رسالة المغرب

بقلم
بن هشّوم الغالي
جسور التواصل الأدبي بين المشرق والمغرب

 بين المشرق المغرب وتنوعت أدوات الاتصال والتوصيل نذكر من  بينها الرحلات المتبادلة، واقتناء المؤلفات الأدبية والفلسفية والفقهية، وكذا الدواوين الشعرية لفحول الشعراء المشارقة، وتدارسها في حلقات الدرس، وتداولها في المجالس العلمية والسلطانية، وشأن ذلك أن يؤثر في الفرد والجماعة المتلقية تأثيرا واضحـــا يمكـــن أن نسجل بعض معالمه في طريقة التعامل مع الوافد إذ أن الهيام بأدب الجاحظ وابن قتيبة ومقامات الحريري وأشعار الشعراء الجاهليين وأشعار أبي نواس (ت198هـ)، وأبي تمام (ت228هـ) والبحتري، وأبي الطيب المتنبي (ت354هـ)، والمعري (ت449هـ) والشريف الرضي (ت406هـ) ومهيار (ت428هـ) وابن الخطيب وغيرهم كثير، دليل على تفاعل الأدباء المغاربة مع كل إنتاج مشرقي، الأمر الذي يفسر الإطار العام الذي حكم ذوق الشاعر المغربي، وفي هذا التفاعل استمرار لقاطرة التواصل الثقافي والأدبي بين القطرين، ومن هنا أفتح قوسا للتساؤل عن ما هي الجسور التي تحقق بفضلها هذا التواصل؟ 

 
والجواب عن هذا السؤال سيشكل مدخلا للحديث عن عوامل التواصل ومظاهــــره بين الثقافتيـــن المغربية والمشرقية، ومنها ستتضح طريقة هجرة النص المشرقي في اتجاه المغرب.
 
I– عوامل التواصل:
 
إن الحديث عن العلاقــة بيـــن المشـــرق والمغــرب يقتضـــي البحث عن عوامل التواصل الثقافي المغربــي المشرقـــي ومن ثمة البحث عن المؤثرات الثقافية الحضارية المشرقية ومدى تفاعل الثقافة المحلية مع هذه المؤثرات، إذ أن تفاعل هذه الثقافة مع ثقافة المشرق كان مطلبا ضروريا وأمرا طبيعيا، وذلك يعود إلى "عوامـل البيئة المغربية التي كانت تنطبع بالطابع الـعربي وإلى الذوقين المتقاربين"(1) ، ثم إلى الروابط المتينة التي وجدت بين منبع الإسلام والمغرب، 
ومن نافلة القول، ونحن نروم البحث عن عوامل التواصل، الوقوف عند أهمها:
 
1– الرحلات المتبادلة :
 
 لعبت زيارة المغاربة للديار المقدسة لأداء مناسك الحج دورا كبيرا في تعميق معارفهم العلمية والأدبية ومن ثمة تحصيل ثقافة المشرق من خلال الالتقاء بالأدباء والعلماء بدءا بالمراكز العلمية التي يمرون بها، حيث يكون الإقبال عليها وعلى علمائها، مما يشكل فرصة لتبادل المعارف، والنقاش بخصوص القضايا الفقهية والعلمية، وغالبا ما تنتهي هذه اللقاءات بحصول العالم المغربي على إجازة العالم المشرقي أو العكس. وفي هذا الإطار يقول الحسن الشاهدي: ”فالرحالة يتجه صوب الحجاز عن طريق طرابلس ومصـر للحج والزيارة، وقد يستفيد من العلماء الذين، تجعلهم الصدفة في طريقه والأخذ عنهم، وربط السند العلمي بهم، وتكميل الثقافة على أيديهم، والسـعي لنيل أكثر ما يمكن من إجازاتهم ومؤلفاتهم، والاطلاع على ذخائر خزائنهم وغرائب معلوماتهم ومحفوظاتهم عن أشياخهم“ (2) 
 
