الكلمة الحرّة

بقلم
توفيق الشّابي
عن الاستقطاب والانغلاق الفكري

 حالة الاستقطاب الفكري والسياســـي التــــي تعيشهـــا تونـــس بعد الثورة ليست جديدة، بل تبدو ممتدة فـــــي تاريخنـــا وخاصــــة في القرن العشرين ابتداء من تاريخ الحزب الحر الدستوري وانقسامه  إلى قديم وجديد ثم الصـراع بيـــن بورقيبــــة وبن يوسف  مع بداية الاستقلال وانتهاء بالصراع بين الإسلاميين والعلمانيين وخاصة اليساريين.  ومن بين القضايــــــا الرئيسية في هذا الصراع هو الاختلاف حول موقع الدّين في كـــــــلّ مـــن المشروعين إضافة إلى النزوع المتطرف لدى كل مجموعة للتمسك بآرائها. ونحن نتأمل كل هذا التاريخ وما خلّفتــــه حالــــة الصراع هذه من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية، ثمّة سؤال ملحّ يتردّد في الذّهن حول قابليّة النخبــــة التونسيـــة بكل أطيافها للانفتاح على الآخر والتفاعل مع ما يستجد من أفكار ومظاهر اجتماعية وسياسية وثقافية. 

 
عموما، يُعرف عـــن التونســـي انفتاحــه خاصة على الآخر الخارجي لكن عندما يتعلق الأمر بالآخر داخليا يصبح الوضع مختلفا (أقصد بالآخر هنا الأفراد/الجماعات/ الأفكار/الظواهر الناشئة وغيرها خارج الأنا). هنا تتدخل الإيديولوجيا والأفكار المسبقة والمراهنات السياسية لتولّد حالة من الانغلاق تُفقد صاحبها القدرة على التّطوّر والمراجعة والنقد والتواصل مع الآخر. طبعا لا نعمم كثيرا، فثمة دائما استثناءات، لكن فــــي قــــراءة عامــــة للمشهـــد ذالك ما يترسب في الذهن وما يُترك من انطباع. ربّما نحن  بحاجـــــة لدراســـة كاملــــة عـــن تطـــور مواقف الأحـــزاب و الجماعات من قضايـــا عديــــــدة  للإجابة عن هذا السؤال.
 
كل هذه التداعيات مرت بذهني بعد أن لفت انتباهي خبر حول مناقشة حزب الوطنيين الديمقراطيين خلال مؤتمره الأخير (أوت 2012 ) لائحة عن المسألة الدينية في تونس وهي المرة الأولى ،حسب اطلاعي، التي يناقش فيها حزب يساري راديكالــي فـــــي تونس هذا الموضوع مخصصا لائحة للتداول والنقـــــاش. اليسار الذي عرف عنه موقف من الإسلام لا يبتعـــــد عن المقولة السائدة "الديـــــــن أفيــــون الشعـــوب". هل يتعلق الأمر إذا بمراجعة ومحاولة جادة، ولو أولى، لتناول الموضوع في ظل المتغيّرات منذ سقوط جدار برلين؟ أم مازال في حدود الموقف السياسي البراغماتي من أجل تحييد هذه المسألة؟.
 
بقطع النظر عن الإجابة، أعتبر أن الأمر خطوة أولى في الاتجاه الصحيح ولو كانت متأخرة، لأنه يعني نوع من الاعتراف بأن الإسلام معطى موضوعي ومتأصل في المجتمع التونسي ولا يمكن لأي متدخل في الشأن الفكري والسياسي وبأي حال من الأحوال التغافل عنه وعدم التفاعل معه. خاصة وأن النصوص المؤسسة للإسلام نصوص في عمومها مفتوحة وقابلة للتأويل وكل ما أبدعه المسلمون حول هذه النصوص لا يتمتع بأية قدسية بل هو اجتهاد ورأي ضمن شروطه التاريخية. وفي تونس بالذات لدينا اجتهادات وتصورات متعددة ومتنوعة،حد التناقض، حول الإسلام ومختلف قضاياه الفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية. وهي تصورات لمجموعات وأفراد: حزب التحرير/  حركة النهضة/الإسلاميون التقدميون/ الدستوريون/ هشام جعيط/محمد الطالبي/ عبد المجيد الشرفي/يوسف الصديق وغيرهم. 
 
لقد تأخر اليسار في الوعي بهذا الأمر بل كان سجين تصور ماركسي غربي هو أيضا ولد ضمن شروط تاريخية واجتماعية معينة. هذا التأخر ساهم بشكل كبير في عزل اليسار كفكر وأشخاص عن المجتمع  وجعله نخبويا وقليل التأثير في العامّة. كما ساهم من جهة أخرى في إطالة الصراع داخل النخبة التونسية حول مسألة الهوية وهو صراع اتخذ أشكالا وأساليب متعددة وأخَّرَ لسنوات كثيرة دخول البلاد في مسار ديمقراطي تعددي يمكن للجميع الانخراط فيه. و لو لا الثورة وما منحته من أفاق جديدة لتواصل الاستبداد لسنوات أخرى. 
 
هذا نموذج من بين نماذج أخرى عديدة لتيارات فكرية وسياسية يعكس الصعوبات التي تواجهها النخبة التونسية لتطوير أفكارها ومراجعة نفسها تفاعلا مع الواقع ومع الآخر. هذه الصعوبة تساهم اليوم بشكل غير مباشر في تعطيل محاولات التوافق بين الفرقاء وشحن الاستقطاب الذي نعيشه، والخطير أن هذه العلة التي تصيب نخبنا ممتدة نسبيا داخل المجتمع وهو ما يمكن أن يهدد الوحدة ويربك مسيرة التحول الديمقراطي المنشود بعد الثورة.