بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
رهانات مدرسة المستقبل ومشاكلها الرّاهنة: بحث تربوي في معيقات اندماج المتعلم في مرحلتي التعليم الإع

 

 
(1)عندما تقتصر دراسة الفعل التربوي على تحليل الممارسات الظّاهرة والرّسميّة أو المكتوبة من خلال القوانين والمناشير والقرارات، فإنّها تكون قد حصرت الظّاهرة المدروسة في بعدها الظّاهر، ولن تتجاوز بالتّالي عمليّة الوصف دون النّظر إلى ما يسمّى بـ"الطّبقات العميقة" للظّاهرة المدروسة.
 إنّ البحث في استتباعات تغير الأنساق الاجتماعيّة والثّقافيّة والقانونيّة على مستوى المعيش المهني والعلائقي لمختلـــف الأطراف المدرسيّـــة لا يخلو من تشعّب، خاصّة في سياق التحولات العالمية الرّاهنة. والتّحوّل النّاتج عن تغير هذه الأنساق الذي نبحث عنه ليس في مستوى التّنظيم فقط، بل أيضا في مستوى تشكيل نسق الفعل التّربوي. أي كيف يشكّل النّسق في مجموعه ويجسّد الفاعلون داخله فعليّا علاقات جديدة وأشكالا جديدة للمراقبة الاجتماعيّة(1). فكلّ تحليل للصّيرورات أو لوضعيّات التّغيير أو التّجديد التربوي تعود إلى سؤال التّدرّب الجماعي للفاعليـــن على إعادة بناء قواعد التفاعل والعلاقات الجديدة.
لا بدّ إذاً، من وضع الفاعليّة التّعليميّة في مختلف تجلّياتها وأبعادها موضع مساءلة، وما تستوجبه هذه المساءلة من تشخيص موضوعي للممارسة التّعليميّة في ضوء المسار "الإصلاحي" الجديد للحقل التّربوي. بالاعتماد على بعض الانشغالات والقضايا الّتي نتجت عنه، والانتظارات المجتمعيّة حول دور المدرسة في المجتمع وحول المسألة التّربويّة بشكل عام.
   أهمية التواصل الاجتماعي
 
يعتبر موضوع التّواصل الاجتماعي من المباحث الحديثة في علوم التّربية والإعلام والعلوم الإنسانيّـــــة بشكـــل عـــام. فهو يمثّل أحد ركائز العلاقات الإنسانيّة في المؤسّسة الحديثة. فالمقاربة البسيكو- سوسيولوجيّة ركّزت أبحاثها على بعده الإنساني والاجتماعي لأنّه يمثّل آليّة بواسطتها تتشكّل العلاقات البشريّة، وذلك من خلال علاقات تبادل المعلومات والأفكار والتّصوّرات. لذلك يعتبر التّواصل بعدا رئيسيّا في العمليّة التّربويّة، وآليّة مركزيّة في تحقيق عمليّة التّوافق والفهم بين مختلف الفاعلين الاجتماعيّيـــــن. فهو كعمليّة اجتماعيّة وتفاعليّة يعتمد على قيم المشاركة في معاني الفعــــــل التّربـــــوي ودلالاتــــه بين المرسل والمتقبّل.
 فالتّواصل داخل المدرسة ليس عمليّة بسيطة، مثلما يبدو ظاهريّا، بل إنّ نسق هذا التواصل هو الذي يحدّد طبيعة العلاقات القائمة بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين داخل المؤسسة التربويــــة وخارجهـــا. لأن عملية التواصل الاجتماعي لا تحدث في فــــراغ، بل تمثل إحدى المكوّنات الأساسيّــة للجماعـــة (2). فقد أصبح مبدأ "الشّراكة" أو "المبادلة" أساس بناء أي علاقة تواصليّة بين النّاس. وهذه العمليّة تتحكّم فيها وضعيّات اجتماعيّة ومناخات حــــوار وصـــراع. أي إنّ مناخ التّواصل داخل المؤسّسة هو الذي يشكّل ديناميّة المجموعة سواء في اتّجاه التّطوّر أو في اتّجاه التّراجع. 
وبالتالي فإنّ استخدام العلاقات الإنسانيّة كقوّة دفع وتأثير على الأداء يتوقّف بالدّرجة الأولى على فلسفة الإدارة المدرسية في نظام الاتّصــالات (يؤثّر في أنماط العلاقات الدّاخليّة والخارجيّة) وكذلك على نظام الحوافز (الحافز كوسيلة لإشباع حاجات إنسانيّة) مثل الظّروف المشجّعة أو المحبطة للدراسة. فالتّوافق بين الحاجات التي يشعر بها الفرد (دوافع الدراسة مثلا) وبين وسائل إشباع تلك الحاجـــات هو الذي يحدّد الحالة المعنويّــــة للمتعلميـــن ودرجــــة رضاهـــــم عن المدرسة وكفايتها الإنتاجيّة.
فالمناخ الاتّصالي في المؤسّسة التربوية له دور أساسي في تشكيل الثقافة المدرسية وفي تحديد نسق التمثّل لهـــا ســـواء بالنّسبـــة إلى الفرد أو المجموعة. فالمكان ينتج معاني ودلالات تبادليّــــــة بين الفاعلين، ليس كمعطيات واقعة سابقا، بل أيضا كـ "انبثاقات" (des émergences) ناتجة عن نسق التّفاعل داخل المؤسّسة وخارجها. وعمليّة الاتّصال داخل المؤسّسة وخارجها بين الفاعلين الاجتماعيين ليست عمليّة بسيطة، مثلما يبدو ظاهريّا، بل إنّها تحدّد طبيعة العلاقات القائمة بينهم لأنها لا تحدث في فراغ، بل هي أحد المكوّنات الأساسيّة للجماعة (3).
إنّ البيئة المدرسيّة، اليوم، أصبحت بيئة اجتماعيّة مفكّكة بفعل عوامل إيديولوجيّة وثقافيّة وإعلاميّـــة. هذا الفضــــاء الــذي كان في الأمس القريب مكانا لتكوين الأفراد وبناء اجتماعيّتهم، أصبحت تغلب عليه اليوم قيم المصلحة الشّخصيّة وتنعدم فيه ثقافة "الضمير الجمعي" علـــــــى مستـــــوى التّمثّــــلات والتّصوّرات وهو ما أدى إلى انتشار عديد الظواهر النفسيّة السلبيّة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي لدى المتعلمين. لذلك، يحتاج المسيّرون لمؤسساتنا التربوية إلى تطوير أساليب التّفاعل في ظلّ المناخ العالمي الجديــــد من أجل الحفــــاظ علـــى جســــور التّواصـــــل وأساليبه المناسبة مع مختلـــف المجموعـــات المهنيّة والاجتماعيّة في المؤسّسة. 
 
