بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
دور وسائل الإعلام والإتصال الحديثة في التفكك العائلي

 

المقدمة
 
    إنّ البحث في المجال الحيوي للمشهد التواصلي الأسري الجديد يدفعنا مباشرة إلى الاهتمام بموضوع الإعلام الذي يعبر عن الثورة التكنولوجية ذات الآثار الاجتماعية والثقافية الشاملة. فإذا كانت العائلة هي المؤسّسة الاجتماعية المسؤولة الأولى عن التنشئة الاجتماعية والثقافية في المجتمع، وهي أداته الرئيسة في تأهيل الفرد (الطفل) وتنشئته على قيم المشاركة في الحياة الاجتماعية، فإنّ وسائل الإعلام الحديثة أصبحت تشكل في نظر البعض "الأولياء الجدد"(1) للطفل. فإلى جانب دورهـــــا الايجابـــي الذي لا يمكـــن أن ينكره أحد، أصبحت تمثل عنصر اضطراب وتعارض لدور العائلة، أي تشكّل فاعلا رئيسيا للتنشئة الاجتماعيــــــة والثقافيــــة ومنافســــا كبيرا لدورهـــا في المجتمع. إنها تنشئ الفرد على أشكال من السّلوك والتفكير والشعور والقيم، وأصبحت لديها قوة قهر تفرض بموجبها عليه، ومن ثم تحولت هذه الظواهر والقيم إلى أفعال وتمثّلات وتصورات.
  والفرضية التي سننطلق منها في هــــذه الورقــــة هي أن نسق التربية والتواصل في العائلة تأثر بشكل مباشر بوسائـــــل الإعــــلام والاتصــــالات الحديثـــة التي أصبحت تهيمـــن على المشهد التربوي العـــــــام في الأسرة والمجتمع. وبالتالي، فإنّ العائلة التونسية في حاجة أكيدة إلى ثقافة الحوار والتواصل باعتبارهما إحدى الآليات المباشرة والرئيسة لحل عديد المشاكل العائلية وللحفاظ على تماسك أفرادها واندماجهم الاجتماعي.
 
