بهدوء

بقلم
محمد القوماني
23 أكتوبر .. شرعيّة ضرورية لكن ليست فوق النقد

 بعد نحو سنة من إنجاز الشعب التونسي لثورته المجيدة التي أطاحت برؤوس الاستبداد والفساد، وبعد سنة من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي فتح الطريق لبناء نظام سياسي يقطع مع العهد البائد ويحقق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بين الأفراد والجهات، ويمنح التونسيين، وفي مقدمتهم الشباب، آمالا في مستقبل أفضل، يقترب موعد 23 أكتوبر، وسط جدال سياسي حادّ وتوتّر غير مسبوق في أوساط النخبة، وأوضاع اجتماعية وأمنية متفجّرة في مناطق مختلفة من البلاد وفي قطاعات  متعدّدة، وغموض وحيرة لدى أغلب المواطنين. وبعيدا عن خطابات التشكيك والتهويل، أو التجاهل لحقيقة الوضع وإظهار الطمأنينة الزائفة، نرى من المناسب ومن المشروع في ذكرى توقيع وثيقة الانتقال الديمقراطي )15/09/2011( أو ذكرى مرور سنة على انتخابات المجلس التأسيسي 23)/10/2011(، أن نتوقف بجدية لتقييم مسار المرحلة الانتقالية  ولتعميق النظر حول قضايا بالغة الأهمية لم تعد تحتمل التأجيل، وفي مقدمتها التساؤل عن مدى اتجاهنا في تغيير الحكم والقطع مع الاستبداد بمجرّد تغيير الحكّام بعد الثورة؟ والتساؤل عن المخاطر التي تتهدد الثورة في ظل التنازع حول الشرعية بعد انتخابات تعدديّة وشفافة.

كما نراها فرصة ليجلس مختلف الفاعلين على مائدة حوار وطني تأخر كثيرا، من أجل وضع آليات التوافق المطلوب فيما تبقى من المرحلة الانتقالية، ومن أجل تصحيح ما بدا خروجا عن مسار الثورة واستحقاقاتها،  ومن أجل التوصل إلى أجندا وطنية دقيقة تزيل الغموض وتبعث بالطمأنينة مجدّدا وتجعل مختلف الأطراف المعنية بالانتخابات القادمة تعمل في إطار من الوضوح.
مكاسب ومخاوف
 أبدى التونسيون من مختلف المواقع والأجيال أقدارا لافتة من الوعي واليقظة والمسؤولية خلال الأيام الحاسمة من الثورة المجيدة وما تلاها من ظروف صعبة بعد انتصارها، وانخرطوا تدريجيا في وهجها وفي مسار إنجاحها. وانتظروا بصبر كبير موعد إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جاءت تعددية وحرة وشهد لها الجميع بالشفافية. ونظر الجميع بالداخل والخارج إلى انعقاد المجلس وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، والانتقال السّلس للحكم، على أنها عناوين بارزة ومُشجعة على بداية مرحلة ما بعد الاستبداد والفساد وخطوات على طريق الانتقال الديمقراطي الذي تمثل تونس أفضل حالاته العربية.
كان المأمول  بعد تلك الخطوات الهامة، بناء الشرعية السياسية وخلق حالة من الاستقرار وبداية حل المشاكل حسب الأولويات في إطار من الشراكة الواسعة والتعاون على رفع التحديات وإنجاح المسار الانتقالي. لكن بعد عام من الانتخاب تبدو الأمور غير مطمئنة لعموم التونسيين. وليست مظاهر  الاستقطاب الإيديولوجي والتجاذب السياسي الحادّين بين الأطراف السياسية والتوتر الاجتماعي والانفلات الإعلامي، سوى عناوين لتأزّم الأوضاع واستمرار الهشاشة الأمنية. فالاختلاف رحمة وهو إيجابي وهو أيضا عنوان التعددية، لكن الفرق كبير بين الاختلاف والتنافس وبين التجاذب والاستقطاب والعداوة التي بات يعكسها العنف اللفظي والمادي في الفترة الأخيرة.