 (2)  التّفكّك الرّمزي للفضاء المدرسي
 
للفضاء المدرسي، مثل بقيّة فضاءات المجتمع الأخرى، دور رئيسي في نشر القيم أو انحلالهـــــا. فهو يشكّل أحد المرجعيّات الثّقافيّة والفكريّة لبناء الإنسان وتنشئته اجتماعيا، سواء عبر السّلوكيات والخطابات أو عبر نظام التّفاعلات بين مختلف عناصره الدّاخليّة والخارجيّة. إذ يحدّد الفضاء المدرسي عبر ثقافته الخاصة الكيفيّة التي يفكّر بها المتعلمون فــي إطـــــار علاقاتهم الاجتماعيّـــة بينهــم ومع مختلف العاملين بالمؤسسة. فالصّور والآراء – المعبّر عنها- ضمن هــــذا الفضــــاء، تترجـــم الوضعيّـــة أو الحالـة التي يوجد فيها الفرد من ناحية، ويحدّد سلّم القيم الخاص الذي يتبعه من ناحية ثانية. وبقدر ما تتّخذ وسائل الاتّصال داخل المؤسسة التربوية شكلها الثّابت بقدر ما تترسّخ وتستبطن وتمكّن التلاميذ من رسم شكل تمثّلاتهم حول مواقعهم وحقوقهم وواجباتهم وتمكّنهم الآليات التواصلية المعتمدة من إدراك واستبطان قيم الجماعة ومعاييرها. وتحد من انتشار سلوكيّات اللاّمبالاة أو قيم الفردانيّة وحالات الانطواء على النّفس لدى المتعلمين.
فالمؤسّسة التّربويّة من الأماكن والمراسي لبناء التّجارب المشتركة بين روادها وإحدى فضاءات  التدرب على  المعيـــش المشتــــرك بينهم وللحافـــظ على اجتماعيّتهم (sociabilisation). وإذا ما تمّ تقويض العلاقات بالأماكن، سيتمّ من ثمّ تقويض الجماعات وهويّات النّاس (4) الذين يوجدون فيها. ومن ثمّ تفقد الثّقافة الجماعيّة تماسكها وقوّتها التّأطيريّة لأعضاء هذه المجموعة. وفقدان المجموعة الإحساس المشترك مـــن خــــلال علاقاتها المتبادلة مع المكان، سيجعلها أكثر استلابا، باعتبارها ستصبح أكثر إحساسا بالعزلة والتّفرّد.
لقد تحوّلت مدارسنا ومعاهدنا إلى مجرّد فضاءات فيزيائية للحضور المشترك ولم تعد فضاءات  للتّبادل الفكري والاجتماعي ولبناء المعيش المشترك. فسوء التّفاعل الاجتماعي داخل المؤسّسة ومع محيطها الخارجي من أهمّ عوامل التّهديم والخلط الذي تتعرّض له هذه المؤسسات اليوم. كما هيمنت على مناخ المدرسة مفاهيم ذات أبعاد مادّية وبراغماتيّة، وتلاشت القيم والمفاهيم ذات البعد الإنساني في العمل التّربوي ككلّ.
 بينت أغلب الدّراسات فـــــي علـــم النّفس الاجتماعي، أنّ الشّخصيّة المضطربة هي نتيجة محتملة لمحيط اجتماعي يتّصف بصراع القيم وبالتّفكّك الاجتماعي والرّمزي لمؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة. ففي دراسة ظاهرة "العنف"أعطى أغلب المختصّين في علم الاجتماع (5) والتّربية أهميّة لمسألة التّربية الأسريّة في مرحلة أولى ثمّ تأتي خصائص المناهج التّربوية المتّبعة في المؤسّسات التّعليميّــــة في مرحلة ثانية. إلاّ أنّ هذه المكانة شهدت اليوم تراجعا نتيجة تراجع دور المدرسة في تحقيق رفاه الفرد ورقيّه الاجتماعي، ونتيجة عدّة عوامل أخرى من بينها:
◄ إنّ اشتغالها وفق أيديولوجيّــــــة الدّولــــة وسياستهــــا قلّص من فاعليّتها التّربويّة وتأثيرها على نسق القيم وضبط سلوكيات الطّفل على مستوى التّنشئة عموما، وباعتبارها مقيّدة بالنّموذج الذي تضبطه البرامج الرّسمية والأنشطة المرفقة لها، فإنّ أهدافها تتعارض أحيانا مع أهداف الفاعلين الاجتماعيّيـــن الآخريــــــن مثل الآباء ووسائل الإعلام. وهو ما أدّى إلى تراجع دورها في الفعل التّربوي، بل إنّ المدرسة اليوم، تلقّن وتعلّم وقلّما تربّي بالمعنى الإسلامي للكلمة (6).
◄ إنّ تعدّد مصادر الثّقافة التي تشتغل بشكل تلقائي في المجتمع مثل׃ وسائل الإعلام والنّوادي ومنظّمات المجتمع المدني الأخرى التي أصبحت تمتلك فعاليّة أكبر فـــــي التّنشئـــة الاجتماعيّـــة، أدّى إلى تراجع صورة المدرسة في تمثّلات الطّفل التّربويّة والعلميّة. ففي زمن كانت فيه المعلومات محدودة، كان المعلّم يمثّل بالنّسبة للأطفال ولأهلهم رسولا يفتح أمامهم أبــــواب المعرفـــة، هذا المعلّم لم يعد له الدّور نفسه اليوم، لم يعد من الممكن أن ينظر إليه كمرشد وحيد إلى المعرفة(7). فالسّلطة العلميّة المتناقصة للمدرسة، جعلت الطّفل أكثر اعتمادا على المؤسّســـات الأخـــرى في توجيه سلوكه من خلال نماذجها ومبادئها، ممّا أدّى إلى تراجع دورها في الدّفاع عن خصوصّية علاقاتها الدّاخليّة - الثّقافيّة والأخلاقيّة - وعلاقاتها الخارجيّة التي تربطها بمختلف مؤسّسات المجتمع الأخرى.
◄ على الرغم مما توفّره المؤسّسة التّربويّة من وسائل لتأمين الانتظام وبلوغ أهدافها، فإنّ شبكات من العلاقات غير الشكليّة تتنامى من خلال بنيتها الدّاخليّة وعلاقاتها بمحيطها المجتمعي، لتوفّر نوعا من التّعويض لما يصيب الطّفل من إحباط ولمواجهة سلطتها الشّكليّة. إذ لم يعد لسلطة المعلّم مفعولا في المؤسّسات التّعليميّة..لقد وقع شرخ في علاقة التّلميذ بالمعلّم، وبين التّلميذ والأسرة، وبين المعلّم والأسرة، وفي الكيان التّربوي والتّعليمي بأكمله (8).
