مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
التنمية حرية وقدرات

 في مواجهة المسائل الاقتصادية الكبرى تطرح اليوم أمام الباحثين والأكاديميين عدد من  التساؤلات قصد تلمس حلول ناجعة لها مساهمة في ترشيد سياسات تنموية تقطع مع مفاهيم للتنمية سادت لعقود لم تزد الوضع إلا سوءا في مجالاته البيئية والاقتصادية والاجتماعية فتدهورت كثيرا من الخدمات الصحية وتراجع المستوى التعليمي وتفاقمت معضلة التشغيل.

هذه التساؤلات يمكن أن تتمحور حول ثلاث نقاط كبرى أولها الأساسات الصحيحة لكل الاختيارات الاقتصادية بعد معرفة مكمن ضعف علم الاقتصاد الحديث وثانيا كيفية مواجهة الفرو قات الاجتماعية المتفاقمة بشكل  يحد من التفاوت الجهوي والإختلالات الهيكلية التي تستنزف كل قيمة مضافة ينتجها المجتمع وتجعل اقتصاده أسير خدمة الدين ونموذج نموه معتمدا على عوامل خارجية غير متحكم فيها ذاتيا وثالثا موقع الإنسان في التحليل الاقتصادي باعتبار ذلك موجه للسياسات التنموية وعاكس لنتائجها على مستوى عيشه ونمط حياته وعلى النسيج الاقتصادي عموما. 
ولعله من المفيد الاستئناس بالبحوث المبتكرة للاقتصادي الهندي مارسي أسان المتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998 وإضافته اللافتة للبعد الإتيقي في الحوارات الدائرة حول المسائل الاقتصادية الكبرى بما هو علم للأخلاق ينظر في أحكام القيم وفي المبادئ الأخلاقية بما يعني البحث في ما يجب أن يكون لا في ما هو كائن.
فمكمن الضعف الرئيسي لعلم الاقتصاد الحديث اعتباره الإتيقا والاقتصاد عبارتان متنافرتان والحال أن الكينونة الاقتصادية الحسنة يمكن أن تزداد حين نأخذ بعين الاعتبار المعطى الإتيقي فالسلوك الإتيقي المعقد للأفراد بمعنى السلوك المحكوم بما يجب أن يكون في نظر أصحابه يؤثر في سلوكهم الاقتصادي والتحليل ألقيمي يمكن بالتالي أن يصبح ذو جدوى.
ويبقى السؤال عن الأساسات الصحيحة للاختيارات الاقتصادية دافعا للغوص في أعماق الدوائر النظرية بغية النظر بوضوح أكبر للحقيقة الماثلة أمامنا اليوم حقيقة الفقر والتفاوت واللامساواة الصارخة بل الصادمة أحيانا بين البشر وبين الفئات وبين الجهات .
لذلك تعتبر كيفية مواجهة هذه الحقيقة بشكل ناجع السؤال المركزي اليوم ولعل الجمع بين الإتيقا بما هي بحث فيما يجب أن يكون والاقتصاد بما هو بحث في ما هو كائن في مجاله يمكن أن يكون مدخلا أساسيا في تحديد تلك الكيفية فضلا أن ذلك سيحقق في آن واحد قدر كبير من  المساواة الاجتماعية والعقلانية الاقتصادية لكن السؤال عن ماهية تلك المساواة المرجوة يبقى مطروحا؟ هل هي مساواة في الدخول والثروة أم غير ذلك؟ 
الملاحظ أن الواقع إلى حد اليوم محكوم بنظرة نقدية سلعية لوضع الإنسان حسب المقاربة النفعية التي سادت وأثرت على الاقتصاديين لأكثر من قرن من الزمن مقاربة ضيقة لم تقدر على تفسير استمرار ظاهرتي الفقر واللامساواة نظرا لأنها تقوم على أساسات كمية وسلعية للحياة عامة والإنسان خاصة حتى غدا رقما مجردا من إنسانيته وسلعة ضمن بقية السلع محكوم بقانون العرض والطلب وبقية القوانين الاقتصادية .
إن تقويم وضع الإنسان لم يعد مجديا بالاعتماد على النفع الذي يحصل عليه من العملية الاستهلاكية ولكن بالاعتماد على النفع الحاصل له من استيفاء عدد من المهام التي يريد القيام بها كإعانة الملهوث أو كفالة اليتيم أو ما شابه وبالاعتماد أيضا على اتساع فضاء قدراته وهذه القدرات تمكن من توسيع دائرة تقويم وضع الإنسان مع اعتبار أن حرية اختياره لنمط حياته أهم بكثير من الموارد التي بحوزته للحصول على هذا النمط.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن المؤشرات المتعارف عليها اقتصاديا واجتماعيا لا تقدم لنا الكثير عن الحرية وسعادة الإنسان المرتبطة أساسا بالتنظيم الاجتماعي وتوزيع الدخول ونحسب أن الأساسي ليس قيس مؤشرات أمل الحياة والتعليم والفقر رغم أهمية ذلك ولكن معرفة أن اقتصاد السوق والمجتمع لا يكونان مسارين معدلين ذاتيا بل الحاجة ماسة لتدخل عقلاني للإنسان لتعديلهما.
