رأي خبيـــــر

بقلم
د.مصدق الجليدي
الآجل والعاجل في إصلاح المنظومة التربوية التونسية

 على إثر نجاح ثورة الشباب التونسي في المضـــي شوطا هامـــا في اقتلاع جذور الاستبداد والفساد في البلاد، انفتحت أمام التونسيين أبواب الإصلاح في كل المجالات على مصراعيها، وقد شملت الدعوات إلى الإصلاح إلى حد الآن عديد المجالات، ولكن المجال الذي بقي صوت الدعوة إلى إصلاحه خافتا نوعا ما، هو المجال التربوي. فالنداءات والمحاولات التي اطلعنا عليها بهذا الخصوص لم ترتق إلى مستوى التفكير في الإصلاح الشامل لهذا القطاع الحيوي. من موقعي المطلع على خصوصيات هذا القطاع الوطني الحيوي، باحثا مختصا، وأستاذا مدرّسا، وناشطا مدنيا، فإني أقترح على سبيل المعالجة المنهجية الأوّلية لهذا المشروع التربوي الوطني الجديد، خطاطة عمل أرفعها لكل الفاعلين التربويين في مختلف مواقعهم الرسمية والمدنية، وأدعوهم جميعا إلى التفاعل مع هذا المقترح ومزيد ترشيده، من أجل إطلاق مبادرة وطنية لبناء نظام تربوي جديد يستجيب لاستحقاقات الثورة والانتقال الديمقراطي بتونس، يمكن البتّ فيه خلال مدة تستغرق بين السنتين إلى ثلاث سنوات من تاريخ بدء العمل الفعلي عليه، على أن تشمل بالتدريج مختلف مستويات التعليم بعد وضع الأسس الرئيسية للإصلاح الجديد، الذي نؤكد على أن يكون إنجازه بخبرات وطنية صرفة مع الاستئناس بالتجارب التربوية الناجحة في العالم، وألا نظل حبيســـــي النماذج الفرنكفونيــــة، بل ننفتح على تجارب أخرى أثبتت نجاعة أكبر كالتي عرفتها بعض البلدان السكندنافية والآسياوية، مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة الثقافية والحضارية لبلادنا، واستلهام قيم الثورة الجديدة، قيم الحرية والكرامة والعمل والعدالة والإنصاف.

ولكن قبل الشروع في تقديم الملفات التربوية الأساسية التي يجب العكوف عليها ومعالجتها ضمن تمشي البناء التربوي الجديد في العاجل والآجل، سأبدأ باستعراض أهم مظاهر إعضال المنظومة التربوية الحالية وأدوائها السبعة، مع شرح بعض أسبابها والإشارة إلى بعض سبل وطرق معالجتها.
(1) مظاهر الإعضال في المنظومة التربوية التونسية
قامت الثورة التونسية على جملة من الشعارات العاكسة لبعض مطالبها المشروعة من بينها تشغيل الشباب المعطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا. وهذا أمر يعبر عن مظهر من مظاهر فشل المدرسة التونسية في تلبية انتظارات المجتمع منها. ولكن توجد مظاهر أخرى للإعضال التربوي في تونس لا تقل أهمية عن هذا المظهر الهام له، وقد حددناها في سبعة أدواء نخرت كيان هذا النظـــام إلـــى حـــدّ إصابتـــه بمرض الهشاشـــة البنيويـة، نعرضها على التوالي مع شرح أهم أسبابها واقتراح سبل لعلاجها: 
(1) سوء العلاقة التربوية والمناخ التربـــوي بصفــــة عامـــة، ومن دلائله تفشي ظاهرة العنف اللفظي والمادي وتراجع مكانة المربي الاجتماعية. وسببه هو وجود أزمة قيم في المجتمع التونسي. كيف لا وقيادته العليا السابقة كانت تشكو من انحطاط شديد في القيم: السرقة وتعاطي المخدرات والاتجار بها والفساد والقمع وتلقي الوشايات المغرضة...