من وحي الحدث

بقلم
د.محرز الدريسي
انهيار الاستبداد: انتصار للحرية أم انتصار للدولة ؟ (2)

 مقدمة

 
أشار الجزء الاول من المقال الى الفرصة التاريخية التي أتاحها الحراك الثوري العربي لتأسيس الحرية وبناء الديمقراطية نظريا ومؤسساتيا كمقدمات ضرورية للدخول في الحداثة العميقة. وبيّنا أن تحقيق هذه الإمكانية يستوجب من القوى الاسلامية ( النهضة- العدالة والتنمية- الحرية والعدالة) الاشتغال على حـل مجموعة من المفارقات الجوهرية في مستوى البنية الفكرية  ومضامين السلوك السياسي، تناولنا المفارقة الاولى المتمحورة حــــول خصوصيـــات دور الديـــــن فـــي المجتمــع. ونطرح  في الجزء الثاني من المقال المفارقات الأربعــة  أو الإشكالات التي لابد  للإسلام السياسي أن يجترح مسالك حلّ لها وروافد اجتهاد حقيقي يجعلنا نعيش حداثتنا وعصرنا. 
 
المفارقة الثانية: ثنائية الشريعة والتطور
 
لم يطرح شعار "الشريعة الإسلامية"بصفة مكثفة  بعد الحراك السياسي والاجتماعي، لكنه حاضر بشكل ما في "اللاوعي السياسي" للحركات الإسلامية بعبــارة رجيس دوبريه،(1) ويمكن أن نعده من المكبوتات السياسية، فهذا الغياب أو التغييب، مسألة تقدير للحظة السياسية والثقافية، ووعي بخصوصية السياقات المجتمعية والتاريخية وموازين القوى. و لئن لم تطرح في تونس وفي بلدان أخرى علنا، فهي كامنة في الجدل النظري والنقاش الأصولي و الفقهي،ولم تطرح ضمن الأولويات - حاليا- إلا أنه من الممكن جدا اقتراحهـــا أو فرضها في وقت -لاحــــق- أي حاضـــرة –غائبــة في التفكير، وهو ما ينبئ بإمكانية انبثاقها بشكل مشوه أو عدواني في أي لحظة. ويمكن معاينة ذلك في بعض انفلاتات المكبوت في الساحة الإسلامية، فأوّل خطاب بعد تحرير ليبيا تضمن إشارات واضحة لمسألة تعدد الزوجات، وفي تونس رغم أن الجامعة فــــي حاجـــة إلى إصلاح هيكلي وأولويات معرفية و إدارية، اقترح الوزير الجديد بعث ماجستير المالية الإسلامية، وهو ما يثير سؤالا حول طبيعة الأولويات و ذهنية استشراف المستقبل وإدارة الشأن العام من قبل القوى الفاعلة الجديّة؟
و تحيل فكرة "تطبيق الشريعة" إلى مضمون سياسي وفكري تمنح فيها الأولوية للتشريعات، وأن الإقرار بإسلامية الدولة لا تكون إلا بتطبيق الشريعة، وضبط دورها في حماية الشرع وتنفيذه، أي تمثل الدولة الطرف المحدد لقانون المجتمع، وليست فقط مكلفة بتنفيذ قرارات الشعب وتطبيقها. هذا الحضور المتستر لتطبيق الشريعة تحول إلى شعار سياسي تحت ضغط  فكرة القانون كمحور للعمل السياسي، وانتشار فكرة القانون الوضعي أدى إلى تسرب مفهوم القانون الحديث والوضعي إلى الفكر الديني.  وتحويل الإســـلام إلى ما يشبه المدونة القانونية للأحكام والنصوص المنظمة للمجتمــــع مع تقلص الاهتمام بما هو روحي وعقائدي. بينما المدونة القانونية تختلف عن الدين، فالقانون يعني الإلزام و القسر بينما الدين هو طاعة الله و بيداغوجيا التقوى وتربية الضمير، والتضامن الجماعي. كما أنه شعار خلافي في المنطلق وفي القراءة وفي المضمون وفي الشكل، ويحتاج إلى وضوح كبير.وإذا قمنا بقراءة في التشكل التاريخي "للشرع" تفيد بوجود "شرائع" متعددة، وبالتالي فإن التعاطي مع  الشريعة كبناء مكتمل أو تراكم تاريخي لما سبق من اجتهادات،دون النظر إلى ما تختزنه من إمكانات تشريعية مستقبلية وتجديدية، سيعيق مسار التشريع، ويحول الشريعـة مجـرد "تميمة" أو "طوطم" غير ناجز في الوعي وفي الواقع، ولا يسهم في حركة التاريخ. و لا تزال هناك أزمة في مقاربة الشريعة و في مداخل تجديد الفكر الإسلامي، ستنعكس على طريقة إدارة السلطة والتفاعل مع متطلبات المجتمع، فانعدام الوضوح النظري في طبيعة العلاقة بين النص والعقل، والوحي والتاريخ، والقرآن والواقع، يفرز ضبابية في الوعي والشعور وتخبطا في المواقف والإستراتيجيات، وخوفا أن تستعمل الشريعة كحامــل لإضفـــاء نوعـــــا من القداسة على السلطة الحاكمة.