ولا يمكن أن يحجب عنا التمسك بحرية التعبير، وهي من أهم مكاسب الثورة، خطورة التغطية السياسية  والحقوقية وربما الإعلامية لحالة تمرّد  صريح على القانون، وتحريض غير خاف على مواجهة حكومة شرعية، بخطابات سياسية تخطئ السياق وتمارس إسقاطا  غير جائز لصُور ومصطلحات  وآليات تصحّ على العهد السابق ولا تأخذ بمعطيات الوضع الجديد. ولعل إعلان  نوّاب بالمجلس الوطني التأسيسي  الدخول في إضراب عن الطعام، داخل مقر المجلس الذي يُعدّ السلطة الأصلية والعليا في هذه المرحلة، صيغة بالغة الرمزية والخطورة في علاقة التجاذب والتحدي بين الحكومة والمعارضة. فلم يسبق أن عرفا قبل هذا الإعلان جهودا لهؤلاء النواب في وضع حدّ لتعمّد بعض المواطنين قطع الطريق على غيرهم واحتجاز سيارات الدولة واحتجاز طاقم تحكيم في كرة القدم وتعطيل مصالح الناس والإضرار بسير العمل في تلك المناطق...كما لم نعلم عن مبادرة لهم باقتراح صيغة عل المجلس التأسيسي لمعالجة الأوضاع بمعتمدية  بوزيان التي تعاني من التهميش والأوضاع الصعبة لسكانها، وفوجئنا بقرارهم الدخول في إضراب جوع  مفتوح للمطالبة بإطلاق من اعتقلتهم السلطات على خلفية ما أشرنا إليه من أعمال يمنعها القانون. وليست هذه أول مرّة يطالب فيها سياسيون أو نقابيون بإطلاق سراح من يتم اعتقالهم بصرف النظر عن التأكد من الأفعال المنسوبة إليهم ومن ضمان حسن سير العدالة واستقلال القضاء.
وليس هذا الإضراب عن الطعام، بصرف النظر عن مصيره، سوى مناسبة لتناول درجة التوتر بين الحكم والمعارضة، والتنبيه إلى خطورة التدخل في سير العدالة وتداعيات تكرّر هذا التدخل على حماية من يخرقون القانون وعلى مستقبل الديمقراطية.
ومن جهة أخرى لا يجب أن تحجب عنا المناكفات اليومية والأحداث الدوافع الحقيقية للتجاذبات السياسية وانعكاساتها على هذا وضعنا الهشّ، الذي تزيده المؤشرات الاقتصادية الصعبة تأزّما. فتأخر مسار العدالة الانتقالية، وعدم التوصل إلى تسويات بين الخاسرين من الثورة والمستفيدين منها، وعدم الوضوح في مسار المصارحة والمحاسبة والمصالحة، الذي يقول به جميع الفاعلين ولا يتقدم في مستوى الممارسة، وأزمة الثقة الحادة بين النخب الجديدة الممسكة بمقاليد الحكم وبين خصومهم ممن هم خارجه، من حكام الأمس أو من أصدقاء المعارضة في السابق، وتبادل تهم الاحتكار ونزعة الهيمنة غير المشروعة على الدولة من جهة، أو عدم التسليم بنتائج الانتخابات الحرة والتآمر على السلطة الشرعية من جهة أخرى، ورهانات الانتخابات القادمة التي لم يتحدّد بعد إطارها ولا ملامحها، هذه الدوافع وغيرها تظل ألغاما تهدّد المسار الانتقالي ما لم نبادر بشجاعة وإرادة صادقة من الجميع إلى تفكيكها. والخشية كل الخشية، أن يتسلّل بقايا النظام السابق وسط هذه الألغام، فهم أهل الخبرة والمكر والمقدرة، لتنفيذ مخططاتهم. وليس التسرع بالحكم بالفشل الذريع للماسكين بالسلطة بعد الانتخابات، وتحسّر بعضهم علنا عن أيّام المخلوع، وتجرؤ بعض رموز الفساد والاستبداد على العودة إلى الإعلام وتصدّر المعارضة، سوى مؤشرات على مخاطر عودة النظام القديم، فتسقط الثورة في أيدي من لا ينفكون عن ادّعاء حمايتها.
شرعية ليست فوق النقد
في كل مرة يتم  نقد  أداء حكومة "الترويكا" ومردودها في التعاطي مع الملفات الحارقة ومطالب الثورة، يؤكّد  المدافعون عن الحكومة أنها صاحبة الشرعية الانتخابية ولا يجب أن يزايد عليها أي طرف في مدى التزامها بقضايا الثورة. ولئن كانت الشرعية الانتخابية قاعدة ديمقراطية لا يجوز المساس بها،  لأن أي تشكيك في هذه الشرعية قد يدفع بالبلاد إلى منزلقات خطيرة، فإن ذلك لا يعني عدم مساءلة "الترويكا" حول أدائها الذي كان في جانب هام منه دون المأمول.
