زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
الخيارُ الأمنيُّ: حلٌّ أمْ تعبيرٌ عنْ مأزق؟

 عاش التونسيون عقودا من الزمن في ظلّ دولة متغوّلة، طالما استندتْ إلى الخيار الأمنيّ في معالجة الأزمات المتفجّرة بين الفينة والأخرى، ومرّوا بمحطات عنفيّــــة كلّفتهـــم تضحيـــات جســـام، نخصّ بالذكـــر منهـــا أحــداث 26 جانفي 1978 وأحـــداث قفصــة في 26 و27 جانفي 1980 وأحداث الخبـــز فــي 3 جانفي 1984، وعمليات اضطهاد الإسلاميين سنــــة 1990 وأحــــداث مدينـــة الـــرديّف بقفصـــة في ربيع 2008.

هذا الأسلوب العنيف، الذي انتهجته الدولة التونسية خلال العهدين البائدين في معاملة الخصوم السياسيين بمختلف مشــــاربهـــم العقائديــــة والأيديولوجيـــة، عمّقتْ الإحســـاس بالقهـــر والظلم، وزعزعتْ الثّقــة في مؤسســــات الدولــــة ورموزهـــا، وخلقتْ حالة من الاستياء والسخط، وأجّجتْ روح التّمرد على نظام الحكم وزعزعة أركانه.
وقد بلغتْ حالـــة الاحتقـــان والغليــــــان ذروتهــــــا فـــي 14 جانفي2011، حيـــن انتفـــض التونسيـــون فــــــي أغلــــب جهــــات الجمهوريــــة، وثــــاروا فـــي وجـــــه المؤسســـة القمعية، وأطاحوا برأس الاستبداد في البلاد.
مـــن هنـــا يمكـــن القـــول، أنّ الخيــــار الأمنـــــي الذي انتهجتــه الدولـــة التونسية خــــلال العقـــود الماضيـــــة، قـــــد راكم الأزمات وعقّدها، وأفضـــى فــــي النهايـــة إلى الانهيار، ولم يمثّل علاجا للمشكـــلات المختلفـــة في أية مرحلة من مراحل التاريخ التونسي.
 