◄ يقتضي فهم التّغييرات في الحقل التّربوي وتفسيرهـــــا أن ننظر إلـــــى التّمفصـــــل بيــــن مختلـــف مستويات الأفراد النّفسيّـــــة، وبين الوضعيّات أو التّموضعات المرتبطة بالسّياقات الاجتماعيّة، وبالمعتقدات الأيديولوجية (9). فالنّسق المرجعي للحقل التربوي يشهد نقلة نوعيّة وقطيعة فعليّة مع النّســــق المرجعــــي القديـــم. ومع إعادة بناء نظم الهيمنة الاقتصاديّة والسّياسية والثّقافيّة الجديدة، تغيّرت ديناميكيّة التّفاعلات الاجتماعيّة ومحدّداتها داخل المدرسة وخارجها بين الفاعلين الاجتماعيّين.
وقد تدعّمت هذه التّغييرات في السّنوات الأخيرة من خلال ظهور المعلوماتيّة، التي غيّرت بشكل كبير العلاقة القائمة بين المتعلّم والفضاء المدرسي، وأدّت إلـــى ظهـــور بيئــــة تواصليّـــة جديـــدة في المدرسيّة. بيئة تحاول أن تنشئ الأفراد (الأطفال) انطلاقا من قيم ومعايير تربوية كونيّة، وانطلاقا من نظرة شموليّة تحبط كلّ جوانب الفاعليّة الإنسانيّة والخصوصيّة لدور المعلّمين في المدرسة. 
 كما إنّ تراجع دور المدرسة كفاعل اجتماعي أساسي في التّنمية وضمان "المستقبل" في تصوّر الرّأي العام، ساهم في تراجع سلطتها الرّمزيّة ومشروعيّتهــــا فـــي عمليّــــة الضّبط الاجتماعي. لأنّ النّجاح المدرسي الذي كان يمثّل أفضل تعبير عن الأمن المادي وتحسين رفاهيّة العيش بالنّسبة إلى الطّبقات الفقيرة(10) قد حلّت مكانه النّظرة اليائسة والمضطربة لدور المدرسة في الإيفاء بوعودها لدى العائلة. وبدأ الحديث يتكرّر عن فشل المدرسة عوض الحديث عن فشل المجتمع في تطوير هذه المؤسّسة.
لقد تغيّرت النّظرة إلى التّعليم، في مستوى القوانين والأهداف والسّياسات، وفي آليات تسيير المؤسّسات التي تحكم مسيرتها وتنظّم نسق تفاعلاتها الدّاخليّة والخارجيّة، وتقلّصت تبعا لذلك، الحوافز الشّخصيّة للعمل البناء، وتقلّصت معها مشاعر الرّضى والاكتفاء التي كان يوفّرها الفضاء المدرسي، لتعطي مكانها للبحث عن الرّضى والمكافآت من خارجه. لأنّ "ما يعطي للكلمات قوّتها، وما يجعلها قادرة على حفظ النّظام أو خرقه هو الإيمان بمشروعيّة الكلمات ومن ينطق بها"(11).
لقد ارتهن غياب الطّابع القدسي عن حيــــاة النّـــاس في المدرسة بطغيان العقل الأداتي والنّفعي الذي قضى على كلّ مقوّمات الصّفة الإنسانيّة. إنّ هدم الأنظمة الثقافيّة والرّمزيّة القديمة ذات الطّابع القيمي والأخلاقي للفعل التّربــــوي والتّعليمــــي المدرســــي، أدّى إلى توسيع دائرة الشّكّ في قدسيّة هذه المؤسّسة على مستوى الميل الاجتماعي لدى المتعلّم. وتظهر هذه الثّقافة المدرسيّة الجديدة لدى المتعلّمين من خلال كثرة الغيابات وممارسة مختلف أشكال الاستهتار بالقوانين والقيم المدرسيّة التي تؤسّس لقواعد العيش المشترك وأهمّها تزايد ظاهرة العنف المادّي واللّفظي ضدّ مختلف أصناف المربّين في السّنوات الأخيرة.
ففي دراسة سوسيولوجيّة ثقافيّة أجراها المرصد الوطني للشّباب بالتّعاون مع منظّمة "اليونسيف" حول "ظاهرة العنف اللّفظي" لدى الشّباب التّونسي سنة 2003، أكّدت فيها أنّ المؤسّسة التّربوية تعدّ ثاني الفضاءات الأساسيّة من حيث انتشار العنف اللّفظي لدى الشّبـــاب بنسبــــة 43,21%. وقد جاءت هذه الإحصاءات الرّسميّة لتعزّز الصّورة الدّاكنة لأوضــــاع التّربيـــة في تونــــس. وهي صـــورة كانت قد تكوّنت على امتداد السّنوات الماضية، نتيجة غياب الرّؤية المتكاملة للإصلاح التّربوي، وفشل أغلب الخطط والمشاريع التّربويّة في مواكبة التّحوّلات العميقة التي يشهدها المجتمع. 
 ففي إطار الاتجاه التربوي المُعولم ظهرت ثقافة مدرسية جديدة تستهدف بناء صورة "إحباطيـــة" لدى المتعلم حتى يبحث عن بدائل تربويـــة جديــــدة من خارج أسوار المدرسة. وهذه المسألة تعد من أهم القضايـا في الراهن التربوي التونسي في أبعاده الاجتماعية والنفسانية التي يتوقف عليهــــــا قــــدرة المدرســــة على الحفاظ على دورهـــا التربــــوي والتكوينــــي وفـــــي مسايـــــرة التغيرات الدوليــــة في المستقبل. فأصبح المتعلم يعيش في وسط مدرسي يسوده مناخ الإحباط وحالة اللامبالاة. كما لم يعد للمدرسين وأعوان التأطير ومختلف المسؤولين القدرة والفاعلية اللاّزمة للتأطير وإقناع هؤلاء المتعلميــن بأهمية المدرسة في المجتمع خاصة أمام تعاظم الضغوطات والاكراهات الاقتصادية والسياسية وتبعيتها المطلقة للفاعلين السياسيين والممولين الدوليين الجدد (المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية).
 
