بهدوء

بقلم
محمد القوماني
اقتحام السفارة الأمريكية بتونس.. المنعرج

 تدلّ مؤشرات عديدة على أن المنعرج الذي أخذته الوقفة الاحتجاجية في محيط السفارة الأمريكية بتونـــس يوم الجمعــة 14 سبتمبر 2012 قد يشكّل منعرجا في المشهد الوطني التونسي برمّته. فمع مرور الأيام تتكشّف الحقائق وتتفاعل المواقف لتُبين عن حجم الأضرار المادية والسياسية البالغة لتلك الأحداث التي صدمت عموم التونسيين في الداخل وهزّت صورة تونس في الخارج.

 
المُنعرج
 
خرج التونسيّون والتونسيّات من أعمار وجهات وتيارات فكريّة وأحزاب سياسيّة مختلفة، بعد صلاة الجمعة 14 سبتمبر 2012 لتنظيم وقفة احتجاجية سلميّة، في محيط السفارة الأمريكيّة، تنديدا بالفيلم المسيء للرسول الكريم محمد عليه السلام ولمشاعر المسلمين كافّة، على غرار ما حصل في عواصم عربية وإسلامية أخرى. 
 
بدا الأمر في منطلقه مشروعا ومفهوما لما تضمّنه  الشّريط الذي روّجته أوساط مشبوهة، من إهانة لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولما تضمنه من مغالطات وتشويه للوقائع واستفزاز لمشاعر ملايين المسلمين وتوظيف المقدسات في لعبة قذرة تهدف إلى تعميق الصراعات وتأجيج مشاعر العنصرية  والكراهية بين الشعوب والأمم وأتباع الديانات، وخدمة الأجندة الصهيونية. وهو عمل تكرّر خلال الفترة الأخيرة ويحتاج إلى وقفة حازمة. 
كما بدت الدعوة إلى التظاهر أمام السفارة الأمريكية، لحظة عزّ وكرامة وتكريسا  لحقوق نعدّها  من مكاسب ثورتنا المجيدة، فطالما ظلّ الاقتراب من تلك السفارة محظورا في أوقات عصيبة كانت فيها حمم القنابل تحصد أرواح العرب والمسلمين في اعتداءات ظالمة تحتاج إلى التنديد والاستنكار ربما أكثر من موضوع الحال. لكن المنعرج حصل حين خرجت التظاهرة عن إطارها المشروع لتتحوّل إلى  أعمال عنف وتخريب وتتسبّب  في سقوط عدد كبير من الضحايا بين قتلى وجرحى، في صفوف قوات الأمن والمحتجين، والإضرار بالممتلكات والمعدّات. وتنتهي في المحصّلة إلى اعتداء على حرمة سفارة دولة تفرض المواثيق الدولية حمايتها وأمنها. ممّا أفرغ الوقفة الاحتجاجية من كل معانيها السياسية ودلالاتها الثقافية وقلب نتائجها بما يخدم أهداف الأعداء المتربصين بثورتنا في الداخل والخارج.
 
تداعيات
 
 لطالما اتهمت أطراف عديدة الحكومة وحركة النهضة خصوصـــــا، بالتواطـــؤ مع "الجماعات السلفيـــة" والسكـــوت عن التجاوزات التي ترتكبها وعدم تطبيق القانون كلما تعلق الأمر بتحركات تقف وراءها. واعتبـــــر هـــؤلاء أن النهضــــة تعمــــل على الاستفادة من السلفيين في معاركها مع خصومها السياسيين وتدّخرهم سندا لها في الانتخابات المقبلة، لكن أحداث السفارة الأمريكية على ما يبدو دفعت الأمور إلى اتجاه مخالف، وجرت الرياح بما لا يشتهي السَّفِنُ.
 
فما حصل يوم الجمعة من اقتحام للسفارة الأمريكية وسقوط ضحايا من قتلى وجرحى في صفوف قوات الأمن والمحتجّين والصورة التي ظهرت عليها تونس في نظر التونسيين والمتابعين مثّل أكبر ضربة سياسية للحكم الحالي ولحركة النهضة وأكبر إحراج لها، وكان هذا الإحراج بعنوان ديني وكان السلفيّون الطرف الأساسي فيه.
 