تكثفت الرحلة المغربية نحو المشرق، إلى درجة أن أحمد المقري خـــصّ الجــزء الثاني من مؤلفــه "نفح الطيب" للتعريف ببعض من رحل من الأندلسيين والمغاربة إلى بلاد المشرق، كما خصص الباب السادس من الجزء الثالث لذكر الوافدين على الغرب الإسلامي من المشرق. ثم إن المستشرق " كودار" يذكر أن ثلاثة آلاف مغربي، يسافرون كل سنة للخارج، منهم أربعمائة إلى أوروبا، والباقي إلى المشرق. ويهمنا من ذكر خبر هذه الرحـــلات التنبيــه إلى ذلك العدد الهائل الذي شـــدّ الرّحال للمشـــرق ذهابـــا وإيابــا، وكذا التنبيه إلى أن الرحلة المغربيـة كانت مــن الجســـور التي مرت في شكلياتها ومضامينها، وإنها استمرت إلى أن خلقت جسورا أخرى(3). ومن أشهر الذين شدوا الرحال إلى المشرق عبر العصور نذكر منهم على وجه الخصوص لا الحصر: أبوعمران الفاسي والأمير يحيى بن إبراهيم الكندالي وأبو بكر بن العربي وابن رشيد السبتي(ت721هـ)، ومحمد العبدري الحيحي وابن بطوطة الطنجي(ت777هـ)، ثم أبو سالم العياشي(ت1091هـ) الذي كانت رحلته صلة وصل بين المغرب والمشرق، إذ ساهم في تبادل التأثير والتأثر مع العلماء والأدباء المشارقة، من خلال حضوره المجالس العلمية ومناظرته وتعاطيه للتدريس والإقراء. وكثيرة هي الشخصيات التي رحلت إلى المشرق، وما ذكرناه سوى غيض من فيض، وفي المقابل عرف المغرب رحلة معكوسة، ففي الوقت الذي كان المشرق يفتح بوابته في وجه المغاربة كان المغرب بدوره يفتح ذراعيه ويبسط كفيه للعلماء والأدباء الوافدين عليه من المشرق.، حيث كان يستقبل الوفود القادمة عليه، للدراسة والأخذ عن العلماء الذين كانت تعج بهم فاس. وهكذا وفد عليه كل من السيدة سارة الحلبية التي كان لها دور في تنشيط الحركة الثقافية بسبتة في القرن الثامن الهجري، فكانت لهـــــا مساجـــلات مع بعض أدباء سبتـــة كمالك بن المرحـل (604-699 هـجـــــري)، وابـــن رشيـــد السبتـــي ( تـــــوفــــــــي سنة 721 هـجري) وغيرهما، ثم محمد بن قاســـــم الخراسانـــي وعبد العزيز السكاتي، ومحمد بن عبد الوهاب الدمشقي الحنبلي واحمد بن علي الحلبـــــي، أستـــــاذ الإفرانـــي وغيرهم. وإذا كان عدد الشخصيات المشرقية التي حلت بالمغرب محدودا، فإن الجسور التي عبر منها المغرب إلى بلاد المشرق، كانت متعددة ومتوالية، فما تزال بلاد آسيا ودول الخليج العربي تذكر الشخصيات المغربية التي قدر لها أن تنتقل عبر تلك البلاد مستفيدة ومفيدة مؤثرة ومتأثرة(4). مما سهل عملية نقل الآداب والعلوم والتراث والحضارة إلى المشرق، وبذلك غـــــدت الرحلـــــة عامــــلا أساسيا في تحقيق التواصل وتثبيت اللحمة الروحية بين مشرق الإسلام ومغربه. 
 
2– المؤلفات المتبادلة :
 
 يعد هذا العامل من أهم العوامل البارزة وأكثرها تأثيرا في الحياة الثقافية، إذ إن حضور المؤلفات المشرقية المختلفة المشارب بالمغرب وحضور المؤلفات المغربية بالمشرق ساهم في تمتين روابط التواصل، وكذا استمرار انتقال المؤثرات الثقافية والحضارية والاجتماعية بين القطرين. يتضح ذلك جليا من خلال المؤلفات التاريخية والأدبية التي ألفها المغاربة بطلب من الأمراء والأعيان المشارقة، من أقدمها عمل المؤرخ والأديب عبد الواحد المراكشي الذي رحل إلى المشرق فألف كتابه المشهور " المعجب في تلخيص أخبار المغرب" بطلب من أحد وزراء الناصر العباسي، حيث عمل على" إملاء أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقـطاره، وشيء من سير مـلوكه "(5)  ليعطي بذلك صورة عما يكتنزه المغرب من طاقات هامة في مجال العلم والفكر والثقافة والتاريخ. فأصبح بذلك وثيقة أساسية لدى الباحثين والدارسين المشارقة. وفي العصر المريني ظهرت مجموعة من المؤلفات/رحلات لكل من العبدري وابن رشيد، وابن بطوطة وغيرهم، رسمت خطوطا عريضة للثقافة المشتركة بين المشرق والمغرب.
 