الخ، وكما يقول المثل الشعبي " (البل) الإبل تمشي (تسير) على كبارها". فبقيت القيم المحملــة في البرامج التربوية حبرا على ورق. زد على ذلك أن عددا متزايدا من المعلمين والأساتذة، وفي سعي منهم لتحسين إمكاناتهم المادية المتواضعة نسبيا، التجأوا إلى تقديم دروس خصوصية غلب عليها النزوع إلى الربح المادي على حساب خدمة مصلحة التلميذ، الأمر الذي ساهم في خلق أزمة ثقة بين المربي وتلاميذه وانهار مثاله الأخلاقي في نظرهم، وهو ما تسبب كذلك في توليد مشاعر غضب ونقمة لدى الأولياء وانحطت مكانة المدرس في نظرهم هم كذلك، مما جعلهم يعاملونه معاملة الأجير الذي عليه ضمان حصول أبنائهم التلاميذ على نتائج مدرسية مرتفعة مقابل الأموال التي يدفعونها  له. طبعا لا يجوز التعميم في هذا المقام، ولكن هذه ظواهرُ أصبحت متفشية في السنوات الأخيرة. وعلاج ظاهـــــــرة الانحطاط القيمـــي في المدرسة، مهما اختلفت أسبابه يكون بأمرين: أحدهما معنوي والآخر مادي. أما الأول فهو مراجعة المنظومة التربوية القيمية والتأكيد على قيم الثورة الجديدة قيم الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة الفعالة والنهل من معين أصالتنا الحضارية التي تشتمل على قيم الاحتــــرام والرحمــــة والمــــودة والإتقـــان والإحســــان. إذ أن واجب المدرسة التونسية مستقبلا هو العمل على بناء الإنسان التونسي الجديد المتشبع بالقيم والأخلاق الأصيلة وبناء المواطن الفعال المســـؤول عــــن نهضــــة بــــلاده وتقدمهـــــا واستقلالها الوطني. ولكن العلاج لا يقتصر على هذا التمشي  التربوي الأخلاقي فحسب، بل لا بد كذلك من حفظ كرامة المربي بتحسين ظروفه المادية وتمكنيه من الحصول على حقه المشروع في السكن اللائق والهندام المحترم والنقل المريح والعلاج الميسر والتكوين الجيد والتثقيف المستمر. 
(2) فشل المقاربات البيداغوجية التجديدية وتعرضها لمقاومة شديدة من قبل المعلمين والأساتذة. ولهذا الأمر أسباب متنوعة، منها نزوع الإنسان عادة نحو التمسك بالقديم والاقتصاد في الجهد، خاصة في غياب الحوافز المعنوية والمادية أو ضعفها، ولكن السبب الأهم هو درجة التعقيد الذي عليه هذه المقاربات البيداغوجية مثل المقاربة بالكفايات، التي قد لا تحمل في حد ذاتها نقاط ضعف كبيرة، بما أنها مستندة إلى أسس علمية في علم النفس العرفاني وعلم النفس البنائي، ولكن صعوبة استيعابها من قبل المدرسين يعود على الأرجح إلى افتقادهم لتكوين أساسي متين في علوم التربية وفي علم نفس التربية والديداكتيك على وجه الخصوص، والتركيز على النواحي التقنية الثقيلة فيها من قبل المكونين على حساب تعميق الفهم لفلسفتها ولروحها لدى المعلّمين. ممّا عمّق لدى المدرسين وخصوصا أساتذة التعليم الثانوي منهم النزوع نحو تطبيق الطريقة التقليدية في التدريس المرتكزة على التلقين والإملاء والحفظ والتكرار، والابتعاد عن روح النقد والإبداع. ومثل هذه الظواهر –التي لا تخص مقاربة الكفايات فقط، وإنما كل ضروب التجديد البيداغوجي- يمكن إيجاد معالجة جذرية لها ببعث كليات علوم تربية تسهر على التكوين المنهجي للمدرسين في المرحلتين الأساسية والثانوية بالمراوحة بين الجانبين العلمي والتطبيقي. وكذلك مراجعة برامج ومناهج تكوين المكوّنين لتأهيلهم أكثر لتكوين منظوريهم تكوينا ملائما للمهمّات المنتظرة منهم.