  1ـ مفهوم التّواصل الاجتماعي
 
     كلمة "التّواصل" في مفهومها العام متعدّدة المعانــــي (polysémique)، وتستخـــدم لوصـــــف سلوكيات وعلاقات وأفعال ووضعيات اجتماعية وثقافية متنوّعة. ويتّخذ هذا المفهوم معاني مختلفة حسب سياق استعماله وتحوّله من حقل علمي إلى آخر. وتبدو هذه الكلمة "الاسفنجية" أنها تشير إلى أشكال للتفاعل والوقائــــع الاجتماعيـــة والثقافيـــة المتعـــدّدة مثل: نقل الرّسالـــة والحـــوار وتناقـــل المعلومة داخل مؤسّسات المجتمع وخارجها. 
 ويدلّ مفهوم الاتصال أو " التّواصل" (la communication) على "النقل" و"الإبلاغ" أو"الاخبار" عبر وسائل متعدّدة مكتوبة أو مسموعة، لفظية وغير لفظية. كما يعد مجال الاتصال من أبرز علــــوم التحكـــم والتوجيــه للمجتمعــات الحديثــة. ويظل التواصـــل مثل مختلف الظواهر الاجتماعية الأخرى ذا أبعـــــادا غيــر متوقعـــة أو غير مرغوب فيها من قبــــل البعض فـــي مختلــف المؤسّسات والفضاءات في المجتمع.
 أما التّواصل كنسق اجتماعي فيعني جملة من العلاقات والتفاعلات ضمن نسق الاشتغال لمختلف مكوناته وآلياته. والعناصر المكونة لهـذا النســــق حسب "جــــون لوهيـــس" (Jean Lohisse) (2)هي :اللّغـــــة والعقليـــة الجماعيــة (la mentalite collective) والبنية المجتمعية.
1ـ من خلال اللّغة نكتشف مختلف التمظهرات الملاحظة للعبارات والمفاهيـــم والمفــــردات التــــي تعتمدها المجموعة في تفكيرها وفي علاقاتها في سياق مجتمع معين. فاللّغة تشمل كل استعمالاتها اللفظية والدلالية والحركية وغيرها.
2ـ العقلية الجماعية: وتدل هذه العبارة عن نمط من التصوّرات (des perceptions) التي تقــــود أفــــراد المجموعــــة وتعتبر مــــن خلالهـــــا بعــــض الأفعــــال والمواقــــف والسّلوكيـــــات على أنها عاديــــة ومستحبــــة وتستحــــق التقديــــر والاحتــــرام أم لا. أي أنّ العقلية الجماعية هي شكل من "البداهات الاجتماعية" (des evidences sociales). فهي ليست محدّدة بشكل مسبـــق أو قائمة على تفكيرعميق، بل هي عبارة عن قيم اجتماعية تتكرّر في الممارسات والحوارات اليومية، وتصبح عندئذ عنصر توجيه لها وللمخيال الاجتماعي.
3ـ البنية المجتمعية: هذه العبارة يقصد بها حسب الكاتب، مدلولها الكلاسيكي بمعنى التموضع والتنظيم. وبمعنى الترتيب والتنسيق الشامل لمختلف العناصر التي تدفع إلى بناء الفعـــــل المجتمعــــي في شموليته.
  ويعتبــــــر موضـــــوع "التّواصــــل الاجتماعــــي" من المسائـــــل الحديثـــة في علوم التّربية والإعلام والعلوم الإنسانيّة بشكل عام. لقد باتت مسألة التواصل تمثّل إحدى أسس العلاقات الإنسانيّة في مختلف مؤسّسات المجتمع. فالمقاربة البسيكو- سوسيولوجيّة ركّزت أبحاثها على بعــــده الإنسانــــي والاجتماعـــي لأنّه يمثّل آليّة بواسطتها تتشكّل العلاقات البشريّة، خاصة من خلال علاقات تبادل المعلومات والأفكار والتّصوّرات. لذلك يعتبر التّواصــــــل بعــــدا رئيسيّــــا في العمليّة التّربويّة وآليّة مركزيّة في تحقيق عمليّة التّوافق والفهم بين مختلف أفراد العائلة. فهو عبارة عن عمليّة اجتماعيّة وتفاعليّة يعتمد فيها على قيم المشاركة بين المرسل والمتقبّل.
   من أبرز المباحث التي اهتمت بمفهوم التّواصل نجد مبحث "أنثربولوجيا الاتّصال". ومن روّاد هذا التّوجّه "غريغوري باتيزون" (Gregory Bateson) (3)الذي أعطى قيمة مساوية لمـــا يحدث بيــــن الأفـــراد من اتّصال كلامي وغير كلامي. إنّ تحليل صيرورات التّفاعل التي تنتج أنظمة التّبادل الثقافي لا يكفي لوصف هذه التّفاعلات وآثارها، بل يجب أخذ "سياق" التّفاعلات أيضا. منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، تطوّرت المقاربة التّفاعليّة التي ترى أنّ معنى الجماعة ناتج عن طبيعة التّفاعلات بين أعضائها.
 لقد أصبح مبدأ "الشّراكة" أو "المبادلة" أساس بناء أي علاقة تواصليّة بين النّاس. وهذه العمليّة التواصلية تتحكّم فيها وضعيّات اجتماعيّة ومناخات للحوار والصراع الدائمين أي إنّ مناخ التّواصل داخل العائلة هو الذي يشكّل ديناميكيّة المجموعة سواء في اتّجاه التّطوّر أو في اتّجاه التّراجع والسّكون والانحلال والتفكّك. فعمليّة الاتّصال داخل العائلة وخارجها ليست عمليّة بسيطة، مثلما يبدو ظاهريّا، بل إنّها تكشف لنا أيضا طبيعة العلاقات القائمة بين الأفراد والمجموعات في مجتمع معيّن. 
 