الخيارُ الأمنيُّ: تعبيرٌ عن مأزق
 
لمّا دارت انتخابات 23 أكتوبر 2011 في ظروف حسنة، وتميّزتْ بدرجة عالية من النزاهة والشفافية والمشاركــــة، وأفـــرزتْ مجلســـا تأسيسيـــــا وحكومـــــة شرعييــــن، خــــال التونسيـــون أنّهـــــم قـــد تخلّصــوا مـــــن كوابيـــــس المرحلــــة السابقـــــة وفي مقدمتها كابوس عنف الدولة المؤسّس على الخيار الأمني.
غيــــر أنّ هــــذا الاعتقــــاد سرعان ما بدأ يتلاشى يوما بعد يوم، مع جملة من الأحداث التي واجهها المواطنون، لعـــــلّ أبرزهـــــا أحــــداث دوار هيشر بولايـــــة منوبــــة، التي سقط فيها صريعا برصاص الأمن كلْ من إمام مسجــــد النْــــور ومؤذْنــــــه بالجهـــــة، ثـــــم أحـــــــــداث سليانـــة ومــا خلفتــه من مشاهد مؤلمة وعاهات فظيعة.
لقــــد اتّبعـــتْ دولـــة مــــا بعـــد الثـــورة فـــي هاتيــــن الحادثتيـــن -كما في غيرهما- على الخيار الأمني، لوأد التحركات أو ما يسمّيه البعض بالفتنة.
 ولئن نجحتْ في الإجهاز والإجهاض، فإنّها قد عالجتْ مشكلا بمشكل، بالنّظر لما للخيار الأمنـــــي مـــنْ مســـاوئ ومنْ مخاطر، منها غرسُ الشعور بالقمع والقهر، وتأجيجُ الاحتقان والسخط، وتفجيرُ مظاهر العنف في مواجهة الدولة ومؤسساتها، وبالتالي تعريضُ الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي إلى الاهتزاز.
إنّ الذيــــن يحرّضــــون علـــــى انتهــــــاج الخيار الأمني، لإخماد ما تشهده تونس بين الحيـــــن والآخــــر من احتجاجات وتوتّرات، يدفعون التونسيين بســـــوء نيّـــــة أو بحسن نيّة إلى التصادم، وتصفيــــة حساباتهم وخلافاتهـــــم عبـــــر الوسائــــــل العنفيّـــــة، وهــــم بذلك يأخذون بأسباب العودة إلى مربّع الديكتاتورية المشؤومة.
 ففــــي الــــدول المتحضّــــرة يمثــــّل الخيـــار الأمنــــي استثناء يقــــــع الالتجــــاء إليه فـــــي الحـــــالات النـــــادرة والمعزولــــة، وهــــــو علامـــة علــــى ضعـــــف الدولـــة إذا اضطــــرتْ إليه، بينما فـــي تونــــس الثــــورة كما في غيرها من الأقطار العربية، لازال الخيار الأمني يمثــل قاعــــدة يقــــع الالتجـــــاء إليــــه لفرض هيبـــــة الدولـــــة، وهــــو فــــي اعتقادهـــا علامـــة علــــى قوّتها إذا التجأتْ إليه.
خلاصة القول، إنّ الخيار الأمني وإن بدا خيارا سهلا، فإنّ نتائجه على درجة كبيرة من التعقيد والخطورة، وهو إن عبّر عن شيء، فإنّما يعبّر عن مأزق للدولة وعجزها أو ضعفها عن إيجاد الحل السياسي المناسب.
 
الخيارُ السياسيّ: طريقٌ إلى الحلّ
 
عادة ما تعمل الدول الديمقراطية على ملامسة المشاكل عند بروزها، وتنتهج الخيار السياسي في معالجتها مهما كانت حدّتها ودرجة تعقيدها.
 وإذا فشل سياسيوها في إزالة أسباب هذه المشاكل، وفي خفض منسوب الاحتقان أو احتوائه، وسقطوا في الانفعال والمعالجات الأمنية، فإنّهم يثبتون بذلك عدم كفاءتهم، ويفقدون مشروعية تواجدهم فــــي المسؤوليــــة التي انتخبوا من أجلها، فينزاحـــــون أو تقع إزاحتهــــم، ذلك  أنّ الحياة الديمقراطية تقتضي قــــادة سياسيين متمرسين، لا يختارون غير الخيارات السياسية سبيلا مهما كانت الظروف والأحوال، باعتبار أنّ الخيار السياسي يفضي إلى نتائج إيجابية، منها تطويق مشاعر الاحتقان والسخط وتجذير روح المواطنة وإشاعة الإحساس بالعدل، وهو الأسلوب الأمثل الواجبُ اتباعُه من طرف المسؤولين في الدولة التونسية الراهنة، والاعتماد على الكفاءة، والتحلّي ببُعد النظر والمرونة والصبر، وتوسيع نطاق الحوار والإشراك والاستشارة، والقبول بمبدإ التنازلات. 
خاتمة
 
مهما تكن من أزمات اقتصادية، ومهما ينشأ من احتجاجات اجتماعيــــة، فــــإنّ الدولـــة مدعـــوة إلى الإقــــلاع النهائـــي عــــن الخيار الأمني، درءا لمخاطره العديدة ومضاعفاته المربكة، أو المعيقة للانتقال الديمقراطي.
 ولا بدّ لها في مقابل ذلك، من اعتناق الخيار السياســــي القائـــم على المحاورة والمرونة والمشاركة، كخيار وحيد لامتصاص الغضب ومعالجة المشكلات وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي.