نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
الإبداعات العبثية في إهدار المصلحة الوطنية

 عاش التونسيون منذ أن أهلّت علينا الثورة، على وقع  التجاذبات والصراعات بين الفرقـــاء السياسييـــن وبين مكونات المجتمع بمختلف ألوان طيف التوجهات الفكرية والإيديولوجية وحتى الانتماءات العشائرية والفئوية. الأحداث كانت متواترة ومتسارعة واتخذت منحى يشي بأننا نواجه مخططا تآمريا يدعو إلى الريبة بل إلى اليقين بأن تفاصيله قد حُبكت من طرف دوائر مؤثرة وفاعلة تمسك بخيوطه وتحرك الأطراف المشاركة فيــــه، عــن وعـــي أو عـــن غيـــر وعــي، بما في ذلك امتداداتها الداخلية والخارجية. وكان السيل قد بلغ الزبى في الأيام الأخيرة بعدما احتدم الصراع ووصلت إرهاصاته إلى مستويات غير مسبوقة، هددت الأمن القومي لبلادنا في الصميم، وما زالت كذلك. الصراع الأخير كان محموما ومفتوحا ومعلنا بين حركة النهضة كأقوى حــــزب سياســـي وكشريـــك رئيســي في الحكم وبين الإتحاد العام التونسي للشغل كحاضنة ذات ثقل ميداني وإرث تاريخي والذي تخندقت فيه أحزاب يسارية وفاعلون في المجتمع المدني وورثة النظام السابق في محاولة لخلق توازن على الساحة السياسية. التوازن الطبيعي، كــــــان مـــن المفـــروض أن تُحدثه أول انتخابات حرة وشفافة في تاريخ تونس ولكنها لم تفعل حيث أتت النتائج بما لا تشتهي الكثير من الأطراف، ممن لا تتوافق مصالحها واختياراتهــــا مع مصالح واختيارات أغلبيــــة الشعــب التونســــي. وفي غياب التوازن الطبيعي ”الشرعي“، فقد أراد الفاعلون الذين سبق ذكرهم، الاستعاضة عنه بتوازن مصطنع وذلك بالزجّ بالمنظمة الشغيلة في المعترك السياسي من أجل ترجيح كفة التيار الحداثي الذي رأى نفسه في صراع وجودي أمام الزحف العرم للتيار المحافظ.

حبس التونسيون أنفاسهــــم قبيل يوم 23 أكتوبــــر، الذي أُريد له أن يكون التاريخ الذي تُقبر فيه الشرعية الانتخابية من خلال تفجير الوضع في كامل البلاد وإجبار الحكومة على الانسحاب أو على الرضــــوخ إلــــــى امـــــــلاءات أطــــراف لم يزكّهــــا الشعــــــب من خلال الانتخابات بدعوى الشرعيــــة التوافقيـــة. وكتم التونسيون أنفاسهم بعد انفجار الوضع في سليانة على خلفية شجار عرضي وبسيط بين ناشطة نقابية ومسؤول في الولاية ثم ما تلاه من ردة فعل في رحاب ساحة محمد علي والتي ستأتي على ذكرها كتب التاريخ لاحقا تحت عنوان ”موقعة الهراوات“. وضاقت أنفاس التونسيين إثر التصعيد الذي أنتهجه النقابيون عندما أعلنت المنظمة الشغيلة، إضرابا عاما سبقته إضرابات جهوية لحشد الجماهير لليوم المشهود ولجسّ نبض الشارع في مدى استعــــداده للاصطفاف مع الإتحاد في معركة أُريد بها الحسم بالضربة القاضية مع غريم أثخنته أعباء الحكم والهرسلة المتواصلة وأنهكته أوزار الإرث الثقيل الذي يتحمـــل تبعاتــــه دون أن يكون متسببا فيه.