  2ـ الإعلام : وسيلة للتّواصل الاجتماعي لكنه وسيلة للتفكك العائلي
 
    ممّا لا شكّ فيه أنّ التكنولوجيا الحديثة في مجال الاتصــــالات قد أثّــــــرت في نسق التربية والتواصل في المجتمع منذ بداية هذا القرن. وأصبحت وسائل الاتصال الحديثة مثل "التلفزة" و"الانترنت" و"الهاتف المحمول"  تشكل نواة حضارة المستقبل باعتبارها اخترقت جميع فضاءات المجتمع الخاصة منها والعامة. 
  ونتيجة هذه التحولات العميقة في نسق التواصـــل في المجتمع، ونتيجة تغير الأدوار والعلاقات الاجتماعية لم يعد باستطاعة الأسرة أن تحفظ تماسكها. فلئن حافظت على وجودها كبنية أو هيكل شكلي، فإنّها أصبحت عاجزة على توجيه أعضائها نظرا لقوة الاختراقات الخارجية ولأزمة الولاء داخلها.
   لقـــــد تـــــــــراجـــــع مفهــــوم "التآلــــــف الاجتماعـــــــــي"(la cohésion sociale) داخل الأسرة والمجتمــــع. فالتآلف الاجتماعـــي مثّل في المجتمعات التقليدية آلية يندمج من خلالها الطفل في نسق القيم ، وذلك عبر عمليتي التدريب والاستبطان. " فمن خلال التدريب يتمكن من أن يكتسب اتجاهات سلوكية ومعرفية معينة، وعبر الاستبطان يمكنه أن يستوعـــب ما يصدر عن غيره من تصرفات ومواقف التي تتحول عنده إلى مُثل عليا يستلهم منها سلوكياته (4).
  فهناك تشكل لوضعية عائلية جديدة وظهور حالة من المرونة (flexibilité) الاجتماعية لأنساق الإعلام، وتفكك "وكالات التنشئة الاجتماعية"(5) حتى أصبح الفرد يشعر أنه يعيش في "عالم افتراضي" وغير محسوس. فالتصورات التي تحصل لدى الفـــرد عن العائلة تمر حتما عبر المجموعة الأولى التي ينتمي إليهــــا. ولهذه التصورات أثر كبير في دعم إحساسه بالإنتمــــــاء إليهـــــا. أي أنّ التصوّرات حول الانتماء هي التي تكوّن الشعور بالهويــــة لــــدى الفرد وذلـــــك مــــن خــــلال نظام الاتصالات مع قيــــم المجموعة ومعاييرها. ومن هنا يكــــون الاتصــــال أساس الحياة الاجتماعية.
 وقد ظهرت الدراسات الاجتماعيـــة الأولــــى لفهم مــــا أحدثتـــه هذه الوسائط الاتصالية من تغيرات في حياة الناس وطرائق تواصلهم وتفاعلهم منذ أواخر السبعينيات مــــن القـــرن الماضي. أي منذ أن تحولت وسائل الاتصـــــال الحديثــــة من آليات للإعلام إلى آليات للتنشئة الاجتماعية وأصبحت تنافس دور العائلة والمدرسة. ومن المؤكّد أنّ الأطفال اليوم يكتسبون كثيرا من القيم والسّلوكيات من خلال مشاهدتهم للبرامج والمسلسلات التي تبثها هذه الوسائل. ومن ثم تأثرت بنية العائلة الداخلية وباتت مهددة بالانحلال القيمي والرمزي. وتذهب بعض الأدبيات الحديثة في علم الاجتماع إلى أنّ الإتصال عبر شبكة "الأنترنت" نقلنا إلى زمن ثقافي من "نوع خاص". 
  لقــــد قـــــام عــــالــــم الاجتمـــاع "أنطونــــي جيدنــــس" ( Anthony Giddens) (6) بتلخيص خصائصه الاجتماعية وسماته الثقافية من خلال العناصرالتالية: 
1ـ  التحـــولات الاجتماعيــــة والثقافيـــة الجديـــــدة هي تحولات ذات قوة نابذة وطاردة للأفراد، وذات خصائص ثقافية مشوشة ومضطربة،