هل يمكن "لرجة السلطة" أن تحدث "رجة" في الفكر والشعور والوعي وطرق التفاعل مع المدونة الدينية وأساسا "الشريعة"؟ وهي إشكالية خافتة الآن ولكنها تنبض بشكل كبير، وقد تشكل مصدر حراك نظري وحتى اهتزازات على أرض الواقع وداخل الأسرة الإسلامية العريضة، وأن التباينات قد تنفلق في أيّة لحظة عن عدوانيّة أو ما بين عدوانيّة. ما ملامح العقل/ الشريعة الممكنة ؟ أي نموذج للشريعة؟هل تتضمن تطبيق الحدود وجدول العقوبــــات الزجريــــة ؟ هل هناك وعي أو استعداد لتمثل أن المدونة العقابيــــة أو "المراقبة والعقاب" تتغير تاريخيا، وأن المرجعيــــة الحقوقيـــة للإنســـان تتطــــور؟ ما العلاقة بين الشريعـة والقانون، وأي روافـد وأي مسالك مفتوحة بين المجالين؟ ما الخط الفاصل بين الدعوة لتطبيق الشريعة والحكم الديني؟هل الشريعة تساهم في تديين القوانين؟ 
و لا تطرح المسألة كما يتصور البعض في شرعيـــة أو عدم شرعية تطبيق الشريعة بل الإشكال في طرائق الاجتهاد ومناهج استنباط الأحكام الجديدة، وكيفية تطويــــر القوانيــــن وتأسيـــس الدولــة على القانون. والسؤال الرئيسي هل إن مقاربة الشريعة بشكل جديد، يمكنها من بناء حوار بين الشريعة والقانون، لتجاوز التمزّق القائم في الوعي وفي الاجتماع السياسي وصولا إلى تجسير بين الثقافة العالمية والثقافة المحلية وإيجاد معادلة بين الشريعة والقانون. وذلك يتطلب النظر وفهم "الطبقات المحركة" لهذا الانفصام بين حكم الشرع وحكم القانون، ورتقا لتباين بين النقل والعقل والنصوص والواقع. وتطرح تحدّيا/مهمة للقوى الحاكمة، ما هي المؤسسة التشريعية في الحقل السياسي وكيف تترجم الشريعـــة إلى قواعد اجتماع مدني متماسك ومتضامن؟ كيف يتم تطوير القوانين؟ وكيف تترجم الشريعة حسب حاجيات الناس ومطالبهم، وكيف تعالج الصراعـات و المصالح في كل مرحلة تاريخيــة؟ وهل يمكن أن تتحول إلى تعبيرة عن إرادة الجماعة أو الإرادة العامة؟ 
إن مفهوم الشريعة أي كان مضمونهما ليست ثمرة ماهيات ثابتة مكرسة بالنصوص الأولى التي لا يمكن تبديلها ولكنها ترجمة للحاجات التاريخية التي تدفع لاستعادتها وشحنها بقيم جديدة ومعاني حديثة وعواطف محينة. يستدعي فهمنا للثورات العربية موضعتها في التاريخ بما هو دينامية باعثة على تغيير مفاهيم وتبدل قيم الجماعات ومطالبها ومصالحها وتجذيرها، فالدين رحمة وخير وإيمان وإخاء وتضامن، والتخوف من أن يختزل الدين في أحكام وجداول ترتيبية وقواعد صارمة في الاعتقاد والسلوكات والمعاملات يفقد الدين زخمه الروحـــي والمعنــوي. إن الإسلام في مسألة الحكم أو التشريــع كما في الكثير من المسائل الأخرى لم يقدم إلاّ مبادئ تربوية ملهمة للسلوك البشري وترك الناس يقررون بناء نظمهم التاريخية وإنشاء نظرياتهم العقلية والفلسفية والفقهية. كيف يمكـــن للقـــوى الإسلاميــــة الحاكمـــة أن توفر أطر ومساحات التوافق في الفهم والرؤى واستحداث آليات إدارة الجدل والحوار ومناهج استنباط القوانين؟ كيف تتعالى الدولة عن فرض القوانين بل تطبيق ما تتفق عليه الجماعة من قوانين وإجراءات وتشريعات؟ 
وتتمثل التخوفات المحورية في:
*فرض تطبيق الشريعة بمنظور ”ستاتيكي“ مع غياب لكل نفس تجديدي ومقاصدي.