(3) ومن مظاهر الإعضال التربوي كذلك، هو عدم ملاءمة منظومة التقييم لملامح المتخرج التي يجب توفرها فيه. أي الاعتماد شبه الكلي على التقييم الجزائي على حساب التقويم التكويني. بحيث لا ينظر إلى التقييم على أساس أنه جزء لا يتجزأ من تمشّيات تكوين المتعلّم وإنّما فقط كمرحلة أخيرة جزائيّة لعمله. وهذا ما لا يعمل به الآن في النظم التربويـــة الأكثـــــر تقدّما في العالم (مثال فنلندا حيث لا يعمل طوال السنوات التسع من التعليــــم الأساســـي إلا بالتقويم التكويني). والمعلوم عن التقويم التكويني كونه يوفر فرصة لتشخيص ما قبلي وما بعدي لمستوى تملك المتعلّم للكفايات المبرمجة ثم وضع استراتيجية علاجية لمساعدته على تخطّي الصعوبات التعلميـــّـة التي تعترضه، وهو ما لا يتوفر في التقييم الجزائي. ونحن نستعمل هنا عن وعي عبارتي التقييم والتقويم، فالثاني كما هو واضح أشمل من الأول.
(4) التذبذب الملاحظ في الاختيارات التربوية خصوصا في مستوى منظومة التقويم المعتمدة، فمرة تبرمج مناظرة لسنوات الرابعة ابتدائي ومرة يعدل عنها، ومرة يجعل من مناظرة النوفيام (ختم التعليم الأساسي) مناظرة إجباريــــة، ومـــرة أخـــرى يعــدل عن ذلك...الخ. وعادة ما يخضع في ذلك إلى تزلف الوجدان الشعبي لا إلى التقييم العلمي لضرورات التكوين الجيد للمتعلّم. ومن هنا دأب النظام السابق على القيام باستشارات شعبويّة تعبويّة ليس الغرض منها إلا المد في أنفاسه المحبوسة بضيق أفقه الثقافي والتربوي والحضاري، مهملا آراء أهل الاختصاص في التربية والتعليم ومعرضا عن الاستفادة من أكثر النظم التربوية نجاحا في العالم، مفضّلا عليها تبعيّة مزمنة للنموذج التربــــوي الفرنكفونـــي الـــذي يشكو من عدة علل، باعتراف أصحاب الشأن أنفسهم.
(5) والإعضالان السابقان يفضيان في نهاية المطاف إلى عدم ملاءمة ملامح خريجي المدرسة التونسية لمتطلبات سوق الشغل. وهذا عائد في جــــزء منــــه كذلك إلى المنظومة الاقتصادية الفاشلة المعتمدة فـــي النظـــام السابــق التي هــــي منظومـــة ريعيـــة، تعتمـــد على رؤوس الأموال والزبونية والولاء وتهريب الأموال للخارج وتكديسها في القصور، على حساب الإنتاجيـــة والجـــودة مما حرم أصحاب الشهائد العليا من توظيف تكوينهم العالي لدعم منظومة الاقتصاد الوطني.
(6) ضعف التكوين اللغوي للمتخرجيـــن فضـــلا عن المنقطعين عن الدّراسة، سواء في مستوى اللّغة الأم أو في مستوى اللّغات الأجنبية. وهذا عائد في جانب منه إلى تذبذب الاختيـــارات على هذا الصّعيد وارتجاليتها وعـــدم ارتكـــازها على دراسات علمية دقيقة في البيئة التونسية، كما هو عائد إلى التخلي عن مواد هامّة مثل المطالعة الحرّة والموجّهة والإملاء والتساهل المفرط في مراقبة وتصحيح الأخطاء اللغويّة، وهجانة اللغة المستخدمة من قبل عدد من المدرسين التي هي خليط من فرنسية وعربية ودارجة. والحل هو في العودة إلى المطالعة وفي المراقبة الجديّة للمستوى اللّغوي لدى المتعلّمين ولدى المعلّمين على حدّ سواء. مع التركيز في السنوات الأولى على اللغة الأم، مع توفير مخابر لغوية سمعية بصرية ووضعيات حية مكثفة للاستخدام السليم للغـــة. والاستفادة من الإمكانات التي توفرها وسائـــــل الاتصـــال الرقميـــة للدخـــول في تفاعل مباشر مع أصحاب اللغات الأجنبية كالفرنسية والانجليزية والألمانية والإيطالية، ولم لا الصينية والتركية كذلك.