(3)  أزمة في التّواصل بين الأسرة والمدرسة
 
 لا يمكن دراسة ظاهرة العنف المدرســـي بمعــــزل عن السّياق الاجتماعي والثقافـــــي للمجتمــــع ككـــلّ. لأنّ العنف المدرســــي هو سلوك تتداخل فيه الأسباب والجذور، أسباب من داخل المؤسّسة التّعليمية وأدواتها ورموزها. وأسباب آتية من المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي (12). والعنف المدرسي هو عبارة عن نوع من الامتثال إلى منظومة القيم الاجتماعيّة والثقافيّة الرّمزيّــة، والتي تنظمها المعايير والأعراف والاتّجاهات السّلوكية السّائـــدة في المجتمع. وتتأسّس هذه العلاقة على عدّة وسائط ومؤسّسات اجتماعيّة وتربويّة من أهمّها العائلة وبعض المنظّمات والمؤسّسات الإعلامية العموميّة والخاصّة مثل التّلفزة والصّحف..الخ.
من أهمّ أسباب فشل النّظام التأديبي في مدارسنا هو غياب منابر الحوار داخل هذه المؤسّسات بين مختلف الأطراف المعنيّة من إدارة ومدرّسين وتلاميذ وأولياء. فرغم التّنصيص على المذكّرة الوزاريّة عدد1340 المؤرّخة في 5 أكتوبر 2000 على فتح الحوار بصفة مستمرّة مع الأولياء وضبط روزنامة لقاءات دوريّة معهم تغطّي كامل السّنة الدّراسيّة لحملهم على المشاركة الفعليّة في مراقبة أبنائهم وتوجيههم، فإنّ أغلب مؤسّساتنا لا تنظم هذه المنابر سوى في بعض المناسبات أو الحالات الخاصّة. أي لم تتحوّل هذه الآليّة إلى ممارسة ثقافيّة ومؤسّساتيّة حقيقيّة في مدارسنا إلى اليوم، رغم اقتناع مختلف الأطراف بأهميّة الحوار في الحدّ من بعض السّلوكيّات التي تؤثّر سلبا على سير عمل المؤسّسة التّربويّة.
إنّ مشروع تنشئة الأطفال مشروع صعب ومعقــّـد المستويـــات، لأنّه يشترط وجود تنسيق أو تقسيم للمهام بين مختلف الفاعلين الاجتماعيّين ومجالات التّأطير التّربويّة في المدرسة وخارجهــــا حتى يتحوّل هذا الطّفل إلى كائن اجتماعي فاعل. ولا تتقيّد سلوكياته بالنّسق الثّقافي لمجتمعه فقط، بل يساهم في تنميته والدّفاع عنـــــــه في المستقبل.
أصبح لظاهرة العنف المدرسي تأثيرات سلبيّة كبيرة في مستوى نسق التّفاعلات التّربويّة والتّعليميّة في تونس. ولا تقتصر ممارسة العنف على فئة اجتماعيّة دون الأخرى، بل تشمل جميع الفئات والأطراف من داخل المدرسة ومن خارجها. وهناك علاقة جدليّة بين ظاهرة العنف ونوعيّة الثّقافة المدرسيّة السّائدة إذ تؤثّر في نمط اشتغال المؤسّسة التّربويّة، وفي تشكّل نسق العلاقات الاجتماعية وفي مستوى جودة التّربية والتّعليم.
إنّ خطورة هذه الظّاهرة في مؤسّساتنا التّربويّة – في الرّيف والمدينة- تكمن في انتشارها وديمومتها بشكــــــل تصبــــح معــــه هذه الممارسات جماعية الطّابع، عامّة ومألوفة وغير استثنائيّة لدى الأوساط التّربويّة والمجتمعيّــــــة. وقد تتحــــول هـــــذه الظاهــــرة في المستقبل إلى نمط ثقافي ورمزي مهيمن على الوسط المدرسي أمام فشل مختلف الآليات المؤسساتية التربوية في الحد منها.
ما نلاحظه من خلال هذه المعطيات والإحصائيّات الجزئيّة الصّادرة عن إحدى الإدارات الجهويّة للتّربية بتونس العاصمة، أنّ العنف المادّي بالمؤسّسات التّربوية أصبح منتشرا لدى فئة الشّباب المتعلّم. لقد أصبحت مدارسنا فضاءات اجتماعيّة مولّدة للعنف وتتعايش معه باعتباره أمرا بديهيّا. فالاعتداء بالعنف المادّي على أحد أعضاء المؤسّسة التّربويّة أو إهانته، أصبحت جزءا مكوّنا لنسيج العلاقات والتّفاعلات اليوميّة في المدرسة. لكـــــــنّ المسؤولين لا يتعاطــــون مع هذه الظّواهر بشكل جدّي وواع لمواجتها، فتتكرّر حالات العنف وتتنوع وسائله وتتّسع مجالاته شيئا فشيئا، ويعاد إنتاجها من جيل لآخر دون البحث عن حلول علميّة وجدّية للحدّ منها. من هنا يصعب مواجهتها في ظلّ الصّمت الشّامل وعدم اعتماد آليّات فعليّة للحدّ منها وبمشاركة جميع الأطراف من داخل المؤسّسة ومن خارجها.