*أن تختزل مهمة الدولــــة فـــي السهـــر على تطبيق الشريعة أو أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع.
*اختزال الإسلام في "التشريع" تجويف لرسالتـــه من مضمونها الإنساني والخير والهداية والرحمة.
 
المفارقة الثالثة: 
ثنائية الديمقراطية والشورى
 
من أوكد التحديات التعامل مع الديمقراطية وتجذير جوهر الحداثة في مركزية- التداول على السلطة- وإدارة الاختلافات وإشاعة التسامح وقبول التنـوع، ولا يكفي الحديث عن جدوى الائتلافات الحاكمة فقط، لأنها تعبر عن "ضرورة" التحالف بمنطق سياسـي، قد ينفجر في أية لحظة وفي أي اختلاف في الحسابات. وأن المسألة ليس التعاطي مع آلية الديمقراطية فحسب بل في التفاعل مع الديمقراطية كثقافة وقيم. و تستثمر الحركات الإسلامية أو "الحركات الإحيائية" بعبارة رضوان السيد مفردة الديمقراطية التي أدمجت في الفضاء المفاهيمي والقاموس اللغوي للإسلام السياسي، واعتبرت مرادفة لعبارة"الشورى" الواردة في النص القرآني. ويتم التغاضي عن ارتباطها بالآداب السلطانية فقط، وأنه لم يكتشف معنى الشورى بما يفيد الديمقراطيــــــة إلا على ضوء اكتشاف نظريات السلطة الحديثة وتحديد موضوعها وحتمية تقييدها. فالديمقراطية كمنهج حداثي وكقيم حداثية في بناء الحكم وإدارته، يوجد مرادفها في القرآن "الشورى"، وهذه الإحالة أو "القياس" اللفظي يشير أن قداسة القرآن باكتماله وتضمنه لكل زمان ومكان، ينتقل من القداسة الشعبية إلى القداسة الإيديولوجية. بينما ”أهم فشل عاناه تاريخنا هو أن الشورى ظلت قيمة أخلاقية عليا ولم تتحـــول إلــــى مؤسســــة سياسيـــة“، (2) ولم ترتبط بمسألة الدولة أبدا في الفكر السياسي العربي الإسلامي الكلاسيكي، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون من أن ”الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبيـة يقتدر بها على حل أوعقد أو فعل أو ترك، وأما من لا عصبية له، ولا يملك من أمر نفسه شيئا.“(3)
لذا من بين التحديات الرئيسية التي تواجه القوى الحاكمة الجديدة أنه لابد من التمييز بين المعاني التربوية الدينية وبين المعاني السياسية الجديدة التي نريد أن نعطيها لها مع احترام الفوارق التاريخية. بينما هذا التركيب معيق للتطور الطبيعي للمفاهيم، فمضامينها مثل الكائنات الحية تتغذي من الحراك الاجتماعي والفكري والسياسي واللغوي والفلسفي وتتبدّل بتبدّل الحاجيات والمتطلبات. وهو ما لاحظناه من ردود فعل عنيفة فردية وجماعية في مواجهة (شريط سينمائي- قصيدة شعرية- مسرحية- مقالة- وحتى خبر إعلامي مفبرك أو غير دقيق...) يثير عنفا وحالات هستيرية، و يتسبب في انفلات أمني لأن البناء الشعوري والتربوي هش تمحور حول الطقوس والشكليات ولم يغص في الأخلاق. وبما أن الحقيقة واحدة وهي التي أمتلكها "أنا"، فمن الطبيعي أن تنبذ التسامح، ويتحول إلى وصي على الدين وعلى الإسلام وعلى المقدّس. في حين أن الديمقراطية ليست إجراءات ومؤسسات، بل هي روح تسري وثقافة وقيم تتجسم في أنسنة الإنسان وجعل السياسة ميدانا "للتنافس" والتعبير عن الأفكار والبرامج وقبول الآخر وإدارة الجدل والحوارات، وهي في الأخير تعبير عن "الإرادة العامة" أو "إرادة الجماعـــــة" وقبول الاختلاف. بينمـــــا "الشــورى" تعبير لا يرتقي إلى مستوى المنتج الحداثي و الميكانيكا النظرية والفلسفية المنتجة ولا الآليات المؤطرة للاختلاف والصراعات وتنظيمها. فالديمقراطيــــة ليست "آليــــة" أو "إجراءات" بل نظام إنساني يبنى على نسبية الفهم والموقف والاقتراح والبرامج، ويتطلب نظريا وعمليا الاشتغال عليها:
نظريا: صياغة أفكار ورؤى تقر بالاختلافات والتناقضات والتنوع والصراع والتنافس والتناقض
عمليا: مؤسسات وهياكل وآلية إدارة الحوار والتصرف في التباينات بين القوى والمصالح والنزاعات.