امتد الإقبال على التأليف وإطلاع المشارقة على ما يزخر به المغرب حتى عصر المقري (986 هـ -1041 هـ) الذي ألف كتابه "نفح الطيب"، في إطار التعريف بالأدب المغربي وكان هذا الكتاب "يحـقـــــق بيان الصلــــة الثقافيــــة فــــي المشرق والمغرب"  فضلا عن كتابه الآخر " فتح المتعال في مدح النعال" الذي حاول صاحبه من خلاله بز المشارقة في فن المديح النبوي. ومن المؤلفات التي ألفت في الموضوع، وطار صيتها إلى المشرق كتاب "المغرب في حلى المغرب" لابـن سعـيد المغربـي(610 ـ 685هـ) و"قلائد العقيان" للفتح بن خاقان (ت529 هـ) و" الذخيرة" لابن بسـام(ت542هـ ) و" المطرب في أشعار أهل المـغرب" لابن دحية الكلبي(ت633هـ) .هذه إذن عينة من المؤلفات المغربية التي اجتازت الحدود وكانت تهدف إلى إطلاع المشارقة على ما يزخر به الغرب الإسلامي من حضارة وثقافة وأدب وفكر. وقد تنافس حولها الأدباء والعلماء المشارقة بالشرح والنقد والتقريظ.
 
أما المؤلفات العلمية والأدبية المشرقية التي كان لها حضور واسع في الساحة الثقافية المغربية فهي كثيرة جـــدا، منها ما كان يـدرس في حلقات الدرس، والبعض الآخر زين دور المكتبات الخاصة والعامة. ومما ساعد على تقاطر هذه المؤلفات وسرعـــة انتشارها في ربوع البلاد اعتناء سلاطين المغرب بجمعها في المكتبات واقتنائها من المشرق؛ فهذا يوسف بن عبد المؤمن ولع بجمع الكتب فأسس مكتبة ظاهت مكتبة الخليفـــة الأمــــوي الحكـــم، وقد احتوت على ستمائة مجلد، وكذلك كان ديدن السلطان أحمد المنصور السعدي، وكذا سلاطين الدولة العلوية، يقول الباحث أحمد العراقي " إن حرص كل من محمد الثالث والمولى سليمان على التزود بالكتب وتزويد مكتبتهما الخاصة والمكتبات العامة قد جعلهما يسعيان لاقتنائها[...] وقد تقدم أن المولى محمد الثالث جلب عددا منها من المشرق"(6) .
فضلا عن المقتنيات التي كان يأتي بها الرحالة المغاربة أثناء عودتهم من المشرق؛ فأبو سالم العياشـــــي - على سبيل المثال - اشترى أثناء عودته أزيد من خمسين مؤلفا. ثم لا ينبغي أن ننسى الدور الفعال، الذي قام به بعض المغاربة في المشرق حيث عمدوا إلى احتراف استنساخ المؤلفات 
 
ومن أشهر المؤلفات المشرقية المتداولـــة فـــــي مجالس الدرس وفي الخزائن المغربية نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ”المقامات الحريريـــة“ و ”حلية المحاضرة  للحاتمــــي“ و”الكامل للمبـــرد“ و”الفصيح لثعلب“ و”مختصر الشيخ خليل“ و”مختصــــر ابـــن الحاجب الفقهـــي“ و”شروح لامية العجم لصلاح الدين الصفدي“ و”البيان والتبيين“ للجاحظ و”حماسة أبي تمام“ و”الكتاب لسيبويه“. وتطول بنا قائمة المؤلفات التي كانت متداولة في الساحة الأدبية والفكرية بالمغرب فضلا عن الدواوين الشعرية لشعراء العصر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي. وكثيرة هي الأخبار التي تدل على رواية المغاربة لأشعار المشارقة وتداولهم لدواوينهم الشعرية وحفظها، يشهد لذلك وجود أصول خطية لبعضها في عدة من خزائن الكتب الخاصة والعامة بالمغرب، وكذلك ما تحفل به فهارس لبعضهم من ذكر أسانيدهم في رواية أشعار الأعلام من شعرائهم. ومن أشهر الأشعار المتداولة، الأشعار الستة الجاهلية، أشعار عبيد بن الأبرص، طفيل الغنوي، علقمة ابن عبدة بن الورد، مهلهل، عمرو بن معد كرب، الطرماح، فضلا عن تداول أشعار الشعراء الجاهليين المشهورين وقد جمعهم محمد بن عبد الله بن عمر المضغري في قوله: 
 
