في النفس والمجتمع

بقلم
عادل دمّق
مـــــن العقـــــلانــــي؟

 كثر الحديث عن العقل والعقلانية وهذا أمر طبيعي من الإنسان العاقل. ولكن الذي يدعو إلى التفكير هو أن الأمر صار إلى إقامة قطيعة بين العقل والوحي، بين العقلاني والمؤمــــن، بين المدني والدينيّ. بل إن الأمــــر آل إلــــى الدعـــوة إلى الاعتماد الكلّي على العقـــــل والاستبعاد الحاسم للوحي. والســــؤال الذي أطرح لا يتناول مشروعيّة الاعتماد على العقل وإنما ينصبّ على مدى عقلانية العقلانــــي، خاصــــــة بعـــد أن فنّد العلـــــم العقلانية فـــــــــي كـــــل المجــــالات وبيّـــــن أنّ العقــــل أداة ليس إلا وأنّ كلّ انجازاتــــه مسخّرة لأهــــداف خارجة عن دائرته. فالأفكار أوهام تخدعها بها الرغبة (فرويد) أو المصلحة (ماركس) أو الغلّ (نيتشه).

و تعرية الأوهام من صبغة الحق التي يلصقها بها تمويها العقل المخــــدوع، هي واجب العلم الموضوعي والدّين الخالص(1).
فالإنسان أسير الغرائز والمصالح والأهواء (2) والأحقاد والعقد. وتتخذ هذه العبودية في وعي الإنسان الزائف مسوح العقلانية وهذا ما سبق التنزيل إلى  تأكيده والتحذير منه. ”أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا“ (الفرقان 43-44) .
فالإنســـــــــــــان لا ينشــــط إلا استجابـــــة لدافـــــع.. لــــداع.. وهذا الدافع كثيرا ما يكون الهـــوى. والعقل في حاجة ضرورية إلى موجّــــه... إلى مرشــــد ونقرأ في التنزيـــل. ” ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ“(الجاثية 18). 
” فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُـــدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ“(القصص 50). 
” بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ“ (المؤمنون 70-71). 
يتأسس العلم إذا كلما انتفى تأثير الذات، والصبغة العلمية تقضي نفي الذاتيـــة، والذاتية هي أصــل البدع (الأدلوجــــة).
والسؤال هو كيـــــف نميّز بين العلم والأدولجة (المذهب البدعي)؟. بيّـــــن الفكــــر الماركسي (لوكاتـــش بعد ماركــــس) ”إن الوعي البروليتاري هو ضمان العلـــــم الصحيـــح الذي يتجاوز الظاهـــر ويكتشــــف عــــن كنــــه الأشيـــاء“ (3). في الواقـــــع أن ماركس لم يكن ماركسيا ذلك انه لم يتبع مقدمات تحليله بما ترفضه من نتائج خطيرة وحاسمة: الإنسان لا يؤتمن على إنشاء القوانين والأخلاق ولا على وضع القيم والمعايير. ذلك إن الماركسية تقرّر ”أنّ أفكار الطبقة الحاكمة هي في كل عصر من العصور الأفكار السائدة والطبقة التي تتصرف بوسائل الإنتاج المادي تتصرف في الوقت نفسه بوسائل الإنتاج الفكري حتى أنها تخضع لها في الوقت نفسه وبصورة وسطية أفكار أولئك الذين هم محرومون من وسائل التعبير الفكري... إنّ الأفكار السائدة ليست إلا التعبير الفكري عن الشروط المادية السائدة“(4) . ولكنها لا تطبق هذا الحكم على ذاتها و تبرّر ذلك (بالمعنى الفرويدي للكلمة) بادّعاء أنّ ”البروليتاريا“ طبقة كونية بمعنى أنها لا تمثّل طبقة جديدة مثل الطبقات السابقة بل تمثّل انحلال هذه الطبقات وذوبانها فيها. إلا أنّ هذا الحكم ميتافيزيقـــــي، لأن الواقع المشاهد هو أنّ الشغّالين يمثلّون طبقة بجانب الطبقات الأخرى(5).
إنّ التحليل الماركسي يفضي بنا إلى استدعاء مصدر ”ميتاإنساني“ méta-humain  ( مادام مشروطا حتما بأوضاعه المادية و دوافعه النفسيـــــة). وهذا هو بالتحديــــد دور التنزيــــل ”قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ “ (يونس 108) .
”وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ“ (الرعد 1).
”وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ“ ( الإسراء 82).
”لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً“ (البيّنة 1-2).
الذين كفروا: ”الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ“ (ابراهيم 3)
الكافر هو الإنسان الذي فقد إنسانيته (المستلب).
منفكّين: متحرّرين ” يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ “ (الاعراف 157)
”اللّهُ وَلِـــــيُّ الَّذِيــــنَ آمَنُـــــــواْ يُخْرِجُهُــــــــــم مِّــــنَ الظُّلُمَــــاتِ إِلَى النُّوُرِ“ (البقرة 257).
مطهرة: منزّهة من تأثير الـــذات بدافــــع الرغبــــة أو المصلحـــة أو أيّ انفعال.
 إن الاستجابة لله إذا هي طريق العلم والعقلانية. ويخاطب الله يوم الدين ضحايا العقلانية المزيفة ”وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ“ (يس 62).
ويخبرنا التنزيل عن مقال الكافرين يوم البعث. ”وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ“. (الملك 10 ). ونقرأ هذا التقرير الحاسم: ” إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ“ (الملك 20).
ونقرأ هذا البيان القاطع ”وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ“ (البقرة 171).
فالعقلانية في أتمّ صورها لا تتحقّق إلا بالتوحيد الخالص. فكلما زاد الفرد إخلاصا في توحيد الله وعبادته كلما ازدادت حرّيته من سلطان المعايير الذاتية أيّا كان مصدرها ، ومن ثمّ يتحقق له امتلاك معيار القيم وهو الحق وغاية الطموحات وهو تحقيق إنسانية الإنسان.
”يشكّل تعويض المرء إلى الله أسمى مظهر للحرية إذ أنه يخلص الإنسان من نزوعه للتكاثر والسيطرة ومن أوثان اللّهو والجنس، أنّه يقتضي من الناس ألاّ يشغلهم السّعي عن أن يتذكّروا دائما النشأة الأولى والمصير المحتوم"(6).
و ينبّه الغزالي ”فإن قلت نرى العقلاء يغلطون في أنظارهم فاعلم أنّ خيالاتهم وأوهامهم قد تحكم باعتقادات يظنّون أنّها أحكام العقل فالغلط منسوب إليها. فأما العقل إذا تجرّد من غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط بل يرى الأشياء على ما عليها، وفي تجريده عسر عظيم وأنّما يكمل تجرّده بعد الموت(7).
” يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا“ " (النبأ 40).
و كون الدليل شرعيا لا يقابل بكونه عقليا وإنما يقابل بكونه بدعيّا... إنّ البدعة تقابل الشرع ”فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ“ (القصص 50).
و أكّد رودنسون ”إننا نجد في القرآن تمييزا واضحا جدّا ما بين المعرفة العقلية و بين المعرفة الحدسية التي تتم عن طريق القلب. أعتقد أنّه لا يوجد تضادّ بين العقل والقلب وإنّما اتصال يميل إلى جانب العقلانية أكثر مما يميل إلى الجانب الآخر... ليس هناك في القرآن مجال للدعوة إلى الإيمان الأعمى ضدّ كل بداهة كما نراه لدى "تيرتوليان" الذي كان يقول ”أعتقد بكل شيء لا عقلاني“.. نجد القرآن بعيد جدّا عن هذا الموقف المضادّ للعقلانية. بالطّبع نجد القرآن يحارب الحسّ العقلاني المزعوم لدى القريشيين الذين ناهضوا النبيّ ولكنّه لا يحارب كشيء عقلاني وإنما كشيء غير عقلاني بما فيه الكفاية أو كشيء عقلانيّ بشكل سطحي... هكذا نجد أنه على الرغم من كل شيء فإنّ الميزان يميل إلى ناحية القوة العاقلة أو المعرفة العقلانية“(8). ألا يحق لنا أن ندعي أنّ اللاعقلاني عقلاني و أنّ العقلانيّ لا عقلانيّ.
الهوامش
(1) و ينعت الإسلام بأنه الدين الخالص (سورة الزمر) و الدين الحق (سورة الحشر) و الدين القيم (سورة النور) تمييزا له عن كل الأديان. كتب محمد عيتاني: "المدهش هو أنّ الموقف الانتقادي للإسلام إزاء الأديان السماوية السابقة عليه يكاد يطابق حرفيا أرقى ما وصل إليه علم نقد اللاهوت و الأديان: أقصد بذلك المدرسة الانتقادية الألمانية التي نشأت مع برونو بوير Bruno Bauer ". القرآن على ضوء الفكر المادّي الجدلي. دار العودة-بيروت ط2-1981 ص 12-18-70-7-107.
(2) جيروم انطوان روني: الأهواء، ترجمة سليم حداد، المؤسسات الجامعية للنشر. ط1-1987 لبنان.
مفهوم الإيديولوجيا- لعبد الله العروي. المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء- المغرب ص 90.
(3) ماركس انجلز: المؤلفات الفلسفية-مجلد 6، ص 193.
(4) ريجيس دوبريه: نقل العقل السياسي: "لقد تكفل تاريخ الماركسية العملي أكثر من أي شيء آخر بنقد الماركسية (...) قد سبق لي العلم بأن المجتمعات التي ينتصب فيها الإلحاد العلمي عقيدة الدّولة تنضح بالتديّن من جميع جوانبها. ص 14-128.
(5) روجاي قارودي: نداء الأحياء ص 315.
(6) مشكاة الأنوار: ص 47.
(7) الاقتصاد في الاعتقاد ص 192.
(8) عن كتاب الفكر الإسلامي: قراءة علميّة": محمد أركون، مركز الإنماء القومي بيروت 1987.