بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
العنف في مسار الانتقال الديمقراطي

 يحتل تشريح العنف وبيان أسبابه واستشراف تداعياته مساحة هامة في منابر الحوار الإعلامي (المكتوب والمسموع والمرئي) ويعود ذلك إلى كثافة الاتهامات المتبادلة بين الفاعلين في الحياة المدنية والسياسية بالضلــــوع فــــــــي ممارستــــه أو دعم من يمارسونه سرا وعلانيــــة. ولعل ما يثير الاهتمام في هذه التجاذبات هو ظهور الجميع بمظهر المناهض للعنف الأمر الذي يدعو إلى السؤال عن حقيقة الطرف الذي يقف وراء ممارسته أو الحث عليهـــا طالمــــا كان الجميع ضد العنف؟ غير أن هذا السؤال لا يجاب عنه إلا إذا سلمنا فعلا بأن العنف في الحياة الإنسانية استثناء وليس قاعدة وأن القضاء عليه أمر ممكن ومطلب مشروع؟

في الواقع ليس العنف كما يتراءى للبعض استخداما للقوة وإنما هو الإفراط فــي استخدامهـــا، ومن ثمة ليس عدم استخدام القوة هو ما تختلف به النظم الديمقراطية عن النظم الديكتاتورية، وإنما عدم الإفراط في استخدام القوة هو ما يميزها عنها فعلا. وفي بلد يتدرب على الديمقراطية ويراهن على التدافع المدني في الحفاظ على الحريـــة بالقــــدر الذي يراهــــن به على التوافق السياسي في الحفاظ على النظام لا يمكن لأبنائه أن يعملوا على إزالة العنف أو أن يقدموا مشروعا للقضاء عليه، وإنمـــــا حسبهم أن يعملـــوا على خفض سقفه إلى الحد الأدنـــى. ذلك أن القضاء على العنف مطلب طوباوي في واقع يجعل إمكانات استخدام القوة متاحة أمام الجميع على اختلاف درجات عقلانيتهـــم وتوازنهم النفســـــي. إن درجة التوتـــر في علاقات التدافع بين المواطنين قد تبلغ حدا يجعل من الإفراط في استخدام القوة أو ممارسة العنف فعلا ممكنا. فليس القضاء على العنف مطلبا يعمل الوجود المدني والسياسي على تحقيقه طالما كان العنف ظاهرة ملازمة للوجود الإنساني منذ قابيل وهابيل ولن يزول إلا بزوال الحياة الإنسانية. لكن لا ينبغـــــي أن يفهــــم من الاعتراف بأزلية العنف أو أبديته أن على الفاعلين في الحياة السياسية والمدنية (من ساسة ونقابيين وحقوقييــــــن وإعلامييـــــن و...) أن يحتضنوا العنف أو أن يغذوه، وإنما المراد بذلك هو أن العنف واقع يتعين على الجميع أن يعمل على الحد منه ومحاصرته والإبقاء عليه في سقفه الأدنى، وذلك من خلال ترشيد أشكال التدافع المدني سواء بتوجيهها نحو الاستعاضة عن وسائل العنف بوسائل اللاعنف أو بتعديل مساراتها ومساحاتها داخل الفضاء العمومي. 
ليس العنف مشكلا في بلد يسير نحو الانتقال الديمقراطـــــي، وإنمـــــا يكمن المشكــــل في السقف الذي قد يمتد إليه العنف ويتحول معه التدافع إلى صراع يفرض اللجوء إلى الحل الأمني الشامل. وفي مثل هذه الحالة قد يستحيل القضاء على العنف إلى قنــاع لتبريـــــر ممارســــة أبشع أشكالــــه، ومن ثم ننتهي إلى منطق التصنيف والتمييز الذي يفرض علينا الفصل في العنف بين عنف شرعــــي وآخر غير شرعـــي ويجعل من استخــــــدام العنف الشرعــــي ضرورة في مواجهة العنـــف غير الشرعي. وهو في تقديري منتهى خطير طالما أن كل جهة تحتكر لنفسها شرعية ممارسة العنف بحجة أو بغير حجة تحت قناع الدفاع عن النفس أو العمل على تحقيق مطالب الشعب. لذلك نشدد على أن الانتقال الديمقراطي ليس مسارا مشروطا بممارسة العنف وهو أيضا ليس مسارا مضادا للعنف، وإنما هو مسار تأسيسي لتدبير الشأن المدني والسياسي في حياة الإنسان بوصفه مواطنا مطالبا بالمقاومة لضمان الحرية ومطالبا بالطاعة لضمان احترام النظام. وهو ما لا يتم في تقديرنا إلا بالمراوحة بين درجات متفاوتة من العنـــف أو ما يمكـــــن تسميتــــه بالعنف الأبيـض وغير الملوث أو غير المشوب بالدماء. ذلك أن دم المواطن على المواطن حرام في هذا المسار الانتقالي، ويكفي أن يلتقــــي مواطنــان بسلاحيهمــا حتى يغدو إقصاؤهما من الفضاء العمومي واجبا أمنيا وعرضهما على القضاء ضرورة قانونية. 