علقمة وامرئ القيس والنابغه عنترة طرفة وزهير وفي
هؤلاء ستة شهروا عندنا  لفصاحة شعرهم المقتفـي(7) 
 
ومن العصرين الأموي والعباسي نجد أشعار عمر بن أبي ربيعة، جميل بن معمر، ذو الرمة، الأخطل، الفرزدق. ومن العصر العباسي يأتي في طليعة الدواوين المقروءة، أشعار أبي نواس، أبي تمام، البحتري، المتنبي(ت354هـ)  الشريف الرضي(ت406هـ)، ومهيار الديلمي(ت428هـ) الخ. 
 
وإلى جانب الدواوين الشعرية نجد مصنفات ومختارات أدبية كالأصمعيات والمفضليات والحماسات، وقد ضمت أشعارا جاهلية، إسلامية، وعباسية. 
 
ويلاحظ مدى اعتناء الشعراء المغاربة بحفظ جل هذه الدواوين وتمثل أشعارها، وانتقاء نصوص مناسبة، مما ساعد على عقد حوار بينها وبين نصوصهم الإبداعية عن طريق التضمين والمعارضة والتخميس والتشطير ...إلخ وكل ذلك ساهم في تشكيل فضاء للذاكرة الشعرية المغربية. 
 
3– تدريس المؤلفات المشرقية وتلقينها:
 
 كانت الغاية التدريسية والتعليمية، من أهم العوامل في انتشار الإنتاج المشرقي، وذلك أن معظم المؤلفات والدواوين الشعرية المشرقية، كانت تمثل جزءا مـــن المقررات التعليمية المفروضة على الطلبة، حفظا وفهما وشرحا.
 
في العصر الموحدي أخذ المغرب بطرق التدريس المشرقية، واعتماده على كتبه ودواوين شعرائه ومؤلفات أدبائه مما خلف أثـرا في ذوق المغـاربة . 
 
وفي العصر المريني وانطلاقا من المقررات الدراسية في مجال اللغة والأدب، يبدو أن أغلب التصانيف والمختارات والدواوين، التي كانت متداولة في حلقات الدرس الأدبي مشرقية، وفي مقدمة تلك التصانيف مقامات الحريري واشتهــــــر بتدريسهـــا جماعـــة منهم ابن حياتي، وله شرح عليهـــــا، وأبــــو المكـــارم منديل ابن آجروم وكان يقرؤها داخل جامع القرويين. 
 
ومن مقروءاتهم في مجالي اللغـــة والأدب "حماســــة أبي تمــام" و ”الجمل“ للجرجاني وكانا معدودين من كتب المبتدئين، ثم ”الكتاب“ وكان أغلب القائمين على تدريسه، من تلاميذ علي الشلوبين، وابن خروف، وأدب الكاتب، وفصيح ثعلب والكامل للمبرد. ويؤكد هذا الاتجاه ما ذهب إليه الباحث محمد المنوني في ورقاته قائلا: ”والنقطة الثانية ظاهرة التأثير المشرقي الثقافي في الفترة التي نعرضها [ أي العصر المريني ] يظهر ذلك في بدء تبدل المناهج التعليمية، بعد ظهور المؤلفات المختصـــرة التـــي بــــدأت تــــــرد على المغرب من المشرق“ (8) . فضلا عن بعض الدواوين والأشعار التي نجد لها صدى في شعر شعراء الفترة: أشعار الجاهليين وأشعار بعض العباسيين أمثال: امرئ القيس وأبي نواس والمتنبي والشريف الرضى .
أما في العصر السعدي فقد ولع العلماء ولوعا خاصا بدراسة بعض كتب اللغة والآداب، شرحوها وعلقوا عليها ودرسوها، مثل صحاح الجوهري، ولامية العرب للشنفري الجاهلي، ولامية العجم للعميد الطغرائي، وديوان المتنبي، كمـــا تـــداولــــوا مؤلفــــات أخرى مثل: الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، حلية المحاضرة في صناعة الشعر للحاتمي، الفصوص للبغدادي، سقط الزند للمعري. 
 
