زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
ما أفلحتْ أُمّةٌ لم تجعل ْ من شبابها عمادا لمستقبلها

 لما دخلتُ ككل صبـــاح مقهـــى العـــــادة وجلستُ منفردا في ناحية علــــى اليميـــن بالنسبـــة للدّاخـــل، اقتــــرب منّــي شاب يستجلي، إن كان بالإمكان أن يجلس على مقربة منّي؟

 فقلت: تفضّل سيدي، لا مانع عندي.
 وضع صاحبنا فنجان القهوة على الطاولة.. قعد في تؤدة وأشاح بوجهه عنّي.
 أخذ نفسا متتابعا من سيجارة أشعلها ثم نفث في الجوّ سحابة داكنة، وأعاد الكرّةَ المرّةَ تلو المرّة. 
حرّك مقعده مرات قلقا كالجالس على الجمر، مُلتفتا يمينا ويسارا، ظاهر الأرق كثير الحنق، يُطرق آنا ثمّ يعلو بهامته أحيانا، يتأمّل فنجانه، يأسره خياله، يخطّ على الطاولـــة ببنانـــه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، يتنهّد يكاد لا يلقي الانفاس، يلعن الوسواس الخنّاس وآكلي حقوق الناس، يصمت برهة، يرمقني خلسة، يهمّ بالقول لكنّ فاه يلتمّ، يفرك أصابعه، ثم يأخذ في مصّ سيجارته مصّا، وسرعان ما يُلقي بها أرضا، يدوسها بالقدم دوسا، ثم يميل بالرأس إليّ معتذرا إن كان قد أزعجني، ملتمسا عفوا إن كان قد أحرجـــني، ثم يُضيف في وهن بصوت يملؤه الشجن، يفصّل قوله مُحتنقا، يشرح مأساته مُحتقنا.
 يقول مستاء: تخرّجتُ من الجامعة التونسيـــة منذ أعــــوام هالكـــة، وقد كنتُ فرحا بشهادتي العلميّة.
قصدتُ في الحين مصالح مختصّة، وطرقتُ أبواب ومكاتب عدّة، وفحصت الصحف وما عرضتْ من فرص للتشغيـــل، لكن هيهات، نعم هيهات. 
كاتبتُ مسؤولين سامين عديدين، أنشدُ حقّيَ في العمل كي أحفظ ماء الوجه، وأجتنبَ ذلّ المسألة، لكنّ الكلّ فلّ في عضدي، بل غلّ آلافا أمثالي، وظللتُ في العَطَل على مرّ الأحوال، أشكو الحاجة والفقر والعوز وجميع الأهوال، أقول ما ذنبي في بلدي وما خطئي كي يتنكّرَ لي وطني وأصيرَ إلى الأغوال ؟
 كم سمعتُ وعودا في خطابات ! كم تلقيتُ ورودا في انتخابات ! فأين الأقوال من الأفعال ؟ وأين الورود والأعسال ؟
جاوزتُ العقد الثالث من عمـــري، وصرتُ ثقيـــلا كالجبــــل عبئــــا على العائلة.
 قالت لي أمي المنهكة يوما: إبني ! كبدي ! افعل شيئا، أنجزْ أمرا، أخرجْ للعمل فيدك العليا خير من يدك السفلى.
 وقال أبي الشيخ الهرم يدعمُها بالقول الشائع " عينتك للنصارى ولا قعادك خسارة".  
وأضاف: لا شأن للرجل دون العمل فآسعَ للعمل دون كسل أو ملل.
 زرتُ المصانعَ والشركات في كلّ الأنحاء، وجُبتُ حضائرَ الأشغال في كلّ الأرجاء، وقلّما ظفرتُ بأشقى الأعمال لبعض الأيام صرتُ بعدها إلى الإهمال.
 ضاعتْ آمالي، وتهاوتْ أحلامـي، ومــــا عـــدتُ أقـــوى على البحث بلا معنى، وارتجّ عقلي، وأنهدّ كياني، وصرتُ لا ألوي على شيء غير مغادرة الوطن إلى الأبد.
 لَكَمْ فكّرتُ! ولَكمْ خططتُ للهرب! ولَكمْ حاولتُ وحاولتُ أن أركبَ قاربَ موت، وأسيرَ على نهج أسلافي آلافِ الشبـــان ممّن تاهـــوا في سراديب من قبلي، من نذروا الجسد للحيتان أو اجتازوا حدودا إلى المجهول بأمان، ولسان الحال يقولُ: " سئمنا القعود كرهنا القيود وما عادت تنفعنا الوعود ".
 حاولتُ الرّحلَ إلى المجهول وما أفلحتُ، المالُ أعوزني والعوزُ أقعدني، وسوءُ الحال أنهكني، وأظلُّ إلى حدّ الساعة حبيس الأنفاس، أجترّ مأساتي وأقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وعاشت.. عاشت وعودُ السادة وورودُ السّاسة.
 أنهى صاحبنا بالغصّة قصّته، وأدمى قلبـــــي بمحنتــــه وقال: معذرة إن كنتُ كدّرتُ مجلسك، واندفع كالسّهم مُنصرفا، فنظر إليَّ النادلُ كان يسترقُ منه السمعَ وقال: "لا حول ولا قوّة إلا بالله.. فمثلُ هذا الشابّ آلافٌ في فوهة بركان".
وأضاف: "ما أفلحتْ أمّة لم تجعلْ من شبابها عمادا لمستقبلها