(7) ضعف الموارد المالية الموضوعة على ذمّة المنظومة التربوية: فبالنظر إلى الرّهان الكبير المعقود على تربية الإنسان وتكوين المواطن الفعّال في بلادنــــا، كمـــا تروّجــــه الشعارات، على حساب التحقيق الفعلي لها، تعتبر الإمكانات المادية المرصودة للتربية في تونس ضعيفة ولا تفي بالحاجــــة. فكيــــف نراهــــن على تطوير منظومة البحث العلمي على سبيل المثال كخيار وطني يسهم في تكريس ازدهــــار البــــلاد وتحقيــــق اكتفـــاءها الذاتي في القطاعات الاستراتيجية  ولا تتوفر مئات المدارس على مخابر مجهّزة للتّجارب العلمية، كما لا يلقى ضعاف الحال من التلاميذ دعما مادّيا حقيقيّا يرفع من حظوظ نجاحهم ويقلّص من إمكانات التفاوت المجحف في أداء أبناء مختلف طبقات الشعب، وهذا على عكس المثال الفنلندي الذي يسخر ستة بالمائة من الدخل الوطني الخام للنهوض بقطاع التربية والتعليم والذي يدفع أجورا مرتفعة ومحترمة جدّا للمعلمين ومكانتهم الاجتماعية محطّ الأنظار والإعجاب، حيث يعتبر المعلـــم فــــي فنلنــــدا بطلا قوميا بما أنه يسهم في جعل بلاده في مقدمة الدول والأمم كافة على الصعيد التربوي. 
(2) خطوات الإصلاح التربوي الشامل المنتظر
1- تغيير وإصلاح الفلسفة التربوية بحيث تتجسد فيها معاني الحداثة الأصيلة من ناحية ومقومات التعليم الفعال من ناحية ثانية، وبحيث تتوج بمنظومة غايات وقيم تعبر عن هذا الاختيار الجامع بين العمق الحضاري والثقافي من جهة والرهان العملي والفعالية من جهة أخرى بكيفية تتسع لقيم الثورة الجديدة كالحريّة والمواطنة والعمل والمسؤولية والالتزام والإبداع.
2- تعزيز مكانة المربين المعنوية والمادية، لتوفير الشروط الاجتماعية والنفس-اجتماعية والبيداغوجية الضرورية لإقبالهم بكل رغبة وحماس على أداء رسالتهم التربوية.
3- تصحيح العلاقة التربوية  بمختلف أصنافها: معلّم-متعلّم/ مدير- معلّمين أو أساتذة/ مدير- أعوان إداريّون وقيّمون/ قيّمون- أساتذة- قيّمون-متعلّمون/ متفقد- مدرّسون/ المتعلّمون فيما بينهم، المؤسّسة التربويّة وأولياء التّلاميذ.
4- إضفاء روح الحياة الحقّة على الحياة المدرسية: الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية بأنواعها- الفضاء الدراسي وكيفية استغلاله.
5- مراجعة مقاربة الكفايات واتجاهات المدرسين نحوها. ومراجعة النظام الإشهادي المعروف بمنظومة إمد.
6- تجديد الطرق البيداغوجية والأساليب التعليمية وتطويرها باعتماد منهج التجريب.
7- مراجعة البرامج والمحتويات الدراسية في كافة المجالات التربوية والاختصاصات التعليمية.
8- إعادة النظر في الزّمن المدرسي المعتمد حاليّا.
9- صياغة مقاربة جديدة للتوجيه المدرسي فيها احترام لميولات المتعلّمين ورغباتهم من جهة وتلبية لاحتياجات البلاد التنمويّة الشاملـــة من جهـــــــة ثانية، على ألا يختزل المنوال التنموي في التوجه الاقتصادوي الذي يهمل بناء الإنسان المتكامل والمجتمع المستقر.
10- تقويم منظومة التقييم والتقويم الحاليّة.
11- تطوير منظومة التكوين الأساسي للمدرسين وللإطارات التربوية(فتح كليات أو معاهد عليا للتربية)
12- مراجعة أدوار وأنماط القيادة التربوية بأصنافها وإيجاد منظومة تكوين مناسبة تتماشى مع قيم الثورة مثل القيادة الديمقراطية وإشراك مختلف الفاعلين التربويين في معالجة المشاكل التربوية وفي تمشيات اتخاذ القرار بحسب ما تخوله لهم اختصاصاتهم ودرجة تكوينهم وخبرتهم.
13- إعادة بناء الهيكلة الإداريّة بحيث تضمن تبادلية عالية بين مختلف شركاء العملية التربوية وتؤمّن انسيابية المعلومة ودَمَقْرَطَة تمشّي اتخاذ القرار.