لهذا فلا يكفي تقبل الديمقراطية كآلية أو أن لدينا "شبيهها" الإسلامي، بل أن الاشتغال في العمق لإعادة البناء التنظيمي المركزي، وإتاحة مساحات للحوار الداخلي، وتبني أشكالا تنظيمية أكثر انفتاحـــا و أكثر أفقية وديمقراطية، وأن تعيد إنشاء المرتكزات الفكرية والجذور التربوية بما يسمح بقبول الاختلاف وترسيخ معان التسامح والتنوع ومناخ التعدد. فالثورة بما هي تجسيد للحداثـــة في مطلبها الجوهري، فالديمقراطية ليست الحشد باستثمار "الذاكرة النضالية"، بل رؤية تتجذّر في مرجعية حقوقية وقانونية وتنشئ قيما تسامحيّة، ونظرة ترسّخ الديمقراطية في التربة الوطنية والمحلية،واستملاك قيمة الحرية ونشأة المواطن فكرة وسلوكا. 
والتخوف أن يتم إنتاج "ديمقراطية إسلامية" تعيد إنتاج الاستبداد وتغلق الباب في تجربة سياسية جديدة أمام دخول شعوبنا ومجتمعاتنا لمرحلة الحداثة، ونعيد طرح سؤال القرن 19 في القرن 21 "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" ونبقى في المتاهة التاريخية، دون تحقيق التراكم المعنوي والمؤسساتي المنتظم والثابت لقيم الديمقراطية. ولا ينبغي أن يغيب عنا أن الديمقراطية يمكن أن تكون في خدمة مجموعة مصالح فئوية، ولا تعبر عن الأغلبية، فشكل الحكم مرتبط بتوزيع القوى السياسية وتوازنها في كل مجتمع، ومرتبط ثانيا بالقيم الأساسية أوالمهمات التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها تاريخيـا. ولا نعتقــــد أن الحديث عن الخلافة السادسة من قبل رئيس وزراء الحكومة المنتخبـة في تونس، مجرّد زلّة لسان أوتصعيد لمكبوت سياسي، بل منهج في الفكر السياسي يعتقد أن النموذج الأفضل في الحكم يوجــد في الماضي، وأن الحكم الصالح أو الحوكمة الرشيدة تبنى على أخلاقيات الفرد وصلاحـه. في حين أن الديمقراطية ليست نوايا صادقة، بل في ترجمة الديمقراطية إلى خطط وبرامج ومشاريع فاعلة وناجعة ميدانيا، وإزالة القطيعة بين السلطة والمجتمع. والتخوف أيضا من تعليب الديمقراطية وتحويلها إلى مجرد شعار استهلاكــــــي، في حين لا بد وأن تكـــــون جزءا من مشروع اجتماعي، لا بديلا عنـه، وأن تدرك كنظام حكم أي مؤسسات،وكمعركة اجتماعية وسياسية من أجل تحقيق إصلاحات جذرية في طبيعة الدولة والمجتمع. إننا في مفترق طريق تاريخي، فالديمقراطية لم تستقر بعد ولم تتحول إلى قاعدة جماعية، ولم تتحول من مفهوم نظري وسياسي إلى حركة اجتماعية، فالديمقراطية تتحول هي نفسها إلى"مشروع اجتماعي تاريخي، وتستدعي تأمين عوامل تحقيقه من أمن جماعي وتنمية مطّردة وتوزيع عادل" (4). وتتأسس السلطة على الاختيار الشعبي وتوضع في خدمة المجموعة وتحت رقابتها، فهي ليست  الوصية على الشعب، وإنما هي، بالعكس من صنع الجماعة و خاضعة لإرادتها. و أن جوهر العملية الديمقراطية التكريس القانوني والاجتماعي لإمكانية التصويت المنظم والدائم على صلاحية السلطة، بما يضمن للمجتمع الحق في مراقبة الحاكم ومحاسبته وتغييره. بل إن شرعية أي سلطة سياسيـــة واستقرارها في مدى ضمانها لمبدأ الحرية، ورعايتها لأسس الديمقراطيـــة ودفاعها عن كرامة مواطنيها. والحرية ليست معطاة بالفطرة، إنما هي حق عام، ومرتبطة بتربية عقل الإنسان، فلا يستقيم الرهان على الحرية إلا إذا استقام الرهان على العقلانية التي يحتاج إليها تكويــــــــن الإنسان الحــــرّ. والحرية لا تنفصل عن رؤية للديمقراطية بناء وتربية، وتعمل على تجذيرهـــــا في الوعي والشعـور، وصولا إلـى الموقـف. وتستوجب مـن القوى السياسية لا إدماجها اللفظــي، بل تأسيسها نظريا وإنجازا ميدانيا، يحمي المجتمع من الانزلاق في قابلية الاستبداد، ويحصـــــن الدولـــــة من الانزلاق مجددا في الأبوية والشخصنة والقمع.
 
المفارقة الرابعة:
ثنائية الدولة- الآلة والدولة- الإطار
 
إن حصر السلطــــة في النفعية الفردية أو الفئوية نفي للسلطة،أوبدقة نفي معناهـا كمسؤوليّة في ميدان الشأن العام (السرقات) لا تتنافي مع القانون أو الأخلاق (تدبير الرأس)، ولذا من السهل تحويل الحكم في بلادنا إلى استغلال بسيط للنفوذ، فذلك لأن السلطة ذاتها ليست موجودة هنا إلا بمعنى النفوذ/ أي النفاذ إلى مصادر القوّة التي تمكن من السيطرة والاستغلال والتحكم بمصير الآخرين. وهذا أدى إلى غياب المعايير والأصول التي تضبط علاقات السلطة الاجتماعية وتوزيع الصلاحيات مثلا إلى أن تتدخل السلطة السياسية في كل صغيرة وكبيرة من حياة الجماعات والأفراد، بل إلى  الإلغاء الشرعي لكل حياة شخصية وفردية مستقلّة. إن انتقال الحركات الإسلامية إلى سدّة الحكم والمسك بدواليب السلطة، والدخول إلى أروقة الدولة وتجاويف مؤسساتها، سيكون "محنة" للإسلاميين من نوع جديد، إنها تجربة "يوسف عليه السلام".(5) إن وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة جعلها في مواجهة قاعدة أساسية أنها لا تستطيع أن تبني الدولة إلا إذا تمثلت المعايير والعناصر السياسية الحديثة، ذلك أن الدول مؤسسة انجازية وليست فكرة عقائدية. والتخوف من أن تتحول الدولة إلى غاية في حد ذاتها، و أن تعيد إنتاج التسلط والهيمنة، عبر إعادة توزيع المناصب والمنافع والمواقع على حساب بناء قاعدة موضوعية للمساواة وتحفيز الروح الوطنية. أو أن يفضي الحراك السياسي وتضحيات الشهداء وملحمة الدّم إلى إعادة بناء الدولة القاهرة والمتغوّلة والمتوحشة، مقابل ضمور المجتمع وانكماشه وانكفائه على فرديته وتقليص مساحة الحرية فيه، ويتم تكوين دولة استبدادية مهيمنة بعنوان إسلامي أو ديني، يخرجنا من الحداثة ويغلق أبوابها. بينما تتطلع الشعوب العربية وقواه الحية إلى دولة تشكل الإطار المشجع للحوار والنقاش المدني والحركية، وتجديد النخب والفكر والقيم والحياة السياسيّة. و الرّهان أن تحرص على ضرورة تغيير الطبيعة الاجتماعية للدولة من دولة القهر والظلم والتفاوت الجهوي والاجتماعي إلى دولة المساواة والحريات والعدالة أي تغيير الطبيعة السياسية والطبيعة الاجتماعية.