فقد ظهرت الحكومة من خلال وزارة الداخلية، في الأحداث الأخيرة أنها عاجزة عن حماية سفارة دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية في ظرف سياسي مشحون كان فيه من المرتقب حدوث مثل هذه التطورات، ممّا بعث رسالة سياسية سلبيّة جدّا، وكوّن مخاوف حقيقية. فالصورة التي ظهرت عليها قوات الأمن طرحت أسئلة محيرة حول أداء الجهاز الأمني وقدرته على مواجهة المخاطر وهزت صورة الحكومة وخاصة الأمن لدى التونسيين كما هزت صورة تونس لدى المتابعين من إعلاميين ودبلوماسيين ومراقبين في الخارج، وهذا فيه حرج كبير للحكم الحالي.
 
 كما أن تورّط قوات الأمن في قتل محتجّين وسقوط عدد كبير من الجرحى في مواجهة بين تونسيين، يُعتبر أيضا أمرا محرجا للحكومة الحالية وحركة النهضة، لأن القتل كما هو معلم يطرح موضوع "الدم والثأر"، وستتحـدث بعض أطــــراف المواجهـــة عن شهداء، وستصبح هناك أحقاد واتهامات متبادلة. ولا يخفى  الحرج السياسي الكبير للحكومة والتداعيات السلبية لهذه الأمور.
 
     ومن جهة أخرى فإن حصيلة هذه الأحداث سيجعـــل العلاقـــة بين حركة النهضة والمتشددين الإسلاميين الآخرين تأخذ منعرجا، ليس فقط بسبب "الدم والثأر"، وإنما أيضا لتأثير هذه الأحـــداث على الأجندات القادمة. فالحكومة وحركة النهضة تحديدا ستجد نفسها أمام حتمية مواجهة هذا المنسوب المتنامي للتطرف الذي أكّدت وقائع عديدة  أنه خطر حقيقي، خاصة أن أحداث السفارة جاءت بعد سلسلة من الأعمال المنسوبة لهذه الجماعات ضد سياسيين ومثقفين وإعلاميين ومواطنين عاديين، وهذه المواجهة ستكون مُكلفة على الحكومة وعلى المجتمع من حيث تأثيراتهـــا على مسار الانتقال الديمقراطي، فضلا عن أنّ هــــذه المواجهــــــــة قد يُنظر إليها على أنها خدمة للمشروع الأمريكي. وبالتالي ستكون النهضة متهمة من الأطراف المتشددة، ومن أطراف أخرى،  بأنها تخدم أجندا أمريكية في مقاومة الإرهاب وتجرّ تونس إلى المربعات الساخنة.
      وفي المقابل إذا لم تواجه الحكومة هذه الظاهرة بصرامة، ستظهر بمظهر المتواطئ أو العاجز وهذا سيحرجها أمام الرأي العام الداخلي وأمام الولايات المتحدة التي لن تواصل دعمها لطرف سياسي حاكم، لا يبدو صارما في مواجهة التشدّد والإرهاب. فرغم التصريحات من الجانبين التونسي والأمريكي بأن ما حصل لن يؤثر على العلاقات، فإن الأمور لن تكون بهذه البساطة. إذ علاقة النهضة بالولايات المتحدة التي تحسنت قبل الثورة وبعد صعودها إلى الحكم، ستفرض على النهضة وعلى الحكومة اتخاذ إجــــراءات مغايـــــرة بعد اقتحام السفارة، ستكون لها تداعياتها السياسية على الساحة الداخلية.
 
        ولا أحسب أن التداعيات تقف عند هذه الحدود من علاقة الحكومة والنهضة بالمتشدّدين الدينيين، بل تمتد إلى مواضيع أخرى لا تقل تعقيدا. فالمؤشرات واضحة في أحداث السفارة والمدرسة الأمريكيتين، على وجود بصمات القوى المضادة للثورة والمتآمرين عليها وبصمات الإجرام، دون استبعاد المشاكل والصراعات داخل المؤسّسة الأمنية نفسها، وهذا ما يتكرّر في كل مرة يقع فيها انفلات وفوضى. ممّا يؤكد أن المواجهة مع بعض أطــــراف النظام القديــــم لا تزال قائمة، وأن مسار المحاسبة والتسوية السياسيـــة التي لم تحصل إلى الآن بين المستفيدين من الثورة والخاسرين، ستظل تلقي بظلالها على المشهد الوطني في مختلف محطاته وملفاته.
 