2ـ إنّ الأفراد في المجتمعات التــــــي ينتشــــر فيهــــا هذا النـــوع من الاتصالات، هم أفراد مقطوعو الأوصال، بسبب استغراقهم وذوبانهم في خبرات يومية مجزأة ومبعثرة، وتعوزهم الرؤية الشمولية المتماسكة للحياة،
3ـ يشعر الأفراد في هذا النوع من المجتمعات بالعجز وضعف المقاومة وقلة الحيلة في مواجهتها،
4ـ تخلو حياة الأفراد اليومية من أي معنى، بسبب سيادة أنظمة اجتماعية جافة تفتقر إلى الحياة والديناميكيـــة وتعمل على تفريغ حياة الفرد اليومية من مغزاها ودلالتها الاجتماعية الحميمية.
  كما توصّلت بعض الدّراسات (7) إلى وجود تأثير للأنترنت في نسق التفاعل بين أفراد العائلة ويتجلى هذا التراجع من خلال :
 1ـ تراجع عدد الزيارات للأقارب،
2ـ تراجع في ممارسة بعض الأنشطة الترفيهية والاجتماعية بين أفراد العائلة،
3ـ توسيع شبكة العلاقات الاجتماعيــــة "الألكترونية" أو "الافتراضية" في مقابل تراجع العلاقات العائلية واغتراب الأفراد عن مجتمعهم المحلي.
    فمن تأثيرات الإعلام السلبية في نسيج الروابط والعلاقات الأسرية والاجتماعية هي تراجع ثقافة التواصل والحوار. خاصة في ظل ظاهرة العولمــــة التي تعتبر حسب البعض أساسا ظاهرة إعلامية واتصالية (8). كما أثبتت مختلف الدراسات(9) قوة تأثير التلفزة في مجتمعنا المعاصر ودورها الفاعــــل في التفكك الاجتماعي.  فهذه الوسائل التكنولوجية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تغير العلاقات الداخلية للعائلة. ويكفي أن ننظر في مضامين البرامــــــج والمسلســـلات والرسائل التي تنتجهــــــا هذه الوسائل التي زادت من حالات التوتر والقطيعة بين أفراد العائلة وازدادت هذه الوضعية تفاقما عندما أصبحت الرقابة على هذه الوسائل ضئيلة أو منعدمة. إذ يرى البعــــــض أن شبكـــــة "الأنترنــــت" ساهمت في تفتيت العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة وحولت قوتها الحميمية إلى فتور وبرود، خاصة لما يكون الخطاب الإعلامي متعارضا مع ثوابت العائلة وقيمها. ولم يعد مستساغا اليوم، مثلما يذهب البعض أن يستهلك الطفل العربي صور العنف والقتل والجنس "المستباح" بدون وعي بخطورتها وإدراك لتأثيراتها" (10) السلبية على بنية العائلة وطبيعة العلاقات فيها.
  وقد أثبتت عديد الدراسات أن لوسائل الاتصال دور في التفكك الأسري في مجتمعنا المعاصر على الرغم من ايجابياتها. ففي دراسة قام بها عدد من الباحثين الأمريكيين في السنوات الأخيرة على مستخدمي "الأنترنت" كان من أبرز نتائجها تراجع التواصل الأسري وتضاؤل شعور الفرد بالمساندة الاجتماعية والنفسية من جانب المقربين له. وهكذا أصبحت التنشئة الأسرية هشة ومحدودة بحكم اتساع شبكة الاتصال والإعلام المعاصرة التي ساهمت في تفكك الروابط الاجتماعية. فكيف يكون حال الأسرة مع تنامي دور هذه الوسائل إلى حد التحكم في التنشئة الاجتماعية والسياسية ؟
  إن المجتمـــع الــــذي سيخرج سالما من هذه التغيرات العميقة التي جاءت في شكل طفرة، والتي لم سبق لها مثيلا، هو المجتمع الذي سيحافظ على قيمه ويحصن لغته ودينه وثقافته من الاختراق الخارجي أي هو المجتمع الذي سيدافع عن انتماءه وهويته ويحافظ على تماسكه الداخلي.
 
3ـ تأثير الخطاب الإعلامي
في الفعل التّربوي للعائلة
 
  مــــن المسائـــل الجديــــرة بالبحث هي علاقة الإعلام بالتربية داخل العائلة باعتبار أن هذه الوسائل أصبحـــت الأدوات الرئيسيــــة في ما يسميه البعض بـ "البيداغوجيا الاجتماعية"(11) أي نمط التثقيف العام والمشترك. وهي من أكثر الأدوات تأثيرا في نسق التواصل العائلي، إلى جانب أنّها أصبحت ذات تأثير في الوعي العام لأنها على صلة مباشرة بالواقع والمجتمع. فـ"الأنترنت" مثلا، أصبحت اليوم أكثر قدرة على مخاطبة الشباب والتأثير فيهم(12). ومن هنا تطرح إشكالية حول دور المضامين الفكرية والثقافية الإعلامية في تنشئة الطفل بشكل خاص وفي تفكك العلاقات الأسرية بشكل عام. 
  لم تعد وظيفة الإعلام تتوقّف على نقل الخبر أو المعلومة بين الباث والمتقبّل، بل أصبح من أهمّ وسائل التّأثير في المجتمع وتشكيل مواقفه واتّجاهاته أو تغييرها. إذ إنّ لوسائل الإعــــلام والاتّصـــال على اختــــلاف أصنافهــــا (المقروءة، المسموعة، المرئيّة...) أهمّية كبيرة في تشكيل المواقف والاتّجاهـــــات والأيديولوجيّـــات، خاصّة في المجتمعـــــات النّاميــــة. فالخطاب الإعلامي التّلفزيونـــي أو الصّحفــــي لم يعــــد يقدّم بنيـــــة النّــــص وخلفيّاتـــه فقــــط، وإنّمـــا يستهدف تشكيل بنية القيم والمواقف والمعايير وإعادة تشكيل وعي النّاس.
  ففي ظلّ ما يشهده المجتمع من تحوّل شامل لم تعد فيه المدرسة العائلة الوحيدة المسؤولة عن التّربية والتّعليم. وبالتّالي فالتّعليم "الرّسمي" لم يعد يمثّل مجمل العمليّة التّربويّة ولا تمثّل أهدافه النّهائيّة خلاصة تلك العمليّة. فأشكال التّربية "غير الرّسمية" أصبحت ذات تأثير كبير علـــــى مســــارات التّنشئــــة الاجتماعيّـــة. بل أصبح هناك تناقضا بين أهداف العائلة وبين أهداف المؤسّسات الإعلامية وانعداما في التّكامل بينها. هذا التّناقض يمثّل ظاهرة ذات آثار سلبية تطال مستقبل العائلة والمجتمع معا.
  هكذا، لم تعد التّربية عمليّة رسميّة ومنظّمة تتولاّها مؤسّسات معيّنة، وإنّما هي أيضا عمليّة غير رسميّة – أو لاشكليّة - تقوم بها عدّة مؤسّسات أخرى مثل أجهزة الإعلام والمنظّمات والشّارع والأقران..الخ. لذلك وجدت العائلة نفسها أمام سيلان جارف من الضّغوطات الدّاخليّة والخارجيّة. وبالتّالـــــي أصبحت عاجـــزة حتى عن حماية نفسها من تأثيرات ما يمكن أن نسميهم بـ "الفاعليــــن التّربويّيــــن الجـــــدد". وهذه الظاهرة أدّت إلى ما يمكن أن نسمّيه بظاهرة "أزمة المشروعيّة" (crise de légitimité) في التنشئة الاجتماعية وانتشار الضّبابيّة والهامشيّة في الدّور التّربوي للعائلة. أي أصبحت هذه المؤسّسة غير فاعلة في بناء شخصيّة الطّفل الأساسيّة من خلال تراجع دورها في رقابته وتوجيهه وفق مبادئها وقيمها المميّزة. وهذا الوضع أنتج إرباكا عميقا لدى الأطفال وبخاصّة لدى المراهقين منهم، بشأن الأنماط السّلوكيّة المقبولة اجتماعيّا واخلاقيا. هل هي ما تقدّمه العائلــــة أم هي ما يتلقّاه من خلال وسائل الإعلام ومن "الرّأي العام"؟