وفي العصر العلوي اشتهر محمد الشاذلي بإقراء  مقامات الحريري كما اشتهر ابن زاكور بتدريس "ديوان الشعراء الستة"، و"ديوان الحماسة" لأبي تمام، و"المقامات الحريرية" وقلائد العقيان".
 
وعلى العموم فالمؤلفات المشرقية كانت نافقة في سوق الأدب المغربي ومرتعا خصبا لدى الدارسين والمتعلمين على السواء، تحظى بالاعتناء في برامج التعليم. وهذه حلقة من حلقات التواصل مع الثقافة المشرقية ووجه من وجوه التعامل معها، ولا شك أن مثل هذا التعامل سينعكس على المتلقي/الشاعر وعلى الإنتاج الأدبي المغربي، وهو ما يفسره التشابه القائم بين النصوص والمؤلفات المشرقية والمغربية. 
 
II– مظاهر التواصل: 
 
المظهر الأول: تشابه المصنفات الشعرية 
 
إن إعجاب المغاربة الشديد بالمشارقة دفعهم إلى اعتماد نفس النهج الذي سلكه بعض الفحول من الشعراء على مستوى طرائق التأليف والإبداع. ولعل المتتبع لحركة التأليف بالمغرب سيلاحظ انجذاب بعض الشعراء المغاربة نحو أعلام العصر العباسي ونخص بالذكر أبا تمام الذي أعجب به الشعراء فراموا طريقته في النظم والتأليف، فكان لأسلوبه في ترتيب الشعر وتبويبه أثر منهجي، احتذاه بعض شعرائنا كأبي العباس الجراوي وعلي مصباح الزرويلي، فالأول تعقب خطى أبي تمام في صنع حماسته الشهيرة "الحماسة المغربية" أو "صفوة الأدب ونخبة كلام العرب" التي ألفها الجراوي للسلطان يعقوب المنصور الموحدي وضمنها جزءا هاما من أشعار العرب قديمهــــا وحديثهــــا فسلك فيهـــا مسلك أبي تمام في حماسته.
 
وفي العصر العلوي، نجد الأديب الشاعر علي مصباح الزرويلــــي هو الآخر يرتب ديوانه بحسب الأنواع، وقسمه إلى أحد عشر بابا يحذو فيه حذو أبي تمام في حماسته وهو ما صرح به في مقدمة ديوانه "كنت أيام اشتغالي بقرض الشعر زمن البطالة والصبا نظمت كثيرا من المقطعات والقصائد في جل أنواع الشعر من نسيب ومدح وهجاء ورثاء ووصف وغير ذلك من الأغراض بحسب الأوقات رتبته على الأنواع حاكيت في ذلك صنيع أبي تمام في ديوان الحماسة "(9).
وعلى أي فالذين تأثروا بأبي تمام من المغاربة في حماسته، كانوا على صواب بحكم ما تكتنزه هذه الاختيارات الشعرية من مادة شعرية متنوعة وغزيرة، أسالت العديد من أقلام النقاد والشراح فكان لها الأثر في تعميم الأسلوب التمامي في التصنيف، كما كان لها الأثر على المستوى التربوي والتعليمي، لكونها كانت من المقررات الابتدائية بالمغرب، تلقفها الطلاب بالحفظ، وتلقفها الشراح والنقاد بالشرح والنقد، ومثل هذه الاختيارات الشعرية سبق وأن نهض بها مؤلفون منذ عصرالرواية، مع الأصمعي في (الأصمعيات) والمفضل الضبي في( الضبيات) وغيرهما. 
 