هذه التداعيات المختلفة وغيرهــــــا ستجــــد صداهــــــا بلا شك في المجلس الوطني التأسيسي وفي علاقة الائتلاف الحاكم بمن هم خارج الحكم، بل ربما داخل الائتلاف نفســـــه، وستكــــون مؤثــــرة في التحالفات والتباينات خلال المرحلة القادمة. وستظل مادة إعلامية لفترة غير قصيرة.
 
تلاعب ومخاطر
 
لا خلاف على أن منسوب التشدّد الديني الآخذ في الارتفاع، وخصوصا أشكال التعبير العنيف عن المواقف والآراء ومعاملة المخالفين، يجعل من هذا الموضوع أحد التهديدات الوطنية التي تتطلب تضافر الجهود لفرض التقيّد بالقانون والمعالجة متعددة الأوجه لهذه الظواهر الخطيرة.  لكن أسئلة محيّرة تظل ترافق التطرّق الرصين لهذا الموضوع المعقّد أصلا.
فهل من الحكمة والصـــواب أن نطلــــق تسمية "السلفيــة" على ظاهرة التشدّد الديني، وهي تسمية ايجابية الوقع في نفوس أغلب التونسيين الذين يرون في السلف الصالح مثالا ايجابيا، فيقع التلبيس في هذا الوصف؟ كما أن هذه التسمية تضم جمهورا عريضا ممّن يتبنى التسمية أو يدخل تحتها في تصنيف منهجه في التفكير الديني خاصة والتفكير عموما، والحال أن التشدّد ظاهرة أقليّة مهما ارتفع منسوبها وأن مواجهتها تفرض تحديد المعنيين بدقة وفصلهم عن الآخرين. والخشية كل الخشية أن تكون فزّاعة السلفية عنوانا للتظليل والتلاعب. فلا نعرف حجم المنتسبين لهذا التيار العنيف المستهدف بالمواجهة. وهل هو تنظيم واحد أم تنظيمات متعدّدة؟ ومن يقف وراء هذه التنظيمات في الداخل والخــــارج؟ ولمصلحة من تُجرّ البلاد إلى العنف والمواجهــــات العسكريـــة لا قدّر الله؟ ومن يدفع بهذا الاتجاه؟ وما هي التكلفة على المجتمع وعلى مسار الانتقال الديمقراطي وباقي أهداف الثورة لمواجهة مُستعجلة أو غير محسوبة جيّدا أو تفتقد إلى السند السياسي الكافي في ظل المناكفات الحزبية والحسابات السياسية المتضاربة والتي لا تستحضر المصلحة الوطنية في المقام الأول أو تحُول أجواء التوتر والمشاحنات دون إدراكها أو حسن تقديرها؟ وهل استخلصنا الدروس من تجارب الماضي في بلادنا وفي تجــــارب بلدان أخرى عن تداعيات المواجهة الأمنية على مطلب الديمقراطية؟
 
ويظل السؤال المسكوت عنه في الحديث عن تنامي التشدّد الديني وهو المتعلّق بأسباب هذا التنامي، خاصة بعد ثورة حرّرت الناس وأطلقت حرية التعبير والتنظّم خاصة؟ ولماذا يُقبل الشباب أساسا، على التيارات المتشدّدة في حين يعزف عن الأنشطة العامة الأخرى وعن الانضمام إلى الأحزاب السياسية ذات التوجهات الحداثيّة خاصّة؟
 
إذا كان التشدّد الديني والعنف خطرا على البلاد والعباد، يستوجب بلا تردّد معالجة صارمة وعاجلة، فإن ضياع بوصلة الثورة والتعثّر في استكمال تحقيق أهدافها والاحتكام إلى منطق الغلبة والاستمرار في المكابرة والمناكفة اللذان يفتحان الطريق أمام التغطية السياسية عن الجريمة بأنواعها ويضيّعان مصالح المواطنين الحقيقية، عوامل تظلّ أكثر خطورة. وإن التحلّي باليقظة التي تحفظ مكاسب الثورة وتحمي الحقوق كاملة ، والبحث عن توافق وطني شفاف ومتين يقوّي الجبهة الداخلية في هذه المرحلة الانتقالية الحسّاسة، يظلان طريقنا الذي لا طريق غيره لحماية مجتمعنا من  مخاطر الوقوع في شراك المؤامرات الخارجية والداخلية التي تخدم أجندات معادية لشعبنا ولثورته المجيدة.