إن عقلا سياسيا يرى في العنف طاقة إنسانيـــة مهـــدورة لا يسعــه إلا أن يبحث في وجوه استثمارها حتى تكون طاقة مبدعة وضامنة لقوة البناء المدني والسياسي ومحافظة على تماسكه الداخلي وإشعاعه الخارجي بعيدا عن المقاصــــد الحزبيـــة والإيديولوجيــــة التي لا ترى للعنف حضورا إلا في سلوك خصومها أو منافسيها. لذلك لا نريد لمســـــار الانتقـــال الديمقراطــــي أن يدفـــع بالدولـــة إلى أن تستأثر بوسائل استخدام العنف أو أن تجعل من الحل الأمني الشامل خيارا أوحدا ووحيدا في إحكام السيطرة على الوجود المدني للأفراد. إن مثل هذا الخيار يتناقض جوهريا مع غايات التدافع المدني وروح التوافق السياسي ولا يجد له مكانا إلا في نظام كلياني يقوم على الإخضاع والاستفراد بالقرار في تنظيم الوجود المدني وفي تدبير الشأن السياسي.             
وحتى يكون سقف ممارسة العنف منخفضا في هذا المسار الانتقالي يتعين على السلطة الرابعة أن تلتزم بخيارات التدافع المدني والتوافق السياسي حتى لا ينقاد الخطاب الإعلامي إلى إغراءات الإيديولوجي وإكراهاتـــه. ذلك أن الإعلام يلعب دورا بالغ الأهمية في تغذية العنف أو في التخفيف من وطأته في حياة الأفراد والجماعات، فصناعة الحرب والسلم تبدو في أول مظاهرها صناعة إعلامية، طالما أن تطــور وسائـــل الإعـــلام يبـدو مساو لتطور دور الإعلاميين في خدمة الساسة والاقتصاديين والعسكريين وغيرهم من الفاعلين المباشريـــــن في اتخـــاذ قـــرار السلــم أو الحرب. وإذا سلمنا بأن الإعلام في الديمقراطيات الغربية استحال من رسالة إلى صناعــــة متحــــررة من القيم ومحكومة بتناقض المصالح، فإن السؤال الذي يواجهنا في توصيف مسار الانتقال الديمقراطي هو التالي: هل يمكن للإعلام أن يرتد من الوضع الصناعي إلى الوضــــع الرسالــــي؟ وهل يتعيــــن على الديمقراطية الناشئة أن تنجز هذه الردة القسرية أم عليها أن تضطلع بإزالة التعارض بين الصناعة والرسالة في الممارسة الإعلامية؟  
لا يتحقق نجاح التدافع المدني والتوافق السياسي بمعزل عن توازنات إعلامية تنأى بالمادة الإعلامية عن التجاذبات السياسية والمتغيرات التي تشهدهــــا من حيـــن إلـــى آخـــر، بالرغـــم من أن مطلب الحياد هذا عسير التحقيق في بلد بقي فيه الجهاز الإعلامي ( وبخاصة المكتوب والمسموع والمرئي ) منذ تأسيسه في تبعية مطلقة للحزب الحاكم ولاختياراته الثقافية والسياسيـــة فـــي ظـــل غيـــاب الفصــل والتمييــز بيـــــن مؤسســــات الدولــــــة ومؤسســـات الحـــزب. ونحسب أن التعددية الإعلامية وتحــــرر المواطـــن من وحدة المصدر الإعلامي واقع كفيل بمعالجة الإشكاليات التي تواجهها الممارسة الإعلامية بعيدا عن التقنين وعن مختلف أشكال الإلزام التي ينادي بها الكثيرون من داخل الحقل الإعلامي ومـــن خارجــــه. ذلك أن سيادة منطق المنافسة الإعلامية محليا وعالميا يحتم علـــى العاملين في الحقل الإعلامـــي الدخـــول في حسابات الربح والخسارة منطلقا لاختيار المادة الإعلامية المربحة من بين المادة الكاذبة والمادة الصادقة والمادة المشوهة (1) .      