المظهر الثاني: تأثر الشعراء المغاربة بطرق نظرائهم المشارقة
 
لا شك أن العلاقة المتينة التي كانت تجمع بين المغاربة والمشارقة في إطار التبادل الثقافي عن طريق قنوات التواصل المعروفة كالرحلات المتبادلة، ثم اتباع نفس طــــرق التعليــــم المأخـــوذ بها في المشرق، والاطلاع على المؤلفات والدواوين الشعرية المشرقية، كل ذلك يفسر حرص المغاربة على الإقبال على الثقافة المشرقية، وخصوصا ما تعلق بالجانب الأدبي، فقد كان من الطبيعي أن تصطبغ إنتاجاتهم الأدبية والشعرية علــــــــى وجــــه الخصوص في كثير من جوانبها بسمات مشرقية الشيء الذي أدى إلى توجيه ذوق القراء من الأدباء المغاربة فظهرت مجموعة من الأشعار المغربية على الطريقة المشرقية سواء علــــــى مستــــوى الشكــــل أو المضمون،-على نحو ما سنراه في فصول هذه الدراســـــة - دون أن ننسى طابع الخصوصية الذي ميز هذه الأشعار. 
ففي العصر المرابطي تأثر ابن زنبــــاع بطريقـــــة امــــــرئ القيس في وصف الطبيعة وكان كتاب العصر المرابطي وشعراؤه معجبين بأدب المتنبي والمعري، وكانوا يمتاحون من بئر الأدب المشرقي، يأتي في طليعتهم القاضي عياض.
في العصر الموحدي كان بعض الشعراء المغاربة ينهجون في كثير من شعرهم نهج أسلافهم المشارقة، كابن حبوس والجراوي اللذين كانا متأثرين بأبي الطيب المتنبي،  فالجراوي كان شعره حسن السبك شديد اللهجة، قوي العصب ينقلك إلى أجواء أبي الطيب المتنبي، وإنك لتلمس فيه روح الشاعــــر الكبير وقلبه، وعنفوانه كما تلمس طبقات أبي تمام بشتــــــى زخارفهـــــا، وكذلك كان ديدن ابن خبازة فقد كان على طريقة أبي تمام وهو ما اتضح من خلال إشارة عبد الله كنون "وإني لأشـبهـــــه فــــي هذا المـعنــــى بشيخ الشعراء المجددين في العصر العباسي أبي تمام، ولو كان بيدنا شـعر كثيرله لعملنا مقارنة بينهما، تكـشف اللتام عن وجـه هذا الكتـاب" (10)
 
برز الحضور المشرقي بشكل قوي وملموس، في العصر السعدي، حين سلك شعراء العصر، المذهب البدوي الحضري الذي وضع أسســــه الأولى أبوتمــــام وأصلــــه أبـــــو الطيـــــب المتنبـــــي، وكان شعراء الجنوب المغربي أكثر تمثلا لمعالــــــم هــــذا المذهب الذي برزفي ثنايا القصيدة المادحــــة (الرسميــــة والمولديـــــة) التي رامت النسيب، والرحلة والحماســـة، والبطولـــــة بأنواعهــــا. وما استحضار الشاعر السعدي ومعه الشعراء المغاربة للموروث الشعري، إلا تشبتا بالأصول الفنية للشعر العربي. 
هكذا إذن يتضح أن جل الشعراء المغاربة كانوا متأثرين بنظرائهم المشارقة يأخذون بطريقتهم وينسجــــون علـــى منوالهم، والباعث على ذلك الإعجاب والانبهار بالنموذج حينا، ثم الاقتداء والمجاراة والرغبة في التحدي والتجاوز حينا آخر. 
 
المظهر الثالث: ذكر أعلام الشعراء المشارقة في صلب القصيدة
 
إن تضمين أعلام الشعراء المشارقة في صلب القصيدة أو الجملة من النثر في الأدب المغربي يعبر بشكل أو بآخر عن مستويات التأثير الذي أحدثه هؤلاء الأعلام في متلقيهم ويكشــــف موقفهــــم من شاعرية الفحول، وهو تطور حازه شعراؤنا بفضل نضج تجربتهم الشعرية ونزوعهم نحو التحدي ونزع القداسة عن الآخر، وهي رغبة جارفة تعكسها هذه النماذج الشعرية التي ولدت ردود فعل سلبية أحيانا. 
 
فمن ذلك ما قاله الشريف السبتي مبالغا في الفخر مزريا بفحلي طيء: أبي تمام والبحتري وكذا أبي الطيب المتنبي. 
 
 وإليكهــا حُســانــــــــــةً حسنيّــَة ً
    تُزري بَدائعُها بفحليْ طــــيِّءٍ
وتميتُ ذكرَ ابن الحسينِ وأين مـن
   كان النبيُّ أبـاهُ منْ متنبـىء(11)
 
والنبرة نفسها تتكرر وبكثرة عند علي الزرويلي الذي يعلو بشعره عن كافة الشعراء، بما في ذلك امرئ القيس:
ولو أُنشراَ الظليل لم يكُ مُبصِرَا 
سوايَ على وجهِ البسيطةِ شاعرَا(12)
 
إن القارئ للأدب المغربي، سيلاحظ إيراد جم كبير من أسماء الشعراء الذين وسموا تاريخ الشعر العربــــي بسمــــات خاصــــة، بل وتكرارها في العديد من القصائد حتى عند الشاعــــــر الواحــــد وفي القصيدة الواحدة، كما يلاحظ هيمنة أسماء بعينها كامرئ القيس وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي وهو ما يفسر انجذاب شعرائنا نحو طريقة العرب القدماء، وهو ماانعكس على تجربتهم الشعرية التي نزعت منزعا بدويا حضريا. 
 
