كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
نداء الوطن : أين الحكماء.....؟

 تمر البلاد بمرحلة حساسة وانتقالية، تفصل بين عقود من الإفساد والفساد، عقود من إضاعة للطاقة وإهدار للثروات، أُخْضِع فيها الشعب كلــــه، شبابـــه و كهوله وشيوخــــه وحتى أطفاله لجملة من التجارب المسقَطـــة، وكأنــــــه، كائن مختبـــرات. مرّت به المراحـــل، تحرّرٍ من استعمار قُتل فيه كل شيء، حتى صناعة الحياة، ثم تتالت عليه التجــــارب، تتـــــرى، كل عقــــد أو نصف عقـــد، و كـــل مـن رأى في نظرياته حلاّ، طبقهــــا على الشعب المسكين دون استشـــارة أو تمحيص. رغم كل العثرات، انتقلوا به، من تعاضد شبه اشتراكي، إلى شكل مشوّه من الليبرالية إلى اقتصاد سوق، استباح السوق والأجساد  و الأرواح، وساق الشعب أمامه، ثم استراح. 

 
أنتجت لنا هذه التجارب ثقافة تابعة، ممسوخة،مهرّجة، مستلبة، تستبْله الأنظار وتضحك على الذقون، لتكسب من وراء ذلك دعما وتدعيما ورواجا، وتدعم الصور النمطية التي يحبذها سائح الدرهم والدينار.  
                                                                  
قدّمت لنا هذه المراحل، نظاما سياسيّا فرديّا، مستبدّا، جاهلا، يؤسّس الفساد المُمنهج، ويُبدع في توظيف  الطاقــــات للتحايـــل على القوانين التي وضعوها، ويدجّن الطّاقات المنتجة والمبدعة والخلاقة، يكمم  الأفواه ويصم الأذان، يحدث غشاوة على الروح والأبصار وينهك الأجساد ويكبّل الطاقات.
 
وتأتي الرياح، من حيث لا يحتسب السلطان، تهب على الروح المتحفزة، الكامنة وتنهضها، ويخرج الصوت من الحنجرة فتتحرّر الطاقات، ويصدر الشعب قـــــراره و أحكامـــه بالتخلــي النهائـــي على مظاهر الاستبداد وإنهاء حالة الإفساد. وفي هذه المرحلة بالذات، التي ينطلق فيها الوطن يتحسّس المسارات لبناء نموذج مختلف عمّا سبق، يؤسّس للعدالة والتداول السلمي على السلطة، وبناء ديمقراطية حديثة، متدرجة، تراعي الخصوصيات، والبيئة الاجتماعية دون التخلي عن الأهداف الكليّة لسعادة الإنسان في ظل نظام مدني يحتكم للقانون المتفق عليه، وتحترم فيه كرامة الإنسان، ومواثيق حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويكون الخيار للشعب عندما يعطي موافقته لأي مشروع سياسي، انطلاقا من تعبير صادق لما في صندوق الاقتراع من اختيار حرّ ودون وصاية.
 
ولأن المرحلة القادمة والمنتظـــرة،التي تتطلع إليهـــا كل الطاقات في هذا الشعب،  و كل الطاقات التي تأثّرت بثورة تونس الحبيبة، تتطلب تكاتف الجميع من أجل البناء والتأسيس الذي لا يتمّ بالشكل الذي يُبهج الشعب الذي قدّم الكثير من أجل هذا الوطن، إلا إذا ساهمت كل أطرافه في ذلك. فالوطن للجميع، ومـــا على الجميـــع إلا المساهمة دون إحساس بإقصاء أو تهميش. ولأن طبيعة المرحلة ستشهد ضمنا تنافسا وربما صراعا، فإن وجود حكماء، بارزين للعيان، يتميزون بالخبرة والدراية والإلمام، إضافة للقدرة على التواصل والإقناع مع كل الأطراف دون استثناء، وليست لهم مطامع لتقلّد مناصب عليا، يفرضون الاحترام ويجلبون التقدير، عابرين للأحزاب والمنظمات والمؤسســــات و لـــم تلوّثهـــم عطايا أو هدايا أو مزايا من أمير أو وزيــــر أو سلطان، مع كل التجارب.                        شخصيّات اعتبارية لا يحتكرها فصيل أو حزب أو حزيّب، وإنما يحتكرهم الوطن وتحتكرهم قطاعات الشعب. ينطقون برويّة ويسبرون أغوار التجارب ويقدمون عصارة تجاربهم لشعبهم، يرضى بهم الصغير والكبير و يبعثون الأمل في الأطفال والشباب والشيوخ والنساء، ينيرون الطريق لوطن سائر  لبناء دولة حديثة مدنية، تحكمه المؤسسات ويحتكم للدستور. وقيمة الفرد فيما يقدمه للمؤسسة وللوطن وليس فيما يقدمه له الوطن . وكم نحن في حاجة إلى هؤلاء النمط من الرجال، الذين ينظرون بمرآة وطن، وليس بمرآة جمعية أو حزب أو جهة.
 
يقولون كلمة الحق ولوعلى أنفسهم، ولا تأخذهم في الحق لومة  لائم ولا سفيه، رجال يقفون على مساحة وطن ،هواءه و ماءه، وحدوده و ثرواته، قيمه وتاريخه، يسددون، ثم يهدون. يداوون الجراح ويمسحون على الرؤوس. يكونون بلسما لنا، مع كل اختلافاتنا، يفرحون لفرحنا، ويدفعوننا، وإذا حزنا يبلغوننا الصبر،ويعلموننا الحرص على العمل الدءوب والمتواصــــل والهـــادف. يساهمـــون في تغييرنا من الدّاخل، وفي نظرتنـــا ورؤيتنـــا لوطننـــا ولتاريخـــه و مستقبله،  وفي نظرتنا لأنفسنا، لأنه في اعتزازنا بأصولنا ووطننا، يعزّنا الوطن ويرفع مقامنا، بين الأمم. لا يتركون الساحة، يمرح فيها أمناء الأحزاب ورؤساءها وفرسان الإعلام وسدنته ومكوني الجمعيات ومموّليهم.  فالفصيل عند هؤلاء غالبا هو أفضل من الوطن، والاهتمام عندهم برفع فصيلهم الذي يرفعهم معه، أفضل من رفعة وطن، يرفع معه  الجميع.
 
فهم أمناء للوطن، كأمنيات، الفقير والمعطل والطفل الشّريد وكل التائهين على أرصفة الوطن، يبحثون عن لقمة كرامة وكأس عزٍّ، خلناه مضى وتركنا نصارع ذلاّ ألحقنا به الطغاة، وإذا به الوطن الولاّد، ينجب لنا من يفتح الكوّة في الدهاليز المظلمة، بروحه ودمه ودموعه وحنجرته... لنبني وطن.
 
 نسال الله، أن يمنحنا الحكمة والحكماء، فإنه من يؤتى الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا. وحكمة الوطـــن سُطِـــرت، ومـــا علـــى الحكماء إلا الالتحاق بآمال الشعب. ويكفي الآن من الاستقالة .....
 
 أعيدوا معي الندااااااء..... الوطن في حاجة لشخصيات من فصيلة الحكماء....