 
        فشرعية أيّ حكم تنبني على عناصر عديدة أولها الشرعية الانتخابية، إذ ليس هناك صيغة معبرة عن إرادة الشعب أكثر من الانتخابات. وقد يكون المكسب المؤكّد والذي حققناه بعد الثورة هو أننا قمنا ولأوّل مرة في تاريخ البلاد بانتخابات حرة ونزيهة كان فيها المواطن هو صاحب الشرعية الأصلية سواء أخطأ في الاختيار السياسي لمن يحكمه أو أصاب. لأن الانتخابات النزيهة والشفافة تبقى المكسب الذي يمكّنه من التدارك في صورة الخطأ.
 
       وتلك الشرعية يساهم في دعمها المواطنون والحكام على حدّ السواء. إذ يعتبر انقلابا على الشرعية عندما يعمد الحاكم إلى إفراغ الديمقراطية من جوهرها الحقيقي وهو الانتخابات الحرة والنزيهة، بعدم توفير شروطها وآلياتها، ومن بينها، قانون انتخابات متوازن يضمن التعددية ويسمح بتمثيل مختلف مكونات الساحة السياسية الوطنية   وهيئة عليا مستقلة للإشراف على الانتخابات  وقضاء مستقل يمكن الاحتكام إليه في الخلافات وقانون أحزاب يضبط التمويل ويضمن تكافؤ الفرص. وهذه مخاوف غير خافية حول الشرعية القادمة. كما أن المواطنين الذين لم يصوّتوا للفريق الحاكم، لا يحق لهم الانقلاب على الشرعية بالتماس طرق أخرى غير الانتخابات لتغيير من هم في سدة الحكم. ففي إطار الشرعية الانتخابية لا تتم إزاحة الحكام أو تثبيتهم إلا عبر العملية الانتخابية الشفافة. ومع كل ذلك تبقى الشرعية الانتخابية وحدها غير كافية لممارسة السلطة ، خاصّة في مرحلة انتقالية  تأسيسية وفي ظل أزمة ثقة حادة، فيها تركة ثقيلة من نظام استبداد، وفي غياب دستور وعقد اجتماعي،وفي ظروف تداعيات الثورة. كما أن مرحلة التأسيس هي مرحلة شراكة سياسية بامتياز، شراكة لا تطمس التعددية و حق الاختلاف.  
          لذلك لابدّ من نقاش معمّق في مضمون الديمقراطية وآلياتها، في هذه المرحلة، حتى نصحّح المسار. فاستقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي. إذ الحكومة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة الحالية. ولا تستطيع القول أنها المسؤولة الوحيدة على تأمين  تحقيق أهداف الثورة. ولا يمكنها الحكم بمنطق الأغلبية. ولذلك نعدّ تعبير "الصفر فاصل" تعبيرا خاطئا ومُضلّلا. ونرى في  الرسائل السلبية للترويكا منذ الانتخابات، وخاصة رسالة الهيمنة، سببا في توتير الوضع السياسي.
كما أن الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة،  تتحمل جانبا من المسؤولية في دفع المشهد إلى الاستقطاب. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق  أهداف الثورة. فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا. والتوازن ضروري للمجتمع في كل الأحوال. وعليه فإن  الوضع الإستقطابي (سلطة/معارضة) بهذه الحدّة لم يعد مقبولا. وحق المعارضة لا يحجب واجب الإقرار بشرعية السلطة وتوخّي الصيغ الديمقراطية المشروعة في الصراع السياسي. 
تعديل المشهد الحزبي
          إضافة إلى العوامل السالفة الذكر فإن ما يزيد المشهد السياسي تعقيدا وصعوبة، هي حالة عدم التوازن الحزبي، التي كشفت عنها انتخابات المجلس التأسيسي وتجربة حكم "الترويكا". وهذا ما يلقي المسؤولية في هذا المستوى، على عاتق من هم خارج الحكم، لرفع تحدي خلق القوة الحزبية اللازمة للتوازن الذي تظل الديمقراطية مهدّدة في غيابه. فبلادنا بصراحة لا تتحمل هذا العدد من الأحزاب، والتعددية إذا صارت مجرّد أرقام وتسميات دون فاعلية أو تأثير في مُجريات الأمور واتجاهات القرارات، تظل بلا معنى. وهذا ما يستوجب دون مُواربة تقليص عدد الأحزاب إلى الحدّ الأدنى الضروري، بإرادة القائمين على الأحزاب أولا وبتطوير قانون جديد للأحزاب ثانيا، يفرض تنظيمها على أسس تضمن فعاليتها ويمكنها من المقدرة اللازمة لأداء مهامها.