إنّ عوائق التّربية الحقيقيّة تعود في جانب منها إلى المحيط الخارجي الذي تغيب فيه ثقافة الحوار والتّواصل بين الطّفل والمحيطين به. فالآباء غير ناضجين والمعلمون غير مختصين مرهقون بأعمالهم، فتتحلى ردود أفعالهم بالاهمال الذي يكتسي طابع التساهل وبالتهرب الذي يبدو بشكل خطة مرسومة وبعدم النجاعة والعدوانية المشوشة (13).
 هناك أزمة بنيويّة حقيقيّة تعيشها مؤسّساتنا التّربوية نتيجة التّغيير الجوهري في قيمها ومرجعيّاتها القانونيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ونتيجة تفكّك بناها المؤسّساتية والإداريّة. فكيف يمكن لهذه المؤسّسة أن تكون فاعلة في تغيير المجتمع نحو مستقبل أفضــــل في وسط مجتمعي تسوده مظاهر التّهميش والاقصاء والانحلال القيمي والأخلاقي، وفي ظلّ غياب آليّات المشاركة الحقيقيّة للفاعلين التّربويّين في التّصدّي لهذه الظّاهرة وغيرها من الظّواهر التي تتجاوز المدرسة؟.
إنّ اكتساب المتعلّم قيم المواطنة المبنيّة على المشاركة وتحمّل المسؤوليّة تقتضي التّكامل بين مختلف فضاءات المجتمع المدني، وخاصّة بين الأسرة والمدرسة. لذلك أقرّ "لقانون التّوجيهي للتّربية والتّعليم المدرسي" في تونس على أهميّة الوظيفة التّربويّة للمدرسة، لكن فاعليّة هذا الدّور تتوقّف علــــى العمـــل بالتّعــــاون مع الأوليـــاء وفي تكامل مع الأسرة،على تربية النّاشئة على الأخلاق الحميدة والسّلوك القويم وروح المسؤوليّة والمبادرة (14).
 إنّ من أسباب ضعف السّلطة التّربوية والثقافيّة للمدرسة، وتفكّك رأسمالها الرّمزي في المخيال التّلمذي، هو غياب التّكامــــل بينهـــا وبين الأســـرة في متابعة الطّفل ومراقبته. وقد تعمّقت هذه الهوّة بينهما أمام تعدّد مؤسســـــــات الثّقافـــــة والتّربيـــــة في المجتمع الحديث. فاختلاف المعايير والوسائل المعتمدة في التّربية بين الأسرة والمدرسة وغياب جسور التّواصل بين الأولياء والمربّين في بناء شخصيّة الطّفل الأخلاقيّة والسّيكولوجيّة والسّلوكيّة، أدّت إلى ظهور أزمة في تكوين هويّته الشّخصيّة.
فقد وصلت الحالة إلى نوع من "الاستقالة" التّامة بالنّسبة إلى أغلب العائلات في متابعة أبنائها. وغياب التّكامل والتّنسيق بين الأسرة والمدرسة في الإحاطة بالمتعلّم، أدّى إلى حالة الاختلال المؤسّسي والقيمي لكليهما، وتأسيس نموذج تربوي رديء. هذا التّغيير السّوسيولوجي، والانحدار المتواصل في نسق التّربية في مجتمعنا المعاصر، ينبئ بأنّ المدرسة أصبحت تعيش أزمة في جميع أبعادها التّربوية والتّعليمية والرّمزيّة. فالمدرسة ليست شجرة تثمر دون تربة نقيّة وماء مسكوب، وليست بمعزل عن الظّروف البيئيّــــة أو المناخيّة المحيطة بها.
ومن نتائج عدم التّماثل بين الأنماط الثقافيّة المدرسيّة والعائليّة، أن أصبح الطّفل يعيش في حالة اضطراب دائم وصراع متواصل وسط مناخ ملئ بالمفارقات القيميّة والسّلوكيّة بينهما. فالمدرسة مثلما يقول "آلان توران" .(15) (Alain Touraine) هي أهمّ فضاء تتقاطع فيه ثقافة الدّولة وثقافة المجتمع. أي تتداخل فيه الثّقافة الرّسميّة "النّموذجيّـــة" عبر البرامج والمناهج الدّراسيّة مع ثقافة الواقع المعيش والمعبّرة تعبيرا تلقائيّا عن بنية المجتمع وخصائصه الحضاريّة.
 
