إثراء للنقاش

بقلم
علي الطرهوني
المسألة التربويّة: خسوف التعليم في المجتمع الإستبدادي

 (1) حول التعليم التونسي

 
إن المتأمل في واقع حياة المجتمع اليوم وآليات سيره سيدرك الكم الهائل للفجوة القائمة بين مختلف مكوّناته : بين التكوين والتشغيل وبين المدرّس والمتعلّم والمنظومة التربوية ككل.
لماذا تخرّج المدرسة آلاف الناجحين وآلاف العاطلين عن العمل، هؤلاء أنفقت عليهم مبالغ طائلة من المجموعة الوطنيـــة ثمّ سدّت في وجوههم أبواب الشغل. هل هي مسؤولية المدرسة؟ أم هي فشل السياسة التربوية؟ أين يكمن الخلل؟ وما سبيل العلاج؟
 
لقد عرفت المدرسة التونسية عديد التجارب الإصلاحية منذ الاستقلال. في الثمانينات والتسعينات تجارب فاشلة يعرفها القاصي والدّانـــي جعلتهــا تتخبّـــط في الارتجالية والقرارات السياسية المسقطة، تحوّلات غريبة شهدها قطاع التعليم وما تجارب الكفايات الأساسية إلا أنموذج على البؤس.
واليوم هناك بوادر اتجاه نحو الخوصصــــة والتخلّي عن التعليم العمومي الإجباري الذي هو مفخرة التجربة التونسية الحديثة.
 
لقد فقدت المدرسة العمومية هيبتها والعديد من مقومات إشعاعها والقيم التي يجب أن تتحلّــى بهــــا. فلا يمكــن أن ننكر ما نلمسه لدى التلاميذ من تدهور المستوى الأخلاقي الأمر الذي جعل المربّي يفقد لذّة التدريس ويبحث عن سبل الخروج من أجواء القسم المشحونة.
لقد تعمّق نفور التلميذ من المعرفة وتقهقر المستوى التعليمي لديهم، كأننا أمام عودة للأمية المستفحلة.
أفرغ التقويم من محتواه واستفحلت ظواهر الغش والتحيّل والعنف المدرسي ولـــم يعـــد التعليــــم جوابـــا على ما نعيشه اليوم من تحوّلات رهيبة.
هناك تناقض واضح بين محتوى التعليم الذي يقدّم للتلاميذ في مدارسنا وبين الغايات التربوية التي ينشغـــــل وفقهـــا وبين المدرسة والواقع والمطلوب تحقيقه من المدرّس داخل القسم وبين الإمكانيات المتاحة له أمر لا يؤدّي به إلى القيــــام برسالتـــه على أكمل وجه.
بعض الأمم على قلّة مواردها تقدّمت لأنها استثمرت في الإنسان ( ماليزيا مثلا...) فهناك وشائج قربى بين المربّي والمقاول هذا يبني حجرا و ذاك يبني بشرا.
 
لكنّ الواقع، أن المدرسة على ما هي عليه لا تترك مجالا للإبداع فهي قائمة على الخوف والخضوع وانعدام المبادرات وإخضاع الآخر المتقبّل عن طريق جملة من المناشير والأهداف فهي سياسة تربوية تضرب مفهوم المواطنة ولا تنتج مواطنا حرّا مبدعا ومسؤولا.
 
هناك سلوكيّات عدّة تقتل عندنا روح المبادرة نتيجة مفاهيم مغلوطة حول التربية. ”التربية لا تعني مطلقا الاستنساخ“ . فقدان الانضباط داخل المؤسسة التربوية والجنوح والتهميش صورة لأثر هذا الفقدان في المجتمع. كان تعليمنا التقليدي يقوم على الخضوع وكان المدرّس حامل المعرفة وحده باعتباره ”محور العملية التربوية“واليوم أصبح التلميذ محور العملية التربوية . فسياسة المحاور هذه أغفلت جوانب مهمّة فــــي المثلث التعليمــــي القائــم على ثلاثية ”مــــدرس/تلميـــــذ/معرفــــة“ ومـــا رافق ذلك اليـــوم من تجاوزات وغضّ الطرف . فالجميع شريك في إنجاح العملية التربوية.
 
