كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
السجون في تونس

 السجون، في وطني السجين، بين جدران الذاكرة، ذاكرة أفراد وفئات ومجموعات، وبين جدار الصمت، المطبق، على الآفات والتشوّهات، والهروب المستمر، من تقديم إجابات وتوضيحات، لشعب، ذاق بين الجدران، ألوانا من العذابات والإهانات والتشويه المتعمد للذات.

كم ...على جدرانها سفكت دماء، ولا نامت، أعين المفرغين من عبق الحياة.
والسجّان، من هناك، بل قل من أمامك، ومن ورائك، وفي ذاكرتك، يتفنّن، في إذاقتك، ألوانا شتى، من العذابات، وبمازوشية، ليست لها بدايات ولا  نهايات.
جدار... وراء جدار، وراءه جدار، وراءه جدران، وصمت... بعده صمت، وقبله صمت، وداخله، أوجاع وآلام وآهات.
عنف... داخلي، باطني يستوطن الذات ويستعمر الفؤاد، ولا يجد تنفيسا له، إلا على سرير حديدي، عليه خرق من بقايا أنفاس، تعود بنا إلى العهد الروماني ، ومنــه شفـــرة، من حديـــد، تلتحم مع العظام التي كسيت لحما، يغذى بماء سائل كان يغلي في قدر، به بعض حبات الحمص أو الفاصوليا.
انسداد... لشرايين البصيرة والبصر، تمنع عن السجين رؤية الزرقة، في سماء الوطن والخضرة في أرض الأمل، وملامسة الماء على شواطئ الخيال .
غربة... في الوطن، عن الوطن، وغربة الذات، عن الذات الملتهبة، بشظايا الجسد المعذب في أقفاص من حجر صقل الألم، بتركيز عالي لم نبصره إلا في هذا الزمن.
آه... من، بقايا الروح، التي منعت، على امتداد دولــة الاستقــلال، من العزف مع القمر. كم... من شهيد، سقى دمه أشجار الوطن، وكم... من معذب، نمت على جروحه أوسمة الدجل، وكم...من مفارق، انتهكت إنسانيته وسدت له، مداخله ومخارجه، وحطمت فيه كل مقومات الكرامة، والوقوف أمام ذاته، من غير وجل، حتى، إن سافر، خارج أسوار الأمكنة و الزمن، إلـــــى أحضـــان الأحبــة في حدائق الأحلام... بالوطن ، ارجع قسرا،  حارقا، دون أوراق هوية، لذاتٍ ُصفدت بأغلال من فساد وقمع واستبداد.
 وبين جدرانك، سجني، الأعمى وبلا بصيرة، سحق جسدي، وهتك عرضي، وسلبت مني أحرفي، وأحرقت في زنازينك كتبي وأحلامي، وعلى نخبك يا وطني، أذكِرك بالقلاع التي أقيمت، والأسوار التي شيّدت على أديمك، بدماء مواطنيك ومن ثرواتك وثروات أبنائك، والأجيال اللاحقة. لا لتنمية ولا لتصنيعٍ ولا لأبراج الإطلال على مستقبل أفضل، ولا لبنيةٍ تحتاجها حداثتك، وإنما... ليُحشر فيها، كل من خالف الرأي، رأي سلطانك وحاشيته، وحاشية شهر زاده، ودوائر السحرة واللصوص، التي اجتمعت  حواليهما، وليتركوك يوم الزئير، ويفروا كجرذان، مذعورة من صورك الباقية، على سحنات المعذبين في شوارعك.  
و أضع أمامك وطني، دفاتر من تنقل، بين فقاقيع الظلام، وكهوف السجان، ومن تنكّر له،  ذوي القربـــى والخـــلان، وتآمــر عليــه، من اختلف معهم في ساحات الميــدان، بعـــد تواطـــؤ مفضــوح مع" أبو سمير" السجان، وبعد أن ضاقـــت أحلامــه، وسرقت، وهو جالس أمام أبوابك، أمانيه وأمواله.  