و يرتبط مفهوم الدولة بتحديد قواعد الممارسة السياسية وبنية السلطة وقواعد ممارسة الحكم، وما ينتج عنها من تعيين غايات الاجتماع المدني وخصائص المجتمع السياسي. والرهان الرئيسي للربيع العربي في تونس كنموذج تجديد النخب السياسية وتجديد العمل السياسي، وإعادة بناء السلطة الاجتماعية، ويمرّ ذلك عبر إثراء الموارد الفكرية وإثراء التصورات النظرية، وبناء السياسة  يعني " تكوين سلطة مستقرة نسبيّا وجعلها سلطة مشروعـة أي تحظى بالحد الأدنى من الثقة والطاعة"(6).ووفرت الثورات العربية لبعض القوى السياسية شروط إمكان إعادة بناء مسألة السلطة وربما أرضيتها وإحداثياتها، وبما أن الإسلام  السياسي هو الماسك بالحكم، تطرح مجموعة من الأسئلة. هل لمسألة الدولة أهمية كبيرة في الإسلام؟ هل كانت السلطة إحدى مشاغله  الجوهرية ام مجرد نتاج من نواتجه الحضارية والتاريخية؟ أليست الدولة تعني السياسة والسياسة تدل على الخداع والمكر والحيلة؟ أم يمكن للسياسة أن تتخذ منحى بلوريا وشفّافا؟ أليس الدين مجال روحي وعقائدي، في حين أن الدولة تختزن القوّة والقهر وتتضمن السيطرة والهيمنة؟
والتخوف من تحويل الإسلام إلى مذهبية سياسية اجتماعية وتغيير منظومة القيم الاجتماعية بمعنى تبديل سلم القيم الموجهة في صلب المجتمعات العربية، وبما أن هناك إقبال على القيم الدينية كمصدر لإعادة بناء مفهوم الأمة والجماعة وإحياء السياسة من جديد كمفهوم وممارسة. وهذا لا يمكــن أن يتــمّ إذا بقيت آليات التفكير في السياسة تقليدية ترى الدولة هي دولة مركزية بونابرتية تمتص رحيق اليعقوبيــة. إن الدولة لا تتأسس على المؤسسات والقانون ولا تجسم الديمقراطية بمجرد إعلان "إسلاميتها"، أو أن "الإسلاميون" يمسكون بزمامها، بل بتأسيسها على مبدأ أخلاقي جامع. فما مدى استعداد الإسلاميين والفكر الإسلامي أن يحدث دينامية تجديدية داخل مفاهيمه ومنطلقاته وأسلوبه وتعامله مع الفكر السياسي في التراث والفكر الإنساني؟. إن التحدي ليس فقط في الاستجابة للمطالب الاجتماعية وإدارة دواليب الدولة أو الحكومة بل في إحداث نقلة في الفضاء السياسي الإسلامي، فكرا وتنظيرا وتربية. يوجد اضطراب في المفاهيم وارتعاشات في الخطاب وحديث عن منهج الخلفاء الراشدين وعن "خلافة سادسة"، قد نتفق أن المقصود هي معاني "الحوكمة الرشيدة" و"تخليق التدبير السياسي"، لكن هل تكفي الأخلاق الحميدة في قيادة الدولة؟ وهل تكفي النوايا الطيبة في تسيير الحكومات؟
إن ارتباط الدين بالسياسة لا يمثل خطرا على الدين أو السياسة، ولكن الخطر يكمن في تحويل السياسة إلى ممارسة مقدسة دينية، وإلغاء الفعل العقلي والنقدي فيها. يهدد إدخال الدين في السياسة المطلبية بإرهاقه المعنوي والعقائدي الناجم عن بث الفوضـى في مفاهيمه، قد تدفع الناس إلى البحث عن أطر روحية أخرى أكثر قدرة على الجمع والتوحيد. ولا يمكن للدين أن يبقى بعيدا عن الرهانات الاجتماعية وإلا تحول إلى عقيدة لا روح فيها، ولكنه لا  يستطيع أيضا أن يورط في كل رهان اجتماعي مهما كان وزنه وحجمه، وإلا تحول إلى عقيدة حزبية وفقد عموميته أي جوهره وروحه.. لكن هل يمكن للربيع العربي أن يستثمر الزخم الثوري والحراك السياسي و الروح المعنوية الأفقية والتشاركيـــة للانتصار للحرية،و بعث الضوابط المؤسسية والقانونية وعقلنة الحقل السياسي ؟
 
المفارقة الخامسة: ثنائية العقيدة والثقافة
 
هناك خلط بين العقيدة والهوية، حيث تتحول العقيدة إلى مضمون هوياتي وأن الدين محتوها الوحيـــد، ويتـــم التغافـــل بشكــل عفـــوي أو مقصود عن الثقافة التي هي إحدى المكونات الرئيسية للهويــة. ولقد كان الصراع مع الأنظمة الاستبدادية يختفي خلف ستار الدفـاع عن الهوية، وهي نفس اليافطة التي ترفع في صراع القوى الإسلامية  مع القوى التي تطلق على نفسها "الحداثية" أو"العلمانية"،معتبرة أن الهوية مرادفـة للعقيدة وأن الدفاع عن الهوية دفاع عن العقيدة والدفاع عن العقيدة دفاع عن الهوية. وتفضي هذه المسلمة إلى خلط عقيم بين العقيــــدة والهويــــة، ذلك أن الهوية تعبر عن الثقافــــــة، ولذا كــــان الصراع بين العلمانيـــة ضدّ القوى الإسلامية صراعا نعتبره مزيفا ومغلوطا.  و لعل مما زاد في تعقيد المشكلة في الوعي الإسلامي العلاقة الخاصة التي تطورت عبر التاريخ بين العقيدة والحياة، بحيث جعلت من الدين إطارا أوسع بكثير من الهداية. إن كلمة دين لا تعني هنا مجرد سلطان الوحي وقدسية الكلام الإلهي، ولكنها تعني، مركز بلورة الاجتماع المدني كله، بناء واسعا أساسـه النص القرآني الثابت ولكنه يضم كل الاجتهاد الإنسانــــي الفكـــري والعلمي و المادي.  و المفارقة أن تختزل الهوية الفردية أو الهويـــــــة الجماعيــــــة في العقيــــدة لا في مضمونها الأخلاقي والخير والإيمان بل في أشكالها، وتتبوأ المظاهر الشكلانية عـــــوض الجوهر العقائـــــدي، فنرى التأكيد على التشدد والتزمت في "اللوك" (اللحي- القمصان- الخمارات- النقاب...)، وهو اهتمام بالشكل عوض المضمون، والتشدد مقابل الإيمان والمظاهـــــر قبل الأخـلاق. في حين أن الهوية الفرديـــــة أو الجماعية دينامية مفتوحة ومتحركة وتاريخية، تستوعب العقيدة ولا تختزل فيها وتتضمن الإيمان ولا تتوقف عنــــده، فالهويــــــة هي الخصوصية المنشئة والمستشرفة للمستقبل وليست المحتمية بالماضي ولا الكامنة في صور تاريخية ماضية. ولا تعني الهويــــة أن تنتج "كائنات تراثية"، بل أن تتشبع بتراثها وهي ترنو للنهوض والتطور والتلاقح الثقافي، فالهوية جدل فيما بين الخصوصي والكوني والذاتي والعالمي. 
إن أزمة الهوية في المجتمعات العربية تمتد جذورها في التجربة النهضوية السابقة،وتعبر عن مظهر من مظاهر تجديد الشخصية الوطنية في مرحلة الأزمة الحضارية العميقة التي تعيشها المجتمعات العربيــة. إن الحاجة إلى الدين كمركــــــز انتماء عـــــام تزداد في المجتمعات بقدر تزايد الانتماءات الأخــــرى، بما في ذلك العصبيات الجهوية والقبلية والقطاعية، ويتحول الانتماء الديني إلى وسيلة لتجاوز التفتت العام، ويزداد التعلق بالتراث كتعبير عن الهويــــــة مع تفاقم تفكك منظومات القيم وتفسخ الثقافات المحليـــــــة. فبقدر ما يرتبط معسكر العلمانية والحداثة بالمنظومة الرمزية المستمدة من القيم الأوروبية، يصبح التمسك بشعارات التراث والإسلام، رمزا للوطنية ومرتكزا للخصوصية.و تعكس "الإسلامية" الراهنة خيبة الأمل الكبرى  في الأخلاقية الحديثة كمصدر لإعادة اللحمة الاجتماعية، وتأسيس قيم الاتفاق والتفاهم والتماسك العام.. فالثقافة الوطنية مثل كلمة السر التي تسير عليها الشعـــــوب، والتي تحتـــاج باستمـــرار إلى شحنها بالموارد الملائمة لها، وبالروافد المدعمة، والتي تستعمل كاسمنت لالتحام الجماعة وتضامنها.