    إننا نحيا في واقع فقدت فيه الكلمة شرفها لحساب الصورة، واقع لا يقبــــل شهــــادة المسمـــوع ولا يثق إلا في شهادة المرئي طالما أن مواطن الدولة المعاصرة شرقا وغربا استعاض عن أذنيـه بعينيه وعن القول سمعت بالقول رأيت. وإذا كان إنتاج الصورة في جزء كبير منه يقوم على التخييل والاصطناع فإن الاقتناع بأن التصوير فـــن يستحضـر كل شروط الإبداع كان سببا في جعل الصورة سلطة رمزية نصارع بها ونصارع من أجلها، بل لعلنا لا نبالغ حين نقول إن حروب الصور تسبق الحروب التقليدية وتعقبها. إن الصورة هي بداية كل حرب ونهايتها. 
إن نجاح مسار الانتقــال الديمقراطــي رهين نجاحـــه في إنتاج مادة إعلامية وتحديدا إنتاج صورة تساهــم في تحرير الإنسان من المغالطات التي حالت دونه ورؤية الذوات الأشياء على حقيقتها. ذلك أن الحرب التي يشهدها العالم شرقا وغربا هي حرب العقول والأفكار وليست حرب الجيوش وترسانات الأسلحة. بل إن الديمقراطيات الغربية التي تقدمت العالــم الحديث في تخزين أسلحة الدمار الشامل هي اليوم تظل من العقول(2)  المتوجسة خيفة من شناعة هذا البناء الذي ولد ريبة في قلوب صانعيه ومستعمليه قبل توليدها في نفوس أهدافه وضحاياه. ولعل ما يقوي لدينا الأمل في لقاء مثمر يحول دون الانتحار الذري والدمار الكوني هو اتساع رقعة انتشار هذا الوعي البناء في أوساط المفكرين الذين أدركوا خطورة التمادي في تكريس المركزية الثقافية وممارسة الإقصاء والوصايـــة في العلاقـــات بين الأمم والشعوب طالما أنه لا يوجد فرد غير مثقف لأنه لا وجود لشعـــب بلا ثقافة.
بقي أن ننبه في بيان دور الإعلام في إرساء ديمقراطيتنا الوليــدة إلى الحصانة التي يطالب بها الإعلاميون لأنفسهم ضد كل المواقف النقدية التي تستهدف أداءهم، وهي في تقديرنا حصانــــة خطيــرة إذا ما حصل عليها طالبوها وذلك لسببين. أولهما أن محكمة النقـــد لا تعطي للإعلاميين حق الاستفراد بهذا الامتياز وإلا استحال النقد الإعلامي إلى ضرب من الديكتاتورية البديلة. ثانيا أن النشاط الإعلامي لا يخرج عن قاعدة التدافع المدني، فليس مطلوبا من الإعلاميين أن يتوافقوا بل مطلوب منهم أن يتدافعوا حتى يتحرر الرأي العام من استبدادية الصوت الواحد والقلم الواحد والصورة الواحدة. 
الهوامش
 
(1) لا توجد في رأينا مؤسســـة إعلاميـــة صادقـــة وأخــرى كاذبة، لأن الإعلام على اختلاف صوره (المكتوب والمسموع والمرئي) ممارسة تراوح بين قول الحقيقة وتزييفها وتشويههـــا. وتختلف هذه المراوحة بحسب درجة التوتر أو الارتخاء التي تكون عليها العلاقة بين المدني والسياسي. 
(2) يتعلق الأمر في هذا المستوى بمختلف صور النقد التي أنتجها العقل الغربي والتي بلغت ذروتها في جدلية النقد التي قدمتها مدرسة فرنكفورت مع أدورنو وهوركهايمر وهابرماس وماركوز ممن اعتبروا العقلانية الغربية عقلانية أداتية تختزل الإنسان في بعد واحد هو البعد الاستهلاكي، إنسان يرى ذاته فيما يملك أو يستهلك. ولعل أهم ما خلصت إليه هذه المراجعات النقدية هو الاعتراف بإمكان تولد اللاعقلانية من رحم العقلانية، وهو اعتراف يحملنا على التظنن على مشروعية الحديث عن عقلانية تنجب اللاعقلانية، هل هي عقلانية حقيقية أم زائفة؟