بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
البيئة المجتمعية للتّشغيل في تونس واشكالية مهنة التعليم العالي بحث سوسيولوجي في المفاهيم والأبعاد (

     يتعرّض التعليم العالي في تونس وفي الوطن العربي عمومـــا إلى انتقادات من أطراف عديدة داخلية وخارجية باعتباره لم يعد يستجيب لإنتظارات المجتمع خاصة فيما يتعلق بعلاقته بسوق الشغل. وعلى الرغم من أن ظاهرة بطالة خريجي التعليم العالي تمثل ظاهرة قديمة لكن التحولات المجتمعية الرّاهنة (اقتصادية، اجتماعية ، ثقافية، تكنولوجية..) جعلتها من الإشكاليات التي تحتل صدارة المواضيع والأحداث والنقاشات العلمية والسياسية الملحة.

    فقد ظهرت منذ أواخر القرن الماضي، عديد التقارير والدّعـــوات(2) التي تــــرى أن الحــــل لهــــذه الأزمة يكمــــن في التحول، في إطــــار السّياسات التعليمية والتكوينية مـــــن الاهتمــــام بالتعليــــم العــــام وتوجيه الشبــــاب إليـــه، إلى تكريس الاهتمام بالتعليم التقني/ المهني المتخصـــص أي إلى "مهننة"(professionnalisation) هذا التكوين حتى يتلاءم مع طلبات سوق الشغل وحتى يستجيب إلى تحديات التنمية ويتماشى مع البيئة المجتمعية. وهكذا بدأت تظهر الدعوات إلى "المهننة" في التعليم والتكويـــن في إطار سياسات تربوية واقتصادية وتشغيلية واجتماعية متكاملة"(3). 
 فإلى أي مدى يمكن القول أنّ التعليم العالي "المُمهن" يمثّل حلاّ ناجعا فعلا لأزمــــة التّشغيــــل وللقضـــــاء على البطالة في صفوف خريجي الجامعة في تونس؟
أولا:
البيئة الاقتصادية للتشغيل في تونس
  كل نظام تعليمي تحتضنه بيئة مجتمعية معينة تؤثر فيه وتتأثر به. وتُعرف البيئة المجتمعية على أنّها مجموعة من العناصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والرمزيـــة الدافعــــة للمعرفـــة أو المعيقة لها ( القيـــــود ـ الضغوطـــات) والتي يمكن أن تمارس تأثيرا إما سلبا أو إيجابا في أداء النظام التربوي . ولكن سوف تهتم هذه الورقة بالبيئة الاقتصادية فقط.
   إنّ تفاعل نظام التعليم مع بيئته الخارجية يطرح إشكالية العلاقـــــة بيــــن المدخـــــلات والمخرجــــات. أي أن المجتمع يقدّم للجامعة المدّخلات ( الطلبة، المدرّسون، الموارد المالية..) لتمارس نشاطها التكويني، لكن بعـــض هــــذه العناصـــــر تخضع دائما إلى التغيير ـالكمي أو النوعي ـ تحت تأثير عوامل البيئة المجتمعية أي ليست مرتبطة مباشرة بالنظام التربــــوي ولكنهــــا قـــد تتحول هذه التغييرات إلى قيود مثال :العامل الدّيمغرافي وزيادة نسبة التّمدرس والتحضّر في المجتمع.. لأنها مرتبطة بالتغير في حاجيات المجتمع ونسق تطوره.
 1ـ   خصائص البيئة الاقتصادية التشغيلية:
      من أبرز ملامح هذه المرحلة  وفق ما ورد في "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009" هي:
 1ـ الانكماش الذي أصاب القطـــاع العــــام العريــــض الذي يستخدم أكثر من ثلث القوى العاملة في ظل الإصلاحات البنيوية،
2ـ محدوديـــة حجـــم القطــــاع الخـــاص الراكد، وقصور أدائه وضعف قدرته على خلق فرص عمل،
3ـ مدى جودة التعليم الشائع ونــوع هذا التعليم الذي لا يركز عموما على المهارات التقنية والمهنية المطلوبة.
       كما تتميز هذه المرحلة ـ مرحلة العولمة ـ بعدم وضوح السّياسات الاقتصادية والاجتماعية في العالم. بل إن سوء استعمال التقنية حســـب "فرانســـــوا بارتون (François Partant) ضاعف من ظاهرة البطالة والتهميش الاجتماعي، لأن التقدم الحقيقي  لا يكمن في المعرفة والتحكم في التقنيات، بقدر ما يكمن في السياسة، وجعل هذه المعرفة والتقنيات في خدمة فن العيش المشترك(4).(L’art de vivre ensemble).
