كان يتهيّأ لمفاتحتــي في نفس الأمر.
وما إن عُدنا وأنجزْنا العملية، حتّى هشّــــتْ المُسنّةُ وبشّـــتْ، وهلّتْ وشكرتْ، ودعتْ لنا بالخير قائلة:
»سيرُوا في حفظ الله وعوْنه«.
واصلنا طريقنا لإنجاز أهدافنا بشيء من الارتياح، ولم يزلْ صديقي يُمطرني بخطاب السُّخط على وضع البؤس قائلا:
»أين هم أغنياؤنا من لوْعات فقرائنا؟«
»أين هُم أُولُو الأمْر وأصحابُ العزْم عندنا منْ قيم العدل والمســــاواة؟« أين هم جميعـــــا من الخليفــــة عمر بن الخطاب وهو يقول:
”والله لو أنّ بغلة عثرتْ في بلاد الشام لسُئلتُ عنها: لِمَ لمْ تُمهدْ الطريق لها يا عمرُ“.