  إذا، أصبح للصّورة الالكترونية المنشورة أو الكلمة المبثوثة عبر وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة والمقـــروءة، تأثيــــرا كبيــــرا علـــى الجيـــل الجديد، الذي تتجاذبــــه ثقافـــــات متنوّعــــة و"متناقضــــة" فـــــي مــــــا بينهــــــا. هــــذا التّجـــاذب والتّنــــــازع بين ما هو "أصيل" من العائلة، وما هو "دخيـــــل" من الشّارع أنتج نظاما من القيم المشوّه لا هو بالأصيل ولا هو بالدّخيــــل. فـــإذا كانت الآثــــار السّلبيّة للعولمة شاملة، فإنّ أخطرها يظهر لدى الطّفل باعتباره ما يزال في طور النّشأة وتكوّن شخصيّته القاعدية، وباعتباره سريع التّأثّر أكثر من غيره بثقافة الصّورة التي أصبح  لها نفوذ وسلطة  تمكّنها من تقديم مادّتها الإعلاميّــــة في قالـــــب مشــــوّق ويقارب عتبــة المتعـــة(13).وبخاصّـــة بعــــض البرامج التّلفزيّة التي أصبح معظمها مستوردا يقدّم نماذج تربويّة ترسّخ قيمــــا وأنماطا سلوكيّــــة بعيــــدة عن أهداف العائلة. وبما إنّ التّلفــــزة ذات قــــدرة فائقـــــة علـــــى النّفــاذ إلى كلّ البيوت، فإنّها أصبحت قادرة على تشكيل الذّهنيّـــات وإعـــــادة إنتــــاج المجتمــــع والتّحكّــــم في وتائره الاستهلاكيّة وفي توجّهاته الرّاهنة والمستقبليّة(14). 
    ولكن يظل للمناخ العائلي دورا أساسيا في تحصين الأبناء ضد الانحراف والعنف أو الفشل الدراسي. فمستوى ثقافة الوالدين ودرجة اهتمامهما وتواصلهما مع الأبناء تساعدهـــــــم علــــى تجــــاوز المشاكــــل التـــــــي تعترضهـــم. ويساهـــم المنــــاخ الأســــري على التعامل الإيجابــــي والسليــم (ثقافــــة الحـوار) بين أفرادها فضلا عن الرعاية والتوجيه، كلها ظروف تؤدي إلى تحقيق ما يسمى بـ"التوافق الاجتماعي". وشكل العلاقات والأحداث التي يتعرض لها الطفل في المرحلة العمرية المبكرة تقوم بدور هام في بناء شخصيته. والبيئة العائلية هي التي تحميه من حالات الاكتئاب والاضطرابات النفسية والتأخر الدراسي وتحميه من حالات الانحراف في مختلف أشكاله. فقد أكدت بعض الدراسات العربية والغربية العلاقة الواضحة بين انتشار العنف في الوسط العائلي وانخفاض المستوى الدراسي للأبنـــاء. وقد ذهب "شارل كولـــــي" ( Charles Cooley)إلــــى القــــول بأنّه مثلما يتشكل الوجود البيولوجي للإنسان في رحم الأم يتشكل الوجود الاجتماعي للطفل في رحم الأسرة وحضنها، والأسرة المضطربة تنتج أطفالا مضطربين، وأن أكثر اضطرابات الأطفــــال ما هي إلا عارض من أعراض اضطرابـــات الأســـــرة المتمثلـــة في الظروف غير المناسبة في التنشئة الاجتماعية"(15).
  فالعلاقات الحوارية والمتسامحة مع الأطفال تساعدهم على النمو الفكري والعضلي السليم. وقد بيّنت عديد الدراسات أن النمو الخلقي واتجاهات الفرد واعتقاداته تتأثر بشكل كبير بأسلوب التنشئـــة. وكما يتأثر الطفل بشكل العلاقة الأسرية القائمة مثل البيئة التسلطية التي تعيق نموه أي أن التنشئة السليمة تساعده على التكيف الاجتماعي وفي نجاحه في بناء علاقات جيدة خارج المنزل، خاصة وأنّ مجتمعنا العربي انتقل من مرحلة حـق "الأبوة على الطفـــل" إلى حق "البنوة للطفل" (16) ، وهي المرحلة التي تغيرت فيها العلاقة بين الأبوين والأبناء ولم يعد من حق الأبويــــن التعامــــل مع أبنائهم وفق منطق التسلط أي ممارسة سلطة الكهل الرّاشد مقابل خضوع الطفل وسلبيته. فهذه النظرة التقليدية بدأت تتغير تدريجيا منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وأصبح من حق الأطفال على الآباء أن يوفروا لهم البيئــــــة الأسريـــــة السليمـــة حتى ينشأوا فيها بشكل سليم. وبالتّالي، فإنّ المطلوب من العائلــــة في مجتمعنا العربي اليوم، هو تنظيم طرق التعامل مع هذه الوسائل حتى تظل علاقاتنا وتعاملنا معها متوازنة بينهـــــا وبين علاقاتنـــا مع أفراد العائلة وتواصلنا معهم.
 