(4)   غياب مكاتب الإصغاء والإرشاد التّربوي
 
إذا كان التّواصل الإيجابي شرطا لضمان نجاح المؤسّسة التّربويّة، فإنّ من أهمّ آليّاته حسب القانون التربوي التّونسي هي خلايا العمل الاجتماعي ومكاتب الإصغاء والإرشاد. وهذه الآليات كلّها ظلت شبه منعدمة في مؤسّساتنا اليوم.
لقد انطلق برنامج العمل الاجتماعي في الوسط المدرسي سنة 1991 تزامنا مع شعار "مدرسة للجميع لكل فيها حظ" و"تربية جيدة للجميع". وأوكلت مهمة تنفيذه إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والتضامن والتونسيين بالخارج. أما آلياته فهي: خلايا الإصغاء والإرشاد والصحة العمومية (1995 - 1996) ومكاتب الإصغاء والإرشاد(1999 - 2000). وتعمل هذه الآليات وفق هدف هذا البرنامج الاجتماعي إلى مقاومة ظاهرتي الإخفاق المدرسي والانقطاع المبكر عن الدراسة وكل مظاهر عدم التكيف المدرسي.
تمثّل مكاتب الإصغاء حسب القوانين التّربويّة التّونسيّة فضاءات يقصدها التّلاميذ الذين يشعرون بالحاجة إلى المساعدة والتّوجيه، ويصغي إليهم مختصّون يعملون على تسيير تواصلهم مع المحيط المدرسي والاجتماعي ككلّ. فقد بيّنت التّجربة أنّ مكاتب الإصغاء تساهم في حماية المراهقين من المخاطر الصحيّة والانحرافات السّلوكية وفي مقاومة الإخفاق المدرسي، إضافة إلى تحسين المناخ العام بالمؤسّسة... ”وهي آليّة ناجعة للتوقّي من وضعيّات التّوتّر وصعوبات التّواصل“(16). فتوزيع الفصول الدّراسيّة غير المتوازن، والتّخطيط التّربوي والمدرسي السّيئ والمناخ المدرسي المتميّز بالقسوة أو التّسيّب...الخ كلّها عوامل تساعد على توفير الأرضية المناسبة لتغيّر السلوكيات لدى الشّباب من الحالات السّويّة إلى الحالات العدوانيّة.
ومن أهم الصعوبات التي توصلت إليها نتائج التقييم الذي أنجزته وزارة التربية والتكوين بالتعـــــاون مــــع منظمــــة ”اليونسيف“ سنة 2006 هي:
◄ عدم قدرة البرنامج على التوسع في إحداث الخلايا اعتبارا لمحدودية الموارد البشرية المتوفرة، بما انعكس سلبا على منهجية تكامل الاختصاصات والتشخيص المشترك بين مختلف المتدخلين.
◄ ضعف حضور أعضاء العمل الاجتماعي المدرسي بصفة منتظمة نظرا لكثرة المسؤوليات المهنية الأخرى التي هي بعهدتهم.
توقف برنامج التكوين الممول من قبل منظمة اليونسيف الموجه لفائدة المنسقين الجهويين للبرنامج.
◄ عدم ملاءمة الأهداف الخصوصية للبرنامج للمستجدات داخل المؤسسة التربوية (بروز فئة جديدة من التلاميذ تستوجب الإحاطة نفسية واجتماعية وعدم اندماجهم بالوسط المدرسي).
◄ بالرغم من تعدد الآليات المتدخلة هناك محدودية في التكامل بينها في التعهد بالحالات الاجتماعية المدرسية.
◄ غياب مساهمة المجتمع المدنـــي والجمعياتــــي في مسانـــدة هذا البرنامج.
◄ غياب البرامج الإعلامية والتثقيفية للتعريف بهذا البرنامــــج لدى مختلف الأطراف مثل الأسرة ومؤسسات المجتمع الأخرى.
◄ صعوبة تنفيذ جميع الحلول لحل المشاكل التي يتعرض لها بعض التلاميذ نتيجة تعقد الإجراءات خاصة في الحصول على المساعدات المادية.
يمكن القول أن هذه المشاكل كانت سببا في تنامي ظاهرة "التعليق التدريجي للدّراسة" (le décrochage scolaire) الذي يبدأ بالتأخيرات والغيابات ويمر بضعف النتائج والرسوب لينتهي بالتلميذ إلى إتباع سلوكيات لافتة وغير تربويـــــة والاضطـــــراب في التعلم ويعيش صعوبات في علاقاته داخل المؤسسة مما يدفع به في أغلب الأحيان إلى الانقطاع عن الدراسة سواء كان بشكل إرادي أو عبر مجلس التربية.
 
