بهدوء
بقلم |
محمد القوماني |
هل تفتح الثورات العربية عصر المواطنة في ربوعنا؟ |
شكل عصر الأنوار في أوروبا مرحلة نوعية بجعل المواطنة حقا إنسانيا يتمتع به الجميع على قدم المساواة، حين أسّس روّاد التنوير الاجتماع السياسي على فكرة التعاقد وجعلوا المواطن عضوا في الدولة تربطه بها علاقة حقوق وواجبات . وجعلت الثورة الفرنسية المواطنة حقا قانونيا بإعلانها حقوق الإنسان والمواطنة، وترسّخت هذه المواطنة في أوروبا وأمريكا عبر الأجيال، بتطوير منظومة حقوق الإنسان وتغيير القوانين باطراد، باتجاه مزيد من التحررية وضمان المساواة والكرامة. أما في منطقتنا العربية فيبدو أن مفهوم الغَلبَة، الضارب بجذوره في القرون الخوالي، ظل يؤسس الاجتماع السياسي في الدول الحديثة بدل مفهوم التعاقد. فالحاكم يستمدّ مشروعيته من قهر خصومه وغلبتهم وبسط نفوذه على الأغلبية التي وصفها الكواكبي بقوله: "عليهم يصول و بهم على غيرهم يجول" . وكان من الطبيعي أن تغيب المواطنة أو تضمر في ظل حكم الغلبة. وتلك من أهم معوقات الديمقراطية وحقوق الإنسان في ربوعنا وإحدى الفوارق النوعية بين أوضاعنا السياسية ونظيرها في المجتمعات الديمقراطية. وهي فوارق تشمل السلوك المُواطني للحكام والمحكومين في آن. فهل تفتح الثورات العربية الأخيرة على الاستبداد، عصرا سياسيا جديدا، يُكرس فيه مبدأ الحرية وتكون فيه المواطنة أساس الانتماء للدولة وتُعتمد فيه الانتخابات الحرة والتعددية أساسا وحيدا للشرعية السياسية؟ في هذا السياق تتنزل مقاربتنا لمفهوم المواطنة، وتداعيات ضمورها في ربوعنا وأولوية تفعيلها في هذه المرحلة، حتى تصير ثقافة المُواطنة موجّها للسلوك الفردي، وأساسا لعلاقة الفرد بالدولة وقاعدة في الحياة الجماعية.
أن تكون مواطنا، يعني ببساطة أن تكون عضوا في دولة ديمقراطية مؤسسة على علاقة تعاقدية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات الأساسية وأمام القانون ويكون فيها الحاكم منتخبا ويكون فيها للفرد المحكوم الحق في تدبير شؤونه الخاصة وتدبير شؤون مدينته ومجتمعه، بإبداء رأيه بحرية واتخاذ المبادرات التي تهدف إلى تحسين وضع الجماعة محليا ووطنيا، والمشاركة في الحكم باعتباره ناخبا أو مُرشحا لسلطة يخضع لها المجتمع لمدة محددة ويكون للناخبين حق مساءلة تلك السلطة أو مقاضاتها أو عزلها إذا لزم الأمر. ولا تتحدد المواطنة من خلال علاقة الفرد بالدولة فقط، بل أيضا من خلال حياة جماعية قائمة على روابط ثقافية وتشريعية وسياسية تقوم على تلازم الحق والواجب، وتقترن بتطور الإنسان وسعيه الدؤوب نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة. والمواطنة بهذا المعنى، مفهوم ديناميكي يتطور بتطور المجتمعات ووعيها بحقوقها وتطويرها لمنظومة المشاركة السياسية، بترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق التنشئة الاجتماعية والتوعية المستمرة التي تساهم فيها الأسرة والمدرسة، والمنظمات الأهلية والهيئات الحزبية وكل الفاعلين في المجتمع.
كان من الطبيعي أن تضمر المواطنة في دولة ما بعد الاستقلال رغم وجهها الحداثي، ولا تستفيد بلادنا، وسائر البلدان العربية، من كل طاقاتها، في ظل حكم الغلبة. فلم يساعد تعطّل التنمية السياسية على تحقيق تقدم نوعي على صعيد تفعيل المواطنة، فساد نظام الحزب الواحد وتقلصت فرص المشاركة السياسية، وعرفت العديد من الطاقات والفئات الإقصاء أو التهميش. لكن الأخطر من ذلك أنه ممّا ساهم بقوة في غياب المواطنة أو ضمورها في ربوعنا وممّا ضاعف جاذبية التسلط في مجتمعاتنا، أن مفهوم الغلبة انتقل من الحكم إلى المعارضة، ومن السلطة إلى المجتمع.
في ظل هذا الوضع الجديد، صار الحديث عن الإصلاح والديمقراطية ودولة الحقوق والمؤسسات، من ثوابت الخطاب السياسي ومن المشتركات بين الفرقاء. ومن المفيد في هذا السياق التشديد على حيويّة تحدي تفعيل المواطنة بما يضعنا على طريق الحكم الرشيد الذي يعد من شروط المناعة والبقاء والنجاح في مواجهة التحديات المستقبلية لعالمنا المليء بالتقلبات. فإذا ضاع هذا الهدف وتبدّدت الجهود في المُغالبة وإدارة الملفات الظرفية، نخشى أن يستمر منطق حكم الغلبة على حساب ذهنية المواطنة ودولة المؤسسات، فنخسر رهانات الحاضر والمستقبل. وإذا كان من المشروع والمهم أن تنشغل السلطة والأحزاب السياسية بالاستحقاقات العاجلة، فمن باب أولى أن يُعيروا الاهتمام اللازم للمستقبل المنظور والبعيد للأجيال. لهذا كله ممّا تقدم بسطه، ولغيره ممّا لم يسمح به المجال، نعد ّتفعيل المواطنة في مقدّمة أولوياتنا. فلكي تبرز الديمقراطية التي ننشدها جميعا، بديلا جذّابا عن عهود الاستبداد والفساد، لا بد أن تكون المواطنة ثقافة اجتماعية وموضوع اهتمام جماعي وعنوانا لعصر جديد. |