           ولا عجب في ظل هذا المشهد الحزبي الضعيف، أن ينحى من اختاروا التمترس في المعارضة، في مرحلة تأسيسية، إلى الاكتفاء بالاحتجاج وتضخيم الأمور ولخبطة الأولويات وخلط الأوراق السياسية، وجعل مناكفة الحكومة، هدفا في حدّ ذاته، وجرّ المشهد إلى الاستقطاب الأيديولوجي والاصطفاف السياسي، الذي ضاعت فيه مشاغل الناس ومعاناتهم. وبالتوازي ضاعت فيه آراء من يرفضون هذا الاستقطاب، وسط مشهد إعلامي يميل إلى المُشاحنات ويفضّل المفرقعات الخطابية. فازدادت حيرة المواطنين، الذين تزداد نسبة عزوفهم عن الانخراط في الأحزاب أو حتّى مجرد متابعة حوارات السياسيين وتبيّن مقارباتهم المختلفة. وعلى عاتق المنحازين للثورة والملتزمين بأهدافها، يقع عبء الفشل المتكرّر في تعديل موازين القوى والتأثير الايجابي في المشهد، الذي لن يتم تجاوزه، بغير مراجعة جريئة  للخطاب الاجتماعي والثقافي وللتمشي السياسي المعتمدين، ولصيغ بلورة الخيارات الصائبة وبناء القرارات الديمقراطية الجامعة.، من أجل بناء الحزب الوازن والفاعل الذي يفتح للتونسيين آفاقا تعبر عن تطلعاتهم خارج حالة الاستقطاب الثنائي التي يُراد فرضها.
التوافق على الأولويات
                 تقع المسؤولية الكبرى في تحديد الروزنامة الوطنية  التي يُجمع كل من هم خارج الحكم على ضرورة الإسراع بها، والتي  تحدّد  موعد الانتخابات القادمة وطبيعة هذه الانتخابات هل هي رئاسية أم تشريعية والقانون الانتخابي  الذي سيؤطرها والهيئة المستقلة المشرفة عليها، على عاتق  المجلس التأسيسي عموما وعلى كتلة الأغلبية فيه خصوصا. 
كما  أن على الحكومة التي تتحمل مسؤولية إدارة المرحلة أن تبادر من جهتها بتنظيم الحوار الوطني حول هذه المسائل وغيرها حتى تجنب البلاد مزيدا من الاحتقان السياسي الذي لم تعد تتحمله. ونحن إذ نتفهم إمكانية تجاوز السنة في انجاز المهام التي تعهدها المجلس التأسيسي، ونذكّر بالالتزام الأخلاقي الذي قطعته الأحزاب الممضية على وثيقة الانتقال الديمقراطي في العمل على إنهاء المرحلة خلال سنة، فإننا لا نفهم التهرب في هذه المرحلة أو التذرع بأي سبب لعدم التقيّد  بروزنامة وطنية واضحة. وان إعلانات رئيس المجلس التأسيسي أو رئيس الحكومة لا تفي بالغرض ما لم يحصل حوار وما لم يصدر مرسوم في هذا الاتجاه. كما لا نفهم إعلان الحكومة أكثر من مرّة عزمها على تنظيم حوار وطني، وعدم تحقّق أيّ شيء من ذلك في الواقع.
 
               ولمن يشكّكون في انتهاء الشرعية يوم 23 أكتوبر القادم  ويتّخذونها فزّاعة، نقول أنه ليس هناك ما يستدعي هذا التشكيك في الهيئات القائمة. إذ لا توجد  مطاعن قانونية  وجيهة في الموضوع، لكن هناك أسئلة يحقّ  طرحها بهذه المناسبة، وهناك أخطاء يجب تصحيحها، وهناك التزامات يجب قطعها وضمان الوفاء بها. وهذا ما حاولنا إثارته  بهذه المناسبة، ويبقى من المهم أن نشدّد في نهاية هذا المقال  على أن النخب التونسية التي أبدت تعقّلا بعد هروب الدكتاتور، ورضت بأن يسيّر البلاد أحد رموز النظام البائد وذلك في سعي للمحافظة على الشرعية وحتى لا تنزلق البلاد إلى فوضى غير معلومة العواقب، يجب أن تبدي اليوم نفس التعقّل أو أكثر، وأن تتعامل مع مجريات الأحداث بما يجنبنا مرة أخرى أن نسقط في الفراغ. فالمحافظة على الشرعية القائمة ضرورة، لكن تلك الشرعيّة ليست فوق النقد.