     جدول عدد 1:  التوزيع النسبي  لعدد المشتغلين حسب قطاع النشاط(5)   
 من خلال قراءة سريعة لهذه المعطيات الإحصائية يمكن أن نستنتج ما يلي:
 1ـ  إن التحول القطاعــــي في هيكلــــة الاقتصـــــاد التونســــــي من خلال توزيع النشطين فيه أفرز واقعا مجتمعيا جديدا نتيجة انخراط تونس منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي في الاقتصاد المعولم وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي (1986)(6) والخوصصة. وقد تزامنت سياسة التحرير الاقتصادي مع ازدياد قطاع الخدمات من حوالي 19,3% في بداية السبعينيات ليصل إلى حوالي 40 % سنة 1993 ثم يصل اليوم إلى حوالـــــي 63% أي تضاعــــف دور هذا القطاع التشغيلي ثلاث مرات خلال ثلاثين سنة. هذه المؤشّرات في جانبها الظاهر تدل على أن اقتصاد بلادنا أصبح يضاهي اقتصاديات الدول المتقدمة لكن عندما نقرأ هذه المعطيات ميدانيــــا أي من الجانب الميكروـ اقتصادي تجعل هذه المقارنة غير واقعية لأن تطور قطاع الخدمات في تونس لم يكن منظما بل تزامن مع نمو النشاط الاقتصادي غير المهيكل.
 2ـ بالنسبة إلى قطاع الصناعـــة فإن تراجعه اللافت في مستوى دوره في التشغيل يؤكد فرضيـــة تبعيــة هذا القطاع إلى الاقتصاد العالمي والذي أدى إلى إغلاق عديد المؤسسات والمنشآت الصناعية ذات التشغيلية العالية أو التقليص في عدد العمال في البعض الأخرى نتيجة الضغوطات الخارجية التي فرضت برنامج إعادة الهيكلة وما نتج عنها من تسريح لعدد كبير من العمال ضمن إطار مقاربة "مرونة التشغيل". وبالتالي فالطرف المستفيد من هذه التحـــــولات الاقتصاديـــة هم رؤساء الأموال الصناعيين والمستثمرين والتجار.
 3ـ أما قطاع الفلاحة فإنه ليس أفضل حالا من القطاع الصناعي. إذ يمر بصعوبات هيكلية وتشغيلية كبيرة وتهميشا كبيرا. وقد تدعــــم تهميـــش هـــذا القطـــاع منذ أن أبرمت تونس "اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي" سنــة 1995 ووافقـــــت علـــى الانضمـــام إلى "المنظمة العالمية للتجارة" سنة 1994. ففتح السّوق التونسية للاستثمار الخارجي أدى إلى إفلاس الآلاف من صغار الفلاحين وهجر أراضيهم والتفويت في بعضها لـــــرؤوس الأمـــوال الأجنبيـــة وأصبحــوا من ضمن الفئات المهمّشة والمعطلة. وتراجع دور قطاع الفلاحة في التشغيل واصبـــح كذلـــك غير قــادر على منافسة نظيره الأوروبي الذي يعتمد التقنيات والتكنولوجيات المتطورة والدقيقة ذات المردودية الإنتاجية العالية.
     إذًا، نتيجة سياسة الخوصصة الكلية أو الجزئية لمئات المؤسّسات في القطاع العام في تونس تزايــــد عدد العاطلين عن العمل. وقد تزامنت هذه السياســـة مع تراجع مداخيل الدولة. وبالتالي تراجعت قدرة الدولة  على إحداث مواطن شغل قارة ـ في القطاعين العام والخاص معاـ تتناسب مع حجم المتخرّجين الجدد وتستجيب إلى مؤهّلاتهم العلمية والعملية المختلفة. 
2ـ واقع التشغيل والهيكلة الديمغرافية للبطالة في تونس
  ما نلاحظه أن التحول الذي عرفته التركيبة التشغيلية في الاقتصاد التونسي في إطار الاقتصاد اللّيبرالي والتنافسي الجديد قد نتجت عنه انعكاســـات سلبيــة على مختلف الشرائح الاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية الصغيرة. فمثلا في مستوى أطراف التبادل التجاري نلاحظ هيمنة مطلقة للاتحـــاد الأوروبـــي حيث بلغت نسبة الواردات حوالي 75%  سنة 2005 في حين لا تتجاوز نسبة التبادل التجاري مع دول المغرب العربي جميعها 04,6% من نفــــــس السنــة من نسبة المعاملات. 