14- الاهتمام الجدّي بمعالجة مشاكل البنية التحتية للمدارس والمعاهد وتجهيزاتها .
15- تطوير منظومة التكوين المستمر للمربّين والرّفع من مستوى حرفيتهم ومهنيتهم.
16- تطوير منظومة البحث العلمي والتجديد التربوي وتأهيلها للاستجابة الوظيفية الفعلية لاحتياجات المدرسة التونسية.
17- وأخيرا المتابعة والمراجعة و تقييم النظام التربوي دوريّا وإصلاحه وتجديده المستمرّين.
كل هذه الملفات الملحة تستوجب وجود شرطين لحسن معالجتها: شرط روحي وآخر مادي.
الشرط الروحي: يتمثل في ضرورة توفر روح الوطنية العالية والالتزام لدى كل الأطراف المتدخلة في عملية البناء التربوي الجديد.
أما الشرط المادي، فيتمثل في تخصيص ميزانية محترمة يمكن أن تنهض بأعباء إصلاحات كبرى وجذرية في شتى جوانب المنظومة التربويّة.
(3) الملفات العاجلة المطروحة على وزارة التربية
يتوقع أن تشهد وزارة التربية عما قريب نسقا جديدا من العمل يجعلها في مواجهة عدد من القضايا والإشكالات الحيوية العالقة. وإسهاما منا في تنوير مـــن سيعهد إليه بمهمة قيادة هذا العمل، وفي إخلاص النصح له، لصالح ازدهار هذا القطاع الاجتماعي الاستراتيجي، ومن موقعي مختصا وخبيرا في التربية، أسجل النقاط التالية التي أعتبرها بمثابة خارطة طريق تمهّد للبديل التربوي الثوري الذي تنتظره البلاد منذ عقود طويلة : 
1- البدء أولا بتطهير الوزارة من الفساد، ليكون العمل على أساس متين وخلفية نظيفة، مع المحافظة على كل المسؤولين الذين لم تثبت ضدّهم قضايا فساد أو لم تثبت عدم كفاءتهم وتكوين فريق عمل كفء من جدد وقدامى للقيام بالإصلاحات المتأكّدة.
2- سدّ الشغورات الحاصلة إلى حد الآن بالمدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية بتطبيق خطة تراعى فيها الجوانب البيداغوجية.
3- إصلاح البنية التحتية للمدارس وتجهيز المحرومة منها بالماء الصالح للشراب ولري الحدائق، وبالتيار الكهربائي والحواسيب والمعدّات المخبرية والخرائط وتخصيص قاعات محترمة للمعلمين والأساتذة ومشارب، وحمايـــة المــــدارس بالأسيجـــة والشبابيك مع مراعاة الجانب الجمالي.
4-   رد الاعتبار للمربي معنويّا وبيداغوجيّا وماديّا وصياغة الميثاق التربوي الذي ينظّم أدبيّا العلاقة بين مختلف الفاعلين التربويين.
5- مراجعة المنظومة التربوية التأديبية باتجاه مزيد تكريس بعدها الإرشادي المسهم في تنقية المناخ التربوي وفي تكريس علاقات تربوية صحية بين المربي ومنظوريه من المتربّين.
6- مراجعة البرامج والمقررات المدرسيّة لتكون متّسقة مع قيم الثورة وتوجهاتها (الحرية- الكرامة- المواطنة- الحداثة الأصيلة- العمل- الإبداع- التواصل).
7- تكوين لجنة وطنية من الجامعيين والخبراء التربويين لإعداد ملف متكامل لبعث كلية لعلوم التربية ومعاهد عليا للتربية في شمال البلاد ووسطها وجنوبها. ويمكن البدء ببعث أقسام لعلوم التربية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية وبالمعاهد العليا للإنسانيات التطبيقية وإعادة فتح اختصاص علوم التربية بالمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو مع مرحلة ثالثة لتأمين احتياجات الكلية والمعاهد التربوية من الموارد البشرية العلمية.
8- الشروع في تقييم مقاربة الكفايات المعتمدة حاليا تقييما علميا وليس بمجرد اعتماد ردود الأفعال الذاتية أو التقييمات الانطباعية، للبحث عن الأسباب الحقيقية لقصورها عن الإسهام في تجويد مخرجات المدرسة التونسية في اللغات والعلوم والاجتماعيات.