المظهر االرابع: استدعاء لأسماء وألقاب الشعراء المشارقة
 
إن إعجاب المغاربة برجالات المشرق ومدنه، جعلهم يولون وجوههم شطره في أكثر شؤونهم حتى أنهم أطلقوا على بعض مدنهم أسماء مدن كانوا يسكنونها في المشرق، فسموا البصرة وحمص، ولم يلبث هذا التقليد أن صار منافسة فكاثروهم في إنشاء القصور والمدارس والمساجد، وفي تقريب الشعراء والعلماء. وأطلقوا على نوابغ شعرائهم ألقاب شعراء المشرق وكناهم [....] كما تلقب خلفاؤهم وملوكهم بألقاب بني العباس فكان عندهم المنصور والمهدي والمامون وما شابه ذلك (13) .
 
يتبين من خلال المعطيات المتعلقة بعوامل التواصل ومظاهره المتعددة، وجود أثر مشرقي في الشعر المغربي وهو أمر طبيعي لأن الأدب ككائن حي يؤثر ويتأثر ولكن هذا الأثر، لا يذهب إلى الحد الذي يفقد فيه الأدب المغربي شخصيته التي تميزت بالبساطة وشيوع الجانب الديني فيه، وإنما كان هذا الأدب في تفاعل مستمر عبر أطواره المختلفة مع سليفه المشرقي صانعا بذلك مجالا إبداعيا متوسلا بمخزونه الثقافي ومستثمرا مرجعيته المعرفية والثقافية المحلية. 
 
لائحة المصادر والمراجع
 
1- الأدب المغربي، محمد بن تاويت ومحمدالصادق عفيفي،  ط2، دار الكتاب اللبناني بيروت، 1969 ص : 65.
2- أدب الرحلة في العصر المريني، الحسن الشاهدي، ط1، منشورات عكاظ، 1990، ص:  31. 
3-  تاريخ المغرب، المصنف عام 1860 م، كودار، ص 242.
 4- المغرب يكشف نفسه في المشرق. د. عبد الهادي التازي، مقال ضمن مجلة دعوة الحق، عدد 10، مارس 1975، ص:  105.
5- المعجب في تلخيص أخبار المغرب. عبد الواحد المراكشي، تح محمد العريان  ومحمد العلمي، دار الكتاب، البيضاء 1978، ص:  12
6- الشعر المغربي على عهد السلطان محمد الثالث وابنه سليمان،  أحمد العراقي. أطروحة مرقونة بفاس،  ج1 ق1 ص 143. 144-147  .
7- المنتقى المقصور،ج 1/292
8- ورقات عن حضارة المرينية، محمد المنوني، منشورات كلية الآداب الرباط.  سـلسـلة ندوات ومناظرات رقم 20، ص246:  
9- ديوان الزرويلي:  دراسة وتح محمدي حسني،ج 2 /91. وقد قسمه إلى أحد عشر بابا : 1-النسيب، 2-المدح، 3- الهجاء، 4-    المراثي، 5  - المخاطبات، 6-الاعتذار، 7- الوصف، 8-الافتخار، 9-الألغاز، 10-الخلاعة والهزل، 11- التهاني .
10- سلسلة مشاهير رجال المغرب، عبد الله كنون، الكتاب السابع، ص:  27 – 28 .
11- رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة، الشريف السبتي، تح وشرح،  محمد الحجوي، ط1، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الرباط،ج 4/1606.
12- ديوانه  ص:  ، 155، 158، 182،198، 208. 
13- الأدب المغربي، ابن تاويت ومحمد عفيفي.ص 411
اكتفينا بذكر بعض العوامل والمظاهر على سبيل التمثيل وإلا فكثيرة هي جسور التواصل  بين القطرين تؤول إلى عوامل اجتماعية وحضارية وسياسية ونفسية وتاريخية