لقد ساهمت المناشير المسقطة في خســـــوف قيمــــة التعليـــم وفي انتشار ظواهر التسيّب والميوعة والتمرّد داخل الفضاء المدرسي كرّستها السياسة التربوية في مجتمع الاستبداد. لقد عمدت هذه السياسة التربوية إلى تغييب صوت طرف على آخر وإقصاءه ودفعت أحيانا إلى الصدام بين أطـــــراف لا غنــــى عنهـــا في نجاح أي عملية إصلاحية. وبمقتضى ذلك لا يدرك المتعلّم قيما كثيرة نسفت كقيم الصدق والحرية ومبدأ العدالة وقيم العمل. وبفعل التأثيرات السلبية للمجتمع وللإعلام وتخلّي المدرسة عن دورها التربوي بمعيّة الأسرة أن اهتزّت صورة التعليم في بلادنا وصورة المدرّس وأصبحت المدرسة مغتربة عمّا حولها ، بل أصبحنا نعيش مفارقة بين اعتبار المدرسة مقياسا للقيم حتّى من خلال تسمية وزارة التربية والتكوين وبين الواقع الذي يدمّر ذلك. رسالة التربية شقاء متواصل وتجديف ضد التيّار فالسياسة العامّة للتربية لم تتعامل مع التربية كعملية استشرافيّة للمستقبل إنما هي مجرّد أرقام وبيانات حول نسب النجاح وهي تدخل في المجال السياسي لتلميع صورة الحاكم المستبدّ ولم نتساءل يوما لماذا نجح التلميذ وكيف نجح؟
قرارات ارتجاليــــة متسرّعــــة كإضافـــــة نسبة 25 % للنجاح في الباكالوريا ثم حذفها كما يشاع هــــذه السنــــة. إلى متى نتعامل مع المسألة التربوية بهذا المنطق المبتور الأعرج؟
 
أين قيمة المعرفة من ذلك؟ ولماذا نجد طلبتنا على هذا المستوى من الضحالة المعرفية والتكوين ؟ فأزمة المدرسة والجامعة وبطالة أصحاب الشهائد وتدنّي المستوى التعليمي لناشئتنا وزيف الامتحانات وتخدير الشباب وإشباع نهمهم بالحصول على الشهادة بأقل جهد ممكن أمر مفزع يقتل الكفاءات ويهمّش الشباب ويجعل المستقبل مسدودا. 
 
(2) أزمة الفكر السياسي وتأثيراته التربوية
 
لقد خلق غياب الحوار بين جميع الأطراف المكوّنة للعمليّة التربوية قطيعة صادرت الاختلاف وفرضت ثقافة الخوف والكتمان والقهر وزادت الفجوة بين المدرّس المثقف والمتقبل. وفي طغيان سياسة تكميم الأفواه غابت الحلول وعمّت الفوضى وفقد الدّليل.
 
لقد ماتت الإيديولوجيا في ظل التحوّلات العالمية المتزايدة وانحسرت الآمال الاشتراكية في المنطقة العربية ونتج عن ذلك كما يقول أدغار موران ” أن قسما كبيرا من الأجيال الجديدة تحوّلت إلى الأصولية الدينية بفعل القمع والاستبداد الذي فرضه النظام الدكتاتوري البائد ولم تعد الأنتلجنسيا الممثلة في الأساتذة والمحامين والأطبّاء والمفكرين وغيرهم حمّالة أفكار كبرى بل تحوّلوا في غياب المعنى إلى مجرّد كائنات تستهلك تجارب الغير وتكتفـــــي بـــدور المتفـــرّج أو الكومبارس في مسرحية درامية حاك خيوطها النظام الاستبدادي وسخّر أدوات التربية لتبرير مشروعه البائس.
لقد قتلت التربية الإبداع وحنّطته فقلّت المردودية وغابت النجاعة. يقول عبد الرحمان الكواكبي : ” التربية و الاستبداد عاملان متعاكسان في النتائج فكلّ ما تبنيه التربية بضعفها يهدمه الاستبداد بقوّته وخير ما نؤسس به العدالة يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتن“
إذن المسألة التربوية أمر لا يحتمل التأجيل وإصلاح منظومتها لإقامة دولة ديمقراطية مسألة مستعجلة حتّى نعيد للعقل مكانته داخل المؤسسة التربوية ونتخلّص من ثقافة التزلف والانتهازية والموالاة ونخلّص مؤسساتنا من التخلّف والتجهيل وسياسة فرض وقبول الأمر الواقع. يقول رئيس وزراء اليابان: ” لقد أعطينا المدرّس صلاحيّات برتبة وزير“.
علينا في مجال التربية أن نتدرّب على ممارسة ديمقراطية تشاركيّة فأصحاب الخبرة والكفاءات تشترك في صنع القرار وتجديد الوسائل والغايات فالمتعلّم يحتاج أن ندرّسه قيم الحرّية والديمقراطية وأسلوب الحكم ومعنى المواطنة، لأن التربية والتعليم شأن مجتمعي عام وليس حكرا على فئة تخطّط للسياسة التربوية العامّة وتديرها عن بعد في مكاتب مغلقة ومكيّفة . فهي لم تنزل الميدان ولم تقم بدراسة استشرافية تؤسس للمستقبل وهي آليات تعيق عملية الإبداع وتجعل التعليم يراوح مكانه فمتى نفهم؟
 
معلّم أبنـــــــاء البــــلاد طبيبهــــا
يداوي سقام الجهل والجهلُ مُسْقمُ
فلو قيل مَنْ يستنهض القوم للعلى
إذا ساء محْياهـــم ، لقلتَ المعلّـــمُ
 
————————————-