الخاتمة
 
   لقد نجحت وسائل الإعلام المختلفــــة حسب عديــــد الباحثيــــن، في القيام بدور أساسي وجوهري في صياغة القيم الثقافيّة والاجتماعيّة الجديدة. كما غيّرت في الكثير من سلوكيات الشّباب العربي وأثّرت في أسلوب حياتهم في العائلــــة وفـــــي المجتمـــــع. وبالتالي أصبح يعيش حالة ضياع وتمزّق - نفسي واجتماعي- نتيجة تناقض وتصادم القيم التي تتعايش داخله. 
وانتقلت البيئة الأسرية من حالة تجاهل للحوار في ثقافتها الاجتماعية في العقود الماضية نتيجة مناخ الاستبداد الذي كان قائما، إلى حالة القطيعة في التواصل في ظل العولمة. لقد بات متأكدا أن إدمان أفراد العائلة على وسائل الاتصال ليس أمرا ايجابيا دائما على مستوى المناخ التواصلي العائلي، بل أصبح يمثل أحد التحديات التي تهدد سلطتها ودورها في التنشئة الاجتماعية. 
 
الهوامش
 
(1) Peter Golding,
«The Mass media», 3 ed, London, longman, 1979, p. 78.
(2)Jean Lohisse,
«Systemes de communication, approche socio-anthropologique», Paris, Armand Colin, Masson, 1998, pp. 8-9.
(3) دنيس كوش،
مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة منير السعيداني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2007، ص87.
(4) جون بيار هوغ وآخرون،
الجماعة والسلطة والاتصال، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1996، ص 40.
(5) Alain Touraine,
«Un nouveau paradigme pour comprendre le monde contemporin», p.10.
(6)Anthony Giddens,
« The consequences of Modernity», Cambridge, 1990, p. 150.
(7)حلمي خضر ساري،
”تأثير الاتصال عبر الأنترنت في العلاقات الاجتماعية، دراسة ميدانية في المجتمع القطري“، مجلة جامعة دمشق، المجلد 24، العدد الأول ـ الثاني، 2008.
(8)Ignocio Ramonet,
« Tyramie de la communication», Paris, 1999, p.57.
(9)Cf. Rémy Rieffel,
« Sociologie des médias» ,Paris, Ellipses Eds, 2001.
(10)المنصف وناس،
”التلفزة ليست الصربون، علاقة المدرسة بالتلفزة في مرحلة العولمة“ أي علاقة؟، مجلة الاذاعات العربية عدد 02، 2005، تصدر عن اتحاد الاذاعات العربية، ص ص 37ـ38.
(11)المنصف وناس،
” التلفزة ليست الصربون، علاقة المدرسة بالتلفزة في مرحلة العولمة“ أي علاقة؟، مجلة الاذاعات العربية عدد 02، 2005، تصدر عن اتحاد الاذاعات العربية، ص 34.
(12)Luc Cedelle,
 « Concurrence deployable », in, Le monde de l’Education, n°308, Novembre 2002, p.25.
(13) عبد الاله بلقزيز،
”في البدء كانت الثقافة“، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1988، ص121.
(14) المنصف ونّاس،
”التلفزة وتحيات التنشئة الاجتماعية“، من سلسلة: اتحاد اذاعات الدول العربية، الاذاعات العربية، عدد1، 2000، ص10.
(15) ورد في ، سهير كامل أحمد، أساليب تربية الطفل بين النظرية والتطبيق، مركز الأسكندرية للكتاب، مصر، 1999، ص 13.
(16) Françoise Hurstel,
 «La function paternelle aujourd’hui, problémes de théorie et questions d’actualité, Enfance, Tome 40, N 1-2, pp.167-179.»
 
———————-