أما مواجهة الفقر فهي تمر عبر إعادة النظر في العلاقات بين الاقتصاد والاجتماع ووضع الإنسان في قلب التحليل الاقتصادي ليصبح منارة للتنمية ولعله من المفيد أيضا أن يوضع تعريف جديد للفقر يكون متعدد الأبعاد وتكون أساسات تقويمه غير نقدية ولا سلعية بل فلسفية وسياسية واجتماعية فالفقر بهذه الأبعاد فقر في القدرات وليس في الموارد فكم من بلد غني الموارد لكن نسبة مرتفعة من سكانه فقراء والتفاوت فيه منتشر فاللامساواة  إذن ليست في الموارد بقدر ما هي في القدرات وبالتالي مواجهتها يمر عبر مواجهة اللامساواة والتفاوت في القدرات سواء بين الأشخاص أو بين الفئات أو بين الجهات وبالتالي عبر تقليص الفجوة العميقة بين مستوى الحرية الفعلية ومستوى الحرية الذي يجب أن تكون  أي المستوى المرجع وأيضا عبر عرض مجموعة كبرى من الاختيارات يكون للإنسان حرية الاختيار بينها.
فالحرية بما هي حق وقدرة كما يذهب إلى ذلك المفهوم القانوني هي المدخل والتنمية تجاهها كحق تعني تطوير الوعي بها وإقرارها كحق مع تنظيمه وحمايته قانونا ومؤسساتيا ولعل اليوم أمام ممثلي الشعب في المجلس الوطني التأسيسي فرصة تاريخية لتركيز هذا الحق في الدستور أما التنمية تجاه الحرية كقدرات فتهتم بتمكين الناس منها فبالقدرات يتحرر الإنسان من أغلال الجهل والضلال والمرض والفقر وتلك القدرات لا يمكن إلا أن تكون علما وهداية وصحة ورفاه والحكومة المنتخبة حاليا رغم محدودية زمن عملها بإمكانها حماية ذلك الحق وتأسيس تلك القدرات وبذلك تكون قد وفرت شروط تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة التي ضحى من أجلها ولازال أحرار هذا الوطن ومنه فإن دور الدولة يختلف عن السابق فليس المطلوب اليوم حسب هذه المقاربة توفير الرغبات الحسية المطلقة بل توسيع الحريات الفردية بهدف تنمية القدرات حتى يستوفي الأفراد حاجاتهم ويساهموا في التنمية الشاملة فالمقاربة التنموية التي نطرحها تؤكد على توسيع مجال الحريات المنجبة للقدرات على الفعل تحقيقا للرغبات وبالتالي إرساء نموذج تنموي أكثر صلابة وعدالة وإنسانية فالتنمية في جوهرها توسيع لقدرات الجميع. وبالنظر فلسفيا وسياسيا لمصطلح القدرات يمكن أن نوجهه شيئا فشيئا نحو الحرية باعتبارها وسيلة التنمية وهدفها وأيضا نحو تركيز ديمقراطية تشاركيه محليا وجهويا ووطنيا . 
بإيجاز نؤسس لديمقراطية بتقوية الحريات الأساسية وتوسيع مجالاتها للأفراد وليس فقط على قاعدة الاستهلاك والثروة .
ولقد أظهرت التجارب التنموية السابقة في أكثر من مكان أن التنمية الاقتصادية المعتمدة على الاستهلاك عاجزة على الإجابة على المتطلبات الاجتماعية كالصحة والتشغيل والعدالة وكذلك احترام الإنسان والأخذ بعين الاعتبار كرامته بينما التنمية بالحرية التي تضع الإنسان واختيارته والمهام التي يريد القيام بها في المجالات المتعددة للحياة في قلب التحليل الاقتصادي ومنارة لمنهجها قادرة على تفعيل طاقاته واعتزازه بشخصيته وانتمائه للمجتمع فيصبح معنيا بالنهوض بواقعه والمساهمة في إحداث التغيرات المنتظرة للمجتمع في مستوى الوعي والسلوك والعلاقات في مختلف المجالات البيئية والاقتصادية والاجتماعية ولعل المقاربة المعتمدة على القدرات المسنودة بالحريات في حاجة للتأصيل والتثبيت عبر بلورة رغبات جماعية نظرا لأن ممارسة الحريات الفردية تتطلب قاعدة ترتكز عليها معرفة لحقوق وواجبات كل الأشخاص ونحسب أن الدستور المزمع بلورته حاسم في هذا الموضوع.