9- فتح ملف اللغات (العربية والأجنبية) الذي يشتمل على واحدة من أصعب وأعقد الإشكاليات التربوية في مدرستنا اليوم.
10- فتح ملف التقييم على ضوء تجارب وطنية وعالمية.
11- مراجعة منظومة التوجيه المدرسي بما يضمـــن الاتســاق مع الحاجيات الفعلية لسوق الشغل.
12- الإذن بفتح استشارة تربويّة وطنية وفق خطّة مدروسة بعيدا عن أجواء الشّحن الإيديولوجي والتوظيف السّياسي الحزبي وعن الشكليّات الشعبوية، مع إيلاء التقييم العلمي والوفاق الوطني والشراكة مركز الصدارة في هذه الاستشارة، وذلك باعتبار المدرسة التونسية مدرسة لكل التونسيين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية ضمن الثوابت الوطنية المجمع عليها وضمن إثباتات الدراسات العلمية المنهجية الموضوعية.
هذه إذن المحطات الرئيسية التي نقترح التوقف عندها بجدّية وبصفة عاجلة ولكن رصينة وثابتة في خارطة طريق الإصلاح التربوي الممهد للثورة التربويــــة التــــي نأمل القيام بها في تونس ما بعد الثورة.
(4) إصلاح التقييم التربوي نموذجا
القضايا المطروحة على برنامج الإصلاح التربوي الذي ننشده عديدة ومتشعبة كما رأينا، وسنتناول منها في هذا العنصر قضية التقويم على سبيل لفت الانتباه والتحسيس لا على سبيل التفصيل والحسم. بداية نحن نتعمد استعمال مصطلـــح التقويـــم، لا التقييم، لا لمجرد الانتصار لقاعدة لغوية، بل لأن التقويم أشمل من التقييم ولذلك فهو المقاربة التي أقترحها في مجال "التقييم" التربوي. فالتقويم يتضمن التقييم ثم تقويم الاعوجاج أو الانحراف الذي قد يلحظ في أداء المتعلّم. إنه ما يعرف في الأدبيات التربوية المعاصرة بالتقييم التكويني. وهو بطبيعة الحال غير غائب بالكامل عن ذهن المدرّسين أو مكوّنيهم، ولكنّه لا يطرح في الوضعيــــة التربويــــة إلا كنوع من التقييم يسبق النوع الآخر منه المعروف بالتقييم الجزائي، الذي تسند فيه أعداد ورتب للممتحنين. وقد تبين بحكم التجربة التي يعاينها الجميع أن هذه المقاربة التقييمية المطبقــــة في بلادنا تشكو من عاهات مزمنة تتسبب، وإن جزئيا، في الهدر المدرسي الذي نلاحظه، وفي تدنّي مستويات التكوين اللغوي والمعرفي والمهاري لدى أبنائنا التلاميذ، وهو ما يتطور إلى عائق يظل يلازمهم إلى حين تخرجهم من الجامعة، لمن كان له حظ التخرج منها.
غير أن ما هو معمول به في نظم تربوية أخرى حائزة على مراتب الصدارة في التقييمات العالمية للنظم التربوية من خلال اختبارات اللغة والرياضيات والعلوم، مثل فنلندا الحائزة لمرات عديدة على المرتبة الأولى عالميا في اختبارت بيـــــــــــزا (PISA) أن لا تطبق طوال المرحلة الأساسية من التعليم (السنوات التسع الأولى) التقييم الجزائي. بل تكتفي بتطبيق التقييم التكويني، بمعنى أنه لا سبيل لرسوب أي واحد من التلاميذ طوال تلك المرحلة، ومع ذلك لا تحصل لديهم أبدا مفاجآت غير سارة في نهاية السنوات التسع الأولى من تعليم الناشئين، وذلك لسبـــــب بسيــــط ولكنــــه على غاية من الأهمية، وهو المتمثل في أنه لا يسمح أبدا لأي تلميذ في أي مستوى دراسي كان، أن ينزل مستوى تكوينه في مختلف المواد عن مستوى أدنى مطلوب من التميز والتملك الحقيقي لمختلف الكفايات المبرمجة له. فكيف يفلح الفنلنديون في تحقيق ذلك؟ إنهم أولا يرصدون أموالا ضخمــــة للتعليــــم، يصل حجمها إلى نسبة ستة بالمائة مـــــن الداخــــل القومــــي الخـــام، ولا أقول من الميزانية. وبالتالي فالمتعلّمون ينشطون ويتحرّكون في مناخ مريح من الرفاه البيداغوجي، حيث تؤمّن الوجبات الغذائية المتوازنة للجميع مجانا، ولا يضيّع التلاميذ الوقت في التّنقّل ظهرا بين المنزل والمدرسة ولا يخسرون طاقة بسبب ذلك. ويتمتّعون باستخدام أحدث التكنولوجيات الرقمية فـــــــي التعلّــــم التفاعلـــي، وما إلى ذلك من الظروف المادية البيداغوجية المتميزة، في المخابر التجريبية والمكتبات الورقيــــة والرقميــــة، والملاعب ...الخ. زد على ذلك أنه كلما كشف التقييم التكوينـــــي عـــن نقــــص واضح في التملّك المعرفي لدى أحد التلاميـــذ إلا ومكّن من تعليم إفرادي، يؤمّنه له أحد تلامذة المستويات العليا، مع متابعة من معلم المجال، في فضاء خاص، لإلحاقه بمستوى بقية زملائه. وفي المدرسة الفنلندية تطبيق صارم لمبدإ العدالة المعرفية، بالرغم من التنوع الاثني النسبي الموجود بها. كما لا ننسى أخيرا أن ننوّه بمستوى الدخل الشهري الذي يتمتع به المعلم في المدارس الفنلندية. حيث إنه يتلقى تكوينا أساسيا جيدا ويحظى بمنزلة مرموقة في المجتمع، حيث ينظر إليه كبطل قومي، بما أنه يحقق بمعية تلاميذه أفضل النتائج عالميا، ولكنّـــه إذا لم يظهر تفان كاف في العمل، مع أنه غير ملزم بتطبيق مقاربة بيداغوجية بعينها، فإنه يستغنى عن خدماته، حيث تتقدم هناك قيمة النجاعة والفاعلية على أي قيمة أخرى اجتماعويّة.
 وإذا أردنا تلخيص المبادئ التي يجب أن يقـــوم عليها التقويم في بلادنا، فإننا نقول: إن مسألة التقويم التربوي ليست في معزل عن الاختيارات العامة لسياسة التعليم، بما في ذلك، وخاصة، الجانب الاقتصادي، المتمثل في حجم الاستثمار المالي في هذا القطاع الحيوي الاستراتيجي. كما أنها قبل ذلك في ارتباط كامل بتصورنا للفرد وللإنسان وبميـــــلاد هــــذا الفرد وهــــذا الإنسان في مجتمعاتنا العربية. ولعل الثورة التونسية المباركة قد وفرت شرطا تاريخيا مهما في السماح بظهور هذه القيمة الحداثية الأساسية والضرورية لأيّ تميّز، غير سياسة قيادة جموع قطعان البشر. ومن قيمة الفرد تأتي المقاربات البيداغوجية المعاصرة والفعالة، في ظل توفر الشروط المادية الضرورية لنجاحها، مثل التعليم الإفرادي والبيداغوجيا الفارقية وما يعرف ببيداغوجيا التمايز، إلى جانب التمييز البيداغوجي الإيجابي، وبيداغوجيا التحكم، والتطبيق الوظيفـــي الأمثل للتكنولوجيات الرقمية الحديثة في التعلم والتعليم، وغيرها من المقاربات التربوية الواعدة، والتي سنخصص لها مقالا آخر بإذن الله.
 هذه إذن مجرد إطلالة سريعــــة على قضية الإصلاح التربوي في تونس ما بعد الثورة بصفة عامة وعلى قضية التقييم بصفة خاصة، وقد سبق أن اقترحنا آليات عملية لمزيد تعميق مجمل هذه القضايا وتفعيل ما ستجمع المجموعة الوطنية عليه منها، من مثل المجلس الوطني الأعلى المستقل للتربية الذي هو الآن في طريقه إلى الدسترة والتأسيس، وننتظر كذلك أن تقع تلبية دعوتنا إلى بعث كلية علوم تربية تسهر على تخريج الكفاءات الوطنية اللازمة لتأمين إصلاح تربوي شامل وعميق ومستمر ومتجدد وتخريج من يسهر على وضعه موضع التنفيذ، وإنه لنضال وكفاح مستمر وإنا لخائضوه من دون هوادة بإذن الله، وعلى الله قصد السبيل !