و تتطلب الهوية صور جديدة،ومعاني نظرية مستحدثة وممارسات تسهم في منحها قوّة وفاعلية من خلال "شبكة جديدة من المفاهيم، كالإنبنـاء والتكوين والصناعـة والعولمة والتنمية والتواصل"(7). فهويتنا ليست ما تتذكره شعوبنا وما تحافظ عليـه، بل أيضا ما تنجـزه و ما تصنعه. و لا تنبت الأفكار بالطبع في السماء أو بصفة تجريدية، بل عبر الصلة مع الغير وتتشكل على أرضية الصــراع فـــي الواقــع. إن التفكير الإيجابي والمنتج لمسألة الهوية، ليس هو الذي يقوم بحراستها والدفاع عنها، بل هو يزرع الأفكار الخصبة وينجب المفاهيم والمناهج الجديدة. ولا تعاش العلاقة مع الخصوصيات الذاتية من خلال "مفردات الأصل والمحافظة أو الفخر أو الخشية بل من خلال مفردات المغامرة أو الإبداع أو التحول"(8). ذلك أن انغلاق الهوية علامة على ضعفها،و الثقافة الجديدة تستوجب استيعاب حركي لثقافة الصورة، وإعادة النظر" في مفهوم الثقافة ذاتها وما تطرحه من ثنائيات حول السطحي والعميق والشكلي والجوهري والهام والمبتذل"(9).
خاتمة
 
هذه المفارقات التي تشق الوعـي/ الفعل الإسلامي، طفت على السطح، وهي تخوفات و أسئلة لا يقصد بها "تضييق" المساحة، بل فتح مساحة تأمل وتفكيــر، وأن لا تؤجل الإشكالات بل أن تباشر القوى الحاكمة وخاصة القوّة الرئيسية، في حل المآزق هنا والآن. لأن التأجيل إلى وقت لا حق لا يعني إلا تأجيلها إلى مرحلة تاريخية موالية وجيل لاحق، وهذا لن يديم إلا حالة البؤس التاريخي واستمرار المآزق النظرية والعملية ومشتقاتها السياسية والعملية، وانحباس جديد في عنق الزجاجة. والمطلوب توفير القواعد اللوجستية والمنهجية والبشرية للاجتهاد، واستئناف مشروع الإصلاح الديني بإصلاح حريات التفكير وإتاحة الفرصة لمقاربة المسألة الدينية بعيدا عن كل الضوابط المعيقـــة. فالدولة هي المؤطرة للمجتمع والمحفزة والمعززة للنقاشات والجدل وإدارة المصالح والتنافس بين القوى، وأن تكسر معادلة السياسة/الغنيمة وتربط السياسة بالمصلحة العامة. 
والتجربة الديمقراطية قادرة على النمو وأن يشتد عودها، وتكون تجربة مباركة أصلها ثابت وفرعها في سماء الوحدة أو تشكل جيو- اقتصادي جديد. و الحرية في عمقها ليست حرية التعبير وحرية التنظم فحسب، بل أساسا حرية التفكير وحرية الاجتهاد النظري والإبداع وإنتاج أفكار جديـــدة وأراء مثيــــرة وحرية الاستفـــزاز. ولا يمكن ذلك إلا إذا انتقلت الدولة  من الدولة الأبوية والمشخصنة التي لا تنفصل ماهيتها عن الهيمنة والقسر و الضبط الاجتماعي، إلى دولة الحرية جوهرا.المفارقات أو التخوفات هي تعميق التأمل وتحريك السؤال في ما بعد الحراك الثوري، وفي صميم شروط استمرار الحراك ليفضي إلى إنشاءات نظرية لا تنفصل عن الإنشاءات المؤسسية. إنها فرصة للقوى التي اهترأت في ضفة المعارضة لتجدد حيويتها وتحقق الطلبات المجتمعية والتطلعــــات التاريخيـــة فـــي "الحرية" كشعار، بل كممارسة ومؤسسات وأسلوب حياة وطريقة إبداع واجتهاد. 
 
الهوامش
 
(1)- Dubray, Regis.Critique de la raison politique, Paris, Gallimard, 1981, p16.
(2) الغنوشي، راشد.نظرات حول الديمقراطية في المغرب العربي، مجلة الإنسان،عدد 1،مارس 1990.
(3) ابن خلدون، المقدمة، دار العودة، بيروت. 
(4)غليون، برهان.نقد السياسة، الدولة والدين،الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي،2004.
(5) تصريح للسيد منصف بن سالم، أحد قياديي حزب النهضة التونسية، وهي عبارة تتردد كثيرا في خطاب الإسلاميين. 
(6) جعيط، هشام."النهضة والإصلاح في العالم الإسلامي الحديث"، المستقبل العربي،عدد 38،1982،ص.4-18.
(7) حرب، على.حديث النهايات،فتوحات العولمة ومآوق الهوية، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، ط 2،2004.
(8) أبو زيد، نصر حامد. مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط 2،1994.
(9) أبو زيد، نصر حامد. نقد الخطاب الديني، سينا للنشر، ط 2، 1994.