(5)   تراجع النّشاط الثّقافي والرّياضي المدرسي
 
يؤكّد الفصل التّاسع من "الأمر المنظّـــم للحيـــــاة المدرسيّـــة" على أن تنظم المؤسّسة التّربوية لفائدة التّلاميذ الأنشطة المدنيّة والثقافيّة والتّربويّة التي تعوّد المتعلّمين على التدرّب على ممارسة المواطنة وتحمل المسؤوليّة.
ويعتبر النّشاط الثّقافي والرّياضي جزء لايتجزّأ من المنظومة التّربويّة، وبُعدا من أبعاد الفعل التّربوي والتّعليمي، الذي تسعـــــى من خلاله المؤسّسة التّربوية إلى ضمان اندماج المتعلّم في الوسط المدرسي، وتحقيق من خلاله جودتها التّربويّـــــة. وفي هذا الإطار تمّ منذ الإصلاح التّربوي الجديد إغناء برامج التّعليم الرّسميّة ببعض المواد الدّراسيّة الثقافيّة المتنوّعة مثل: التّربية الموسيقيّة والتّشكيليّة والمسرح والإعلاميّة...الخ. 
وتمثّل النّوادي الثّقافيّة والرّياضيّة المدرسيّة والمجتمعيّة رافدا أساسيّا لتفعيل الحياة المدرسيّة وتنشيطها. فهي إحدى أبرز الأطر التي تمكّن من التّواصل مع المتعلمين، باعتبارها فضاءات يمارس من خلاله التّلميذ هذه الأنشطة بكيفيّة حرّة وطوعيّة خارج أوقات الدّراسة، بهدف تنمية قدراته العقليّة والجسمانيّــــة، وتنشئتــــه على القيم المدنيّة والاجتماعيّــــــة والأخلاقيّـــــة مثل الحـــوار والتّسامح والعيش المشترك...الخ. وتطمـــــح الوزارة في أن تكون هذه الفضاءات مناخات للتّحديث والبناء الاجتماعي.
ما نلاحظه أنّه منذ الإصلاح التّربوي لسنة 1991، ضبطت وزارة التّربية 47 نوعا من النّوادي الثّقافيّة والاجتماعيّة. ثمّ صدر منشور وزاري في 25 أوت 2008، حدّدت فيه الوزارة مــــن جديــــد أصنـــاف هذه الأنشطة وقسمتها إلى أنشطة إجباريّة وأخرى اختيارية (17) كما خصّصت دعما مادّيا هامّا للرّحلات المنظّمة في مختلف المؤسّسات التّربوية إلى المتاحف والمواقع الأثريّة. لكن هذه الأنشطة شهدت خلال السّنوات الأخيرة تراجعا لافتا.
وأهمّ عامل في هذا التّراجع يعود إلى أسباب مادّية وعزوف أغلب المدرّسين على الإحاطة بهذه النّوادي وتنشيطها لأنّها تمثّل قيدا ومسؤوليّة ومحفوفة بالمخاطر دون أن تحقّق أهدافها التّربويّة في إطار دعم المدرسة في التّنشئة الاجتماعيّة وتكوين المواطن الصّالح. ففي مفتتح السّنة الدّراسيّة تعتمد إدارة المؤسّسة قائمة اسمية لهذه الأنشطـــــة والنّـــــوادي، لكن لا يتمّ اعتمادها في الواقع، وذلك نتيجة عدّة عوامل من أبرزها:
◄ لا يتمّ وضع برامج هــــــذه النّـــــوادي أو الآليّات على أساس الخطط والبرامج العلميّة والإستراتيجية التي من شأنها تدعم بناء المناخ المدرسي السّليم والإيجابي الذي يساعد المتعلّمين على التّعلّم واكتساب القيم والسلوكيات الحسنة، بل يتمّ وضعها في إطار الاجتهادات الفرديّة من قبل الأستاذ أو المنشّط المشرف.
◄ لا تستند هذه الأنشطة إلى المقاربة التّشاركيّة الفعليّة بين مختلف المتدخّلين في الحياة المدرسيّة. وأوّل الأطراف الذين يتمّ إقصاؤهم من حقّ اقتراح المشاريع الثّقافيّة والاجتماعيّة هم المدرّسون. لذلك فإنّ أغلب الأنشطة والبرامج لا تعبّر عن الواقع الحقيقي للمؤسّسة، ولا يتمّ فيها تشريك الأولياء وبعض المؤسّسات ذات العلاقة.
◄ كما أنّ عدم تشريك مجلس المؤسّسة الذي يمثّل حسب القانون الآليّة الرّئيسيّة في اقتراح مثل هذه المشاريع المدرسيّة وفي متابعة إنجازها وتقييمها، كان عامــــــلا رئيسيّا في فشل هذه الأنشطــــــــة في مختلف مؤسّساتنا التّربويّة. 
نعتقد أنه من الضروري القيام بمراجعة جديدة ونقدية لما تم القيام به سواء من حيث التنظيم والمأسسة لهذه البرامج أو في مستوى تحديد طبيعة علاقات التعاون والقيم وأنظمة التواصل الناظمة لها داخل المدرسة ومع محيطها الخارجي. 
 
(6)  مقترحات منهجية للإصلاح التربوي
 
 لقد تضمن القانون التوجيهي شبكة من المفاهيم والمقاربات متعددة الأبعاد (سياسية وحضارية) وكذلك عديد الآليات والمعايير بهدف تحقيق التغيير لنسق المسار التربوي والتعليمي في بلادنا. لكن عملية بناء مؤسسة التربوية تكون "مؤهلة" وقادرة على التفاعل مع محيطها السوسيوـ الاقتصادي محليا ووطنيا اعترضته عديد المعيقات (des contraintes) على المستوى التطبيقي نتيجة عدم فاعلية آليات التنفيذ التي اعتمدتها.
 فهذه المرجعيات القانونية والتقارير والاستراتيجيات والاستشارات التربوية لم تنطلق من واقع هذه المؤسسات بل استمدت منطلقاتها ووضعت برامجها من الخارج، من المؤسسات الإقليمية والدولية مثل اليونسكو، وأدت إلى طمس هوية التجربة الخاصة، كما وجدت نفسها محملة بأعباء وتبعات لم تكن من مسؤولياتها أو ضمن توقعاتها ولا تستجيب أيضا إلى إمكانياتها المادية والبشرية الخاصة.
 نحتاج اليوم إلى إعادة صياغة أسئلة منطلقات الإصلاح وأبعاده وإمعان النظر في استراتيجية إنجازه. لأنه مثلما يقول المثل فإن المقدمات الفاسدة تترتب عنها بالضرورة نتائج فاسدة. وفي تقديرنا يرتبط نجاح التغيير في المشهد التربوي بمدى ترتيب مرتكزات الإصلاح باعتبارها الأسس الناظمة له والمتحكمة في مسار تطوره، وهي:
أـ  قضية الشمول أو التجزئة في الإصلاح: فهل يكون الفعل الإصلاحي شاملا ويطال كافة محددات النسق التربوي ومنظوماته القانونية والتنظيمية والبيداغوجية، لأن المقاربة الإصلاحية الراهنة كانت تجزيئية ولم تكن شاملة بالشكل الذي يجعل  البنى والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية موضوعا للإصلاح أيضا.
 فهل يمكن تصور نتائج ناجعة للإصلاح التعليمي دون تكوين رأسمال بشري ودون مصاحبته بإصلاح سياسي واجتماعي يمكن الفاعلين من التعبير عن تطلعاتهم ويجعلهم مؤهلين للانخراط والمشاركة الفعلية في مسار هذا التغيير؟ فالتجزيئية في رأينا كانت بداية فاسدة على طريق الإصلاح المطلوب.
ب ـ إعتماد مبدأ التدرج والمرحلية: الإصلاح التربوي المطلوب يجب أن يكون فعلا مفضيا إلى الترقية والتحسين والتطوير أي إلى تحقيق ما هو أفضل. لهذا يجب أن يكون التفكير في الإصلاح وفق خطط مرحلية تراكمية ومن داخل منطق الإصلاح وليس من داخل منطق التغيير.
ت ـ مبدأ التزامن والتلازم بين مختلف أبعاد الإصلاح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فالإصلاح التربوي يحتاج إلى بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية تكون حاضنة له ومحفزة على التغيير.
ث ـ الفصل بين الداخل والخارج في عملية الإصلاح. نحن نعرف أنّ الإصلاح الحقيقي هو ضرورة داخلية قبل أن يكون إملاء خارجيا. وبالتالي يجب أن تبنى هذه التجربة وفق الشروط التاريخية والبنى الاجتماعية والأنظمة الثقافية والنفسية الخاصة بكل مجتمع.
ح ـ إعتماد رؤية إستراتيجية للإصلاح. كل إصلاح لا يكون مُؤسّسا على نظرة واضحة ومحددة المراحل وناضجة من قبل مختلف الفاعلين الاجتماعيين ومكتملة الشروط سوف يتعثر ولن نقدر على إنجاز المطلوب منه. 
 
الخاتمة
 
 إنّ تغيير القوانين والمضامين والمفردات التربوية لا يعكس بالضرورة تغييرا ملازما في السلوكيات والعلاقات والمواقف التعليمية والتعلّمية بشكل عام. لذلك لم نجد لهذه القوانين والخطط والاستراتيجيات التطويرية تأثيرا كبيرا في واقعنا التربوي لأن أغلب هذه التغييرات تم وضعها نتيجة التغيرات في السياسة الاقتصادية العالمية وكانت استجابة للضغوط الخارجية.
 لهذا، لابد من إعادة استقراء الواقع التربوي  من أجل تقييم مضامين "الإصلاحات" التي انخرطت فيها تونس منذ قانون 2002، وأن لا نكتفي بقراءة التقارير والبحوث  الرسمية بتسجيل الأهداف والخطط المعلنة، بل أن نقيم الممارسات وطبيعة الانجازات في مختلف المؤسسات التربوية حتى نقف على حقيقة المشاكل والمعوّقات التي تحول دون الوصول إلى تحقيق الغايات التربوية الكبرى أو بعيدة المدى. 
 مازال المشهد التربوي عندنا يتميز بعدم التطابق بين ما هو معلن رسميا وبين ما هو متحقق فعلا. والنقص الذي يعاني منه الحقل التربوي يقع في معظمه في عدم الانطلاق من الواقع التربوي التونسي ومعطياته الخاصة ولا يقع في تصور "المثال" أو النموذج التربوي للمستقبل الذي ما فتئ يتردد في مختلف التشريعات والقوانين منذ الاستقلال، لكن ظلت وسائل تحقيقه والمسالك الملائمة لإنجازه قاصرة أو غائبة تماما.
لقد أردنا أن يكون هذا البحث مدخلا منهجيا وتحقيقا سوسيولوجيا في التجربة التعليمية، في أبعادها الخفية والصامتة وغير المكتوبة أحيانا ويحدونا الأمل إلى إعادة الروح والحياة إلى مؤسساتنا التربوية وإخراجها مما هي فيه من إعاقة وشلل إداري مؤسّساتي وتربوي ـ تعليمي  وثقافي ـ رمزي.
كما إنّ بعض المسائل التي أثرناها في تقييم العمليـــة التعليميـــة وقد اعتبرناها من مظاهر ضعفه وتراجعه مسائل هو ليس مسؤولا عنها وإن كانت على علاقة به حيث يتنزل منه مبحث السياسة والاقتصاد والاجتماع في مكوناتــــه التفصيليــــة منزلـــة عليـــا. لذلك فإن قضية الإصلاح لم تعد مشروعا فحسب، بل غدت اليوم، ضرورة مجتمعية ملحة بمقاييس القرن الجديد.
 
المراجع
 
(1) Henry Mendras et Forsé , Le changement social ; tendences et paradigmes, op. cit, p.124.
(2) مجدي عزيزابراهيم، موسوعة المعارف التربوية، عالم الكتب، القاهرة، (الطبعة الأولى)، 2006، ص54.
(3) مجدي عزيزابراهيم، موسوعة المعارف التربوية، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص54.
(4) مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية. أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية، عالم المعرفة، العدد317، الكويت يوليو2005، ص141.
(5)-Abdelwaheb Bouhdiba 
« Quetes sociologiques et point de vue sur la famille tunisienne actuelle », R .T.S.S, N°11 ,Octobre1967
(6) عبد الوهاب بوحديبة، لأفهم فصول عن المجتمع والديــــن، الدار التونسية للنشر،1992، ص 77.
(7)  جيليوجيليف، "التربية والمواطنة في القرن الحادي والعشرين" من القيم الى أين؟، مؤلف جماعي، بيت الحكمة، تونس جوان، 2005. 
(8) Montandon (C léopàtre) et Perrenoud(Philippe),
Entre parents et enseignant ; undialogue et-il impossible ? Cole. Exploration, Paris, 1994, p.52.
(9) Deschamps (J-C) et autres,
 L’identité sociale ;la construction de l’individu dans les relations entr groupes, Presses universitère de grenoble, 1999, p.16. 
(10) Raymond Boudon,
 L’inégalité des chances, Paris, éds Armand Colin, 1973, p.92.
(11) بورديو بيار، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 1990، ص 60.
(12) Eliane Amado Lévy-Valensi,
 La communication, Paris, Ed Universitaires, 1972, p. 90.
(13) أخذنا هذا الجدول من دراسة أنجزتها الادارة الجهوية للتربية بتونس2، صادرة عن الندوة الجهوية بمعهد باردو، الجمعة 03أفريل2009.
(14) أحمد خواجة، الثقافة المدرسية والعنف. 
بحث ميداني حول ظاهرة العنف المدرسي بالمعاهد التونسية، شهادة الكفاءة في البحث في علم الاجتماع، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، ص6.
(15)Alain Touraine,
 Sociologie de l’action, Paris, Eds du seuil, 1965.
(16) الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007، مصدر سابق، ص96
(17) المنشور عدد 6301/2008، حول دعم العناية بالتنشيط الثقافي بالمدارس الاعدادية والمعاهد، مؤرخ في 25 أوت 2008.