وكل مساااااء ...وهـــو مستلقـــي، يعدّ النجــوم ويستنبــئ القدر، متى يستنشق رائحة وطن، من شذى عطِر وردٍ، سقي بدموعِ ثكالى، وأيتامٍ ومعذباتٍ، أمهات وأحبّة أخوات، ودموع من سهر الليالي، يئنّ، من الفراق والضياع وألام الجياع، ويكتم غيضه خوفا من أن يفضحه توتره، وجزعه أمام عسّس من رهنوك، يا خير وطن. 
وكل يوم... وذريّتك تنمو، وأنا احلم معهم، بصبح لك، تتحول فيه، السجون فيك والمعتقلات، إلى متاحف، تكون شاهدةً، وشهيدةُ تشُبعِ ذاكرةٍ، ذاكرة المخاضات والولادات،المتتالية والمتعددة لك، وإخفاقات وفشل، مشاريع وتجارب، استنبتت فوق جسدك، المُشوَه بسياط جلادك، والموعود بدخول جنان المساواة والحداثة والتقدم.
وأماني...إن سمح لها ، لم تكن بتهديم...9 افر يلك... لتغيير مسارٍ، وإحداث تاريخٍ، وتغييرها، بأشجارٍ، عساها تمتص دماء ودموعا، وعذاباتٍ، وكي تخفي بين أوراقها، سوءات وأفعال، من مروا أمام تاريخك كأنذل قرصان، ولكن بتركها جدرانا، تخبر الأجيال الآتية، بسنوات الجمر ...
وهذه... وطني، طائفة من سجونك، ونماذج...ونترك نخبة أخرى تسكن تخوم ذاكرة جريحة بسياط، من تسيّدوا عليك، وكانوا كفئران المستنقعات، عندما فاضت شوارعك بأحفاد الأمل.
- سجن غار الملح : ذابت كهوفه، كما يُذاب الملح الأبيض المتوسط، وشهدت جدرانه، عذابات المستعمر، وأرخت لعذاباتِ دولة ما بعد الاستقلال. 
- سجن الناظور: كان ثكنة، فيما مضى ...وبحكمة الدولة المستقلة، رأت أن الأفضل، أن تصبح الثكنة سجنا لاستيعاب الفائض عن النصاب، بعد تحرّر الطاقات في الإنجاب والاختلاف في الإبداع، وهي طريقة مثلى،في شرقنا، لتحديد نسلِ ما بعد الولادة.
- سجن برج الرومي : وما أدراك ما برج الرومي.....رواية ، بذاكرة وتاريخ وطن، قُدِمَ أبناءه، فداءا، لجلاءٍ، أنجب لنا، استبدادا... حداثي، ولمن يريد الاطلاع على السجن أكثر، دون أن يلجه، عليه بالمرور أمام ذاكرة سمير ساسي. 
- سجن 9 افريل : أسالك، يا سجني ويا سجاني، هل الأشجار، التي غرست مكانك ستخفي سوءاتك، فالتاريخ رواية ذاكرة وتفاعلِ أحداث، وليست فقط شواهد جدران .
- سجن المرناقية : من ابرز وأهم المؤسسات العملاقة والحديثة، التي بناها فراعنة الدولة النوفمبرية ،للاستثمار في أجساد البشر، وأفئدة الأمهات"أمهات تونس الحقيقيين"، ومباهاة الأمم المتقدمة في ذلك .
وسجون أخرى...على أرضك وطني، سنذكرها، و بتفصيلٍ لاحقا، وهي كل من سجن :القصرين ،سيدي بوزيد، القيروان، سوسة، قابس ،صفاقس، قفصة، حربوب، باجة، صواف، مرناق، قرنبالية، المهدية، المسعدين ،المنستير، برج العامري، الكاف، الهوارب، سليانة ،بنزرت، وكلها، بثور على جسدك، مازالت قائمة بما يطلبه   السلطان منها، ُيسحق فيها حلمك، كل يوم ،على مسمع من كل الديكة، وأمام، ثورة شعب، ركبها الدجالون الجدد، وساقوها في اتجاه معاكس، حيث السحرة ورجال المال في مغاوير السهر ... وفي سجونك... هذه، ُيقتل من يسرق خبزة ًويكرم من يسرق وطن ...
أما معتقلاتك.................... فلها ،مني، حبر آخر ...