من أهم الأسباب التي يعتقد بعض المحللين(7) التي أدت الى تفاقم هذه الظاهرة هي:
1 ـ  أصبح اقتصادنا يعتمد أساسا على الصناعات ذات الأجور الضعيفــــة مثـــل الملابـــس التــي لا تستقطــب إلا أصحاب المستويات التكوينية المهنية المتوسطة، 
2ـ أصبح الاقتصاد التونسي يعتمد في جزء كبير منه على العمالة النسائية ،
3 ـ نمو العديد مــــن أنشطـــــة الخدمــــات ذات الأجـــور الضعيفـــة مثل الخدمات المنزلية وكتبة المحامين ورؤساء الشركات والمؤسسات...الخ.
4ـ الانفجــــــــار المعرفـــــي والثقافـــي والديمغرافـــي والتعليمــــي (ارتفاع نسبة التمدرس والتحضر..)،
5ـ التغيرات الاقتصادية والاجتماعية وتطور أساليب العمل ومعايير التنظيم في هيكلة قطاعات المجتمع،
6ـ التطور الذي شهده سوق التشغيل من أصناف مهنية جديدة وحرف أي أشكال جديدة لـ"التقسيم الاجتماعي للعمل" الذي تطلب توسيع مجالات التخصص المهني في المجتمع،
7ـ ظهور أزمة في عدم التطابق بين مخرجات الجامعة وبين سوق التشغيل أي عدم التناسب بين العرض والطلب.
  وتعتبر بطالة حاملي الشهائد ظاهرة جديدة في العالم النامي مقارنة مع البطالة الكلاسيكية، حيث كان التعليم العالي إلى حدود بداية الثمانينيات من القرن العشرين بمثابة المسلك الوحيد للحصـــول على عمل قار ولائق أي يعتبر في نظر المجتمع الضامن الأساسي لتحقيق ارتقاء الفرد مهنيا واجتماعيا. والبلاد التونسيــــة لا تشـــذ عن هذه الظاهرة. منذ ما قبل الاستقلال مثّلت الشهائد المدرسية خاصة ما بعد "الباكالوريا" غاية كل العائلات والشرائح الاجتماعية لضمان حصول أبنائها على الوظائف العمومية ذات المكاسب الاجتماعية والمادية الأفضل من القطاع الخاص. 
    فوضعية خريجي التعليم العالي في تونس شهدت تحولات نوعية حسب المراحل التاريخية المختلفة التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث أساسية ولكنّها تظل مترابطة وليست منفصلة عن بعضها :
 1ـ المرحلة الأولى :1956ـ1986: في هذه المرحلة التـــي يمكـــــن أن نطلق عليها مرحلة تأسيس الجامعة وبناء مؤسسات الدولة الوطنية والمجتمع عموما لم تطرح فيها مشكلة البطالـــــة تقريبـــا لأن جميع مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة ( التعليم والصحة والإدارة..) كانت كلها في حاجة إلى إطارات متوسطة وعليا تونسية ولتعويض الموظفين الأجانب. وقد ظهرت البطالة في بعض الشعب المهنية والتقنية ولكنها كانــــت محــــدودة وتمكـــن المتخرجـــون من الالتحاق ببعض الأسلاك ذات الكفاءة المتوسطة مثل الأمن والجيش..الخ.
 2ـ المرحلة الثانية: 1986ـ 1991: وهي مرحلة الأزمة الاقتصادية والمديونية ووصـــول النظـــام الاقتصـــــادي إلى مرحلة الإفلاس غير مسبوقـــة ( إنتفاضة الخبـــز 1984) وانكشاف مأزق الدولة والفساد في نظام الحكم السياسي والاقتصادي وما أدى إليه من تقييد للحريات وقمع للقوى المعارضة. وفي هذه المرحلة بدأت تظهر مشكلة البطالة بالنسبة إلى خريجي بعض الشعب خاصة  العلوم الإنسانية والاجتماعية.
 3ـ 1991ـ 2010: هذه المرحلة عرفت تفاقم للأزمة الاقتصادية وارتفاع عدد المعطلين عن العمل  من خريجي الجامعة ومن جميع التخصصات العلمية دون استثناء. على الرغم من محاولات الدولة في التخفيف من هذه الظاