زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
نعم الديمقراطية في مجلس مدينتنا

 في إطار متابعة أعماله المكثفة ولقاءاته المراطونية، انعقد بتونس اجتماع دوري لمجلس المدينة قصد النظر في مشاكل المواطنين ومتابعة شؤونهم.

أخذ رئيس المجلس مكانــــه في الصّــــدارة، وخطب في الأعضاء بمهــــارة، فرحّـــب بالحاضريـــن المثابريــــن، وشكر الداعمين المآزريــــــــن، وعاتــــب الغائبيــــــــن المتقاعسيـــن، ونبّــــــــه إلى مناورات المعارضين وخطر أعــــداء الثــــورة المتربصيـــن، وذكّر بواجب السهر على شؤون الناس المختلفة، ودعا إلى حسن التدبير وجودة التسيير، وحثّ على التضحية في سبيلهم بالمال الوفير والجهد الكبير لأن ذلك من المبادئ الفاضلة والوطنية الصادقــــــة.
 ثم عرض على المجلس مشكلة مؤرقة طالما تذمّر منها مواطنون كثيـــرون، واستغلهــــا في التشكيك سياسيون فاشلون، ثم فصّل القول ليبلّغ المعنى فقال:
"لقد تهرّأتْ طرقاتنــــا، وتآكلت ممرّاتنــــا، وحــــريّ بنا أن نشرع في المحادثة، ونبدأ في المباحثة لنهتدي إلى سبيل قويم في المقاربة والمعالجة. فكلنا يعلم موضــــوع الوهــــدة المتجرّفـــة الواقعــــة على الطريق الرئيسية داخل مدينتنا المكتظة بالمارّة وبوسائل النقل المختلفة.
هي وهدة كما كنتم قد علمتم حجمها كبير وعمقها خطير. كلما مرّت عليها العربات ارتجّتْ فارتطمتْ، وانقلبتْ فتحطّمتْ، ونزفتْ دماء زكية وأُزهِقتْ أرواح بريئة.
 فماذا تقترحون أيّها النواب الأفاضل؟
 وبماذا تشيرون لحلّ هذه المعضلة وفضّ هذه المشكلة؟"
رفع أحد الأعضاء يده واسترسل في مداخلته بالقول:
" إنّ الوهدة سيئة الذّكر قد تسبّبتْ في حوادث عديدة ذهب ضحيتها عشرات الأبرياء، ولا بُدّ لها من تدخّل فاعل وحلّ عاجل، ولستُ أرى في علاجها غير ردمها بعناية وتعبيدها بدرايــــة، لتصبـــح عصيّة على التحفير والتجريف". 
وحالمـــا أنهـــى كلامــــه تدخّــــل عضــــو ثــــان، فأثنــــــــــــى على روح التفانـــي التـــي تميــــز بهــــــا المجلــــس في السهــــر علــــــى شـــــؤون المواطنيــــن، وأكــــد علـــــى ضرورة تجديد كافــــة طرقـــــات المدينــــة ومعابرهــــا التي أصابها لقدمها كثير من التآكل والتجرّف، وأوصى بالابتعاد عن سياسة الترميم والحلول الوقتية، ودعّــــم كلامه في الجد والإتقان بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
 "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"
وندّد بإعلام العار بصفته متنكّرا لإنجازات المجلس، وبوقا لأعداء الثورة، وحِصنا لرموز النظام البائد الذين يتربصون بالمسار الثوري لإعاقة الانتقال الديمقراطي والعودة بالتونسيين إلى مربع الديكتاتورية البغيض.
 ثم رفــــع متدخــــل ثالــــث يـــــده، واسترســـــل في التذكير بواجب المجلــــس وبمسؤولياتـــــه فــــي حســـــم مــــــا يعتــــرض سكـــــان المدينــــة مـــــن مشاكل، وما يعتريهم من صعوبات، وأوصــــى بضــــرورة التحلــــي بالنظرة الثاقبة والرؤية الشاملة عند طــــرح الحلــــول المناسبــــة واستشـــراف الآفاق المشرقة. وخلص إلى القول بضرورة بناء مصحّة استعجالية مجهزة بأحدث الآلات الطبية غير بعيد عن موضع الوهدة المهلكة لاصطياد عصفورين بحجر واحد، في أن يصبح التدخل الطبي لنجدة المصابين عند وقوع الحوادث المرورية سريعا وناجعا، وفي أن ينضاف مركز صحي جديد إلى قائمة مستشفياتنا التي تعاني من الاكتظاظ ورداءة الخدمات.
 ونــــوّه فـــي خاتمــــة كلامه بمدى صبر المواطنين على الشدائد وتحمّلهم للمشاق، وترحّـــم علـــــى شهــــداء الوهــــدة المشؤومة، وطالب بالتعويض لهم وإيلائهــــم المكانــــــة التــــي تليــــق بهــــم، وألحّ على ضرورة التعجيـــــل بتنفيــــذ الإصلاحــــات الضروريــــة قبل أن ينتفض الناس بعفويتهم، أو بتحريض من نقابات عمّالية معادية وأطراف سياسية متطرفة.
وفي مداخلة أخرى شكك أحـــد النــــــواب في حسن نوايا المجلس، وفـــي مـــدى قدرتــــه على معالجة مشكلات المواطن وتحقيق أحلامه في الحرية والكرامــــة والرفـــاه، ودعا في نهاية المطاف إلى حل المجلس الحالي، وتنظيم انتخابات جديدة من شأنها أن تقطع الطريق على الانتهازيين والظلاميين ووكلاء الاستعمار وأذناب الاستبداد.
بعد ذلك توالـــتْ مداخــــلات الأعضــــاء، وتراوحـــتْ مواقفهــــم، بيـــــن داعــــم للــــرأي الأول، وداعــــم للرأي الثاني، وداعم للرأي الثالث.
 وبدا الخلاف حول ذلك عميقا والتشاحن عقيما، فاضطر رئيس المجلس إلى التصويت بمن حضر من الأعضاء على الحلول المقترحة، تكريسا لمبدإ الديمقراطية الذي أملته ثورة الرابع عشر من جانفي، فحاز الاقتراح الأول على نسبـــــة على نسبــــة 27٪ والرأي الثاني على نسبة 13٪ والرأي الثالث على نسبـــــة 45٪ في حين تحفّظ على المقترحات الثلاثـــــة 4٪ واعترض عليها 6٪ من مجموع المصوّتين. 
وهكــــذا حُسِــــم الخــــلاف بأغلبيــــة الأصـــوات، ووقــــع إقرار مبدإ إنشاء المصحــــة المنقــــذة مــــــن الوهـــــــدة المهلكــــــة، وأشادت أغلبية الأعضــــاء بالمنــــاخ الديمقراطي للمجلس، وبقدرتهم على إدارة خلافاتهم بمـــــا يعــــود بالفائدة على الوطن والمواطن، وختموا اجتماعهم بعزمهــــم علـــــى متابعــــة إجراءات التخطيط والتنفيذ.
في هذه الآونة التفت إليّ صديق كان يجالسني متابعا سير المداولات ومجرى المداخلات ثم تبسم وقال:
نِعْمَ الديمقراطيةُ في مجلس مدينتنا!
ونِعْمَ قراراتُ الأغلبية في حلّ مشاكلنا!
وأضاف:
"بــــدون التوافــــق وتوسيــــع المشاركــــة في مثل هذه المرحلة، تظل الأغلبيـــــة محكومــــة بجاذبيــــة التسلّـــط والعجــــز في إدارة الشأن الوطني".
وما كاد ينهي تعليقه البليغ ونقده الصريح حتّى توقفتِ الرؤيا، وتلاشى الحلـــــم، فعــــدتُ إلــــى يقظتي، وتأملتُ في أمري، وقلتُ في نفسي:
"ما أشبه ما ألقاه في منامي بما أحياه في واقع أيامي"
واستحضرتُ قولة الكاتب المسرحي جورج برنادشو:
 "مأساة العالم الذي نعيش فيه تكمن في أنّ السلطة كثيرا ما تستقرّ في أيدي العاجزين"