لكن الله سلّم حيث ألهم الشعب الصواب في حين طمس على بصائر النخبة. خرجت الجموع الغفيرة في هبّة حاسمة وذكية خلطت الأوراق وأربكت الحسابات وانطلقت الحناجر من عقالها مرددة هتافات وشعارات ولسان حالها يقول: كفى عبثا بالمصلحة الوطنية! تراجع الجميع بعدما تبين بما لا يدع مجالا للشك بــــــأن الشعب واع بما يُحاك ضدّه وأن المعركة خاسرة وأنها ستعود بالوبـــال حتمـــا على كل من سيخوض غمارها، وتم بناءا على ذلك إخراج نهاية سعيدة لهذه المسرحية وسُمح لكل الأطــــــراف أن تخـــرج سالمـــة وقد حفظت ماء وجهها وقدمت للرأي العـــام، صورة مـــــن يتراجع من باب المسؤوليــــة والحــــرص علــــى المصلحــــة الوطنيــــة. وإزاء هذا الانفـــراج ورغم ارتياح كل من يختلج في صدره نَفَس مُحب لهذا الوطن ، فكلنا يعلم بأن الحرب سجال وأن جولات لاحقة ستفاجئنا ذات يوم بسبب وبدون سبب، ما لم تُستخلص الدروس وتُعالج الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمة الراهنة.
 
 ما هي أهـــم هذه الـــدروس والاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من كل ما جرى؟ 
 
◄ لم يستفـــد أحــد من الفرقاء من هذا الصراع العبثي بل يمكننا أن نجزم بأن الجميع قد خسروا وبدون استثناء. خرجت الحكومة منهكة وموصومة بالفشل في إحراز نجاحات ذات بال، تُقنع المواطن العادي وتنهض بظروف عيشهُ اليومي، حيث انشغلت بإطفاء الحرائق التي يعلم الجميع مأتاها ومنتهاها، وخرجت مؤسسات الدولة وهيبتهــا مهتــزة بعد فرض إرادة الإتحاد على الحكومة وعلى القضاء وعلى الولاة وعلى الرؤساء والمدراء العامين للمؤسسات الخاصة منها والعمومية وعلى عموم الشعب التونسي بصفة مطلقة، وخـــرج الاقتصاد الوطني يئن كالجريح الذي يعاني من نزيف حادّ وفي كل يوم يمرّ يقترب من منطقة اللاعودة ويُخفض تصنيفه مرارا وتكرارا، وخرجت المعارضة والنخبة وهي أشبه بفريق من المشاغبين الذين يمتهنون التهريج وقلب الحقائق والالتفاف على إرادة الشعب، وخرج إتحاد الشغل وقد تلطخت صورته وفقد قدرا كبيـــرا مــــــن مصداقيتــه ومن رصيده التاريخي ومن ثقة التونسيين به، وخرجت ثورة تونس باهتة وفاقدة البريق بعدما ألهمت شعوب العالم قاطبة.
◄ أتفق السواد الأعظم من الشعب بما في ذلك حزب حركة النهضة على ضرورة الحفاظ على إتحاد الشغل كمكسب وطني وكشريك نقابي وكمؤسسة وطنية فاعلــــة لا يمكـــن الاستغنــــاء عنهــــا رغم الأصوات التي ارتفعت من هنا وهناك، تطالب بالحسم واقتناص الفرصة الذهبية لتطهيـــر الإتحـــاد أو لتفعيل التعددية النقابية لتقليم أظافر المنظمة الشغيلة التي تورمت سطوتها على كل مناحي الحياة العامة. وبنسب أقل كان هناك حتى من ينادي بحلّ المنظمة الشغيلة ومحاكمة كل من عبث بمصلحة الوطن من بين أعضائها وقيادييها.
◄ فهم الجميع بمن فيهم من ينادي بالعنف الثوري والذين يُنادون بقتــــــل مُنتسبي الغريـــــم السياســـي والـــذي يدفعـــون نحو الانفصال عن الدولة والذين ينتهجون تأجيج الفتن واستعمال المليشيات والهراوات والمولوتوف كوسيلة لفرض الأمر الواقع  على الساحة السياسية والاجتماعية، بأن كل من يتجاسر ويُخــرج بعبـــــع العنف من قمقمه فسيكون أول من يكتوي بناره وذلك تحقيقا للآية الكريمة (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه) أو ما يرادفها في مورثنا الثقافــي (من حفر جُبّا لأخيه أوقعه الله فيه).
◄ برهن الشعب مرّة أخرى على قدر كبير من الوعي والذكاء وعلى قراءة متبصرة لمجريــــــات الأمـــور وحتى لخفاياها وأعـــاد فـــي اللحظـــــة الحاسمـــة، المعادلة السياسية إلى نصابهــــــا الصحيــــح وأكّــــد بأنه يراقب بانتباه ما يجري على الساحة وسيكون الفيصل بين الفرقاء ولن يسمح لأحد منهم بتجاوز دوره كمصدر أصلي للشرعية ولا بالتلاعب بمصيره ومصادرة مصالحه مهما تعددت المناورات وخبثت الألاعيب وأُتقنت الأدوار وحُبكت الأراجيـــــف وخفـــت أو ثقلت الموازين.
◄ تيقّن الجميع بمن فيهم ممن تغوّل على الدولة وحاول أن يهز أركانها ويتجاوز سلطتها بأنه في أمس الحاجة إلى دولة قوية تحميه خصوصا عندما وقع استهدافه بقوّة لا قبل له بها وأيقن بأن الدوائر توشك أن تدور عليه. وفي ذات السياق أستحضر ما قاله أحد أمراء الحرب الأهلية اللبنانية، ممن اكتوى بنارها ورأى بأمّ عينه كيف يصبح الوطن غابة تسكنها وحوش يأكل بعضها لحم بعض، بأن دولة سيئــــــة هي خير بألف مرة من غياب الدولة.
◄ بقيت المؤسسة العسكرية على الحياد وعلى مسافة واحدة من الجميع كضامنة أساسية للشرعية وللدولة، تذود عن الوطن وتحمي مؤسساته رغم المحاولات المتكررة واليائسة للزج بها في المعترك السياسي وتوريطها في أوحاله.
◄ فرح كل من ينحـــــاز لهــــذا الوطـــن ويضعــــه فوق كل اعتبار، بأنه ما زال هناك في نخبنا وفي ولاة أمورنا، من يغلّب مصلحة الوطن وينكر الذات ويُعمل العقل ويتجاوز الضغائـــن من أجــــل الخروج بالوطن من عنق الزجاجة. هذا لا شك سيكــــــون كفيلا بأن يُرجع الأمــــل في نفوسنا، في أنّ حاضـــــر تونـــس هو أحسن من ماضيها وسيكون بإذن الله مستقبلها أحسن بكثير من حاضرها.
 
ماذا يجب أن يقع حتى لا تتكرر
الأزمة ونقع في المحظور؟
 
◄ المنظمة الشغيلة مدعوّة لإعادة تقييم ذاتي يكون صادقا وعميقا ولا يستثني أحدا حتى تتمكن من تجاوز أخطاء الماضي وتغيير وجهتها والاضطلاع بدور بنّاء تكون فيه رافدا رئيسيا لازدهار البلاد ونمو اقتصادها وتحقيق سلمها الاجتماعي والمساهمة في تأمين المؤسسات القائمة وفي جلب مستثمرين جــــدد. الشعب التونســــي لم يُنجز ثورة ليستبدل الدكتاتورية الحزبية بالدكتاتورية النقابية يكون نبراسها صراع الطبقات ودكتاتورية البروليتاريا. من المعيب أن نرى النقابيين المنتمين إلى أعرق منظمة في بلادنا يستعملون الفظاظة والإكراه والترهيب والإهانة وحتى البلطجة من أجل فرض إرادتهم على ممثلى الدولة ومسيري المؤسسات وكوادرها وقد رأينا البعض من هذه السلوكيات التي أصبحت عادات، في تسجيـــلات على الشبكة العنكبوتية وحتى في المنابر الإعلامية وعلى الهواء مباشرة. من البديهي أن نتفق على أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر إتحاد الشغل في كنف دولة الديمقراطية، في الاضطلاع بنفـــس الـــدور واستعمـــال نفـــس الوسائـــل وفـــق نفــس العقلية كما كان الحـــال في ظل دولة الاستبـــداد. وفي هذا الإطار ونظرا لأن المنظمة الشغيلة ملك لكل التونسيين ونظرا لأن دورها محوري ويؤثر سلبا أو إيجابا على كل تونس فأني أقترح فتح حوار وطني حول دور إتحاد الشغل في إطار دولة الديمقراطية والقانون والمؤسسات يصحح المســـار ويدعــم الشرعيـــة ويزيد من شعبية هذه المنظمة العريقة.
◄ الحكومة مدعوة إلى حزم أمرها في مقاومة الفساد وعدم التردد في الضرب بيد من حديد على كل من يعبث بمصلحة الوطن وبأمنه، فقد أوكلها الشعب هذه المهمة وهي تتمتع بالشرعية الانتخابية والشرعية الثورية في ذات الحين. ما من شك في أن التركة ثقيلة وأن الأوضاع الغير المستقرة تستوجـــب المزيـــــد مــــن الحـــذر حتى لا ينفرط عقد الوطن، ولكن لزوم علينــا القـــول بـــأن الكثيـــر من التونسيين وبالخصوص من مريدي ومؤيدي هذه الحكومة أصبحوا وقد أعوزتهم الذرائع لتفسير عودة الفلول إلى مواقع القرار واستشراء الفساد وغلاء الأسعار وانتشار الجريمة وشيوع الانفلاتات بأنواعها. 
◄ المعارضة مدعوة إلى الترفع عن إرباك الحكومة وتعطيل برامجها وإفشــــال جهودهـــا والمضــي بدلا من ذلك في إعداد بديل سياسي واقتصادي جدي ومقنع يمكن اللجوء إليه في قادم الانتخابات. المعارضة بسعيها المشين ودورها السلبي، تضع الحكومة الحالية موضع الضحيـــة، التـــي سيتعاطـــف معهـــا الشعــب أيا كـــــان آداءهـــا وسيجــــدد بالتالـــي الثقـــة فيهـــا في الانتخابات القادمة والتي صارت على الأبواب.
◄ الكل مدعو للحوار ولخلق آليات لإدارة الاختلاف وحسم الصراعات بدون اللجوء إلى العنف مع محاولة تحييد الشارع إلا في الضرورة القصوى. شباب حماية الثورة والذين أثبتوا دورهم المهم في الماضي والحاضر، عليهم باليقظة من محاولات الاختراق والتوظيف وعدم الانجرار إلى الأخطاء القاتلة كما فعل من قبلهم الشباب السلفي حتى لا يتركوا الشارع ترتع فيه العناصر الفوضوية أو المنحرفون المأجورون بالمال الفاسد ويستأثرون به بدون منازع، الشيء الذي سيمكنهم من الانقلاب على الشرعية الانتخابية ووأد الديمقراطية في ربوعنا.
◄ الشعب مدعو إلى التحلي باليقظة وإلى التدخّل كلما أحس بالخطر على الوطن وعلى الثورة وعلى الشرعية التي من المفروض يكون هو مصدرها الحصري،  حتى نتمكن من الوصول إلى بر الأمان ونقطع بذلك دابر كل من يريد ارتهان مصيرنا والرجوع بنا إلى الوراء. الشعب مدعو أيضا لأن يحسن الاختيار في أن يولي أمره في كل المواقع لمن يحكمه ليخدمه وليس لمن يحكمه ليتحكم فيه.
لنا في الأخيــــر أن نتساءل إلى متى يستمر هذا الإبداع العبثـــــي في إهدار الوقت وإهدار الجهد وإهدار المال وإهدار الفرص وإهدار سمعة تونس وإهدار غيرها من المصالح الوطنية؟ أما آن لهذا الوطن أن يتنفس الصعداء؟ أما آن لهذا الشعب أن يفرح أخيرا بثورته وبحريته التي أسترجعها بعد طول انتظار وجسيم تضحيات؟ أما آن لنا أن نوجّه اهتمامنا وطاقاتنا إلى إعادة بناء هذا الوطن وتشييد صرحه الحضاري على أسس سليمة؟  أما آن لنا أن نتنافس في ما ينفع الناس ويخدم الوطن عوض أن نسعى كل على شاكلته على التسلط على هذا الشعب من خلال ابتزازه في أمنه وفي قوت يومـــــه وتهديده بالويل والثبــــور؟ أما آن لنا أن نستشعر معاني الآية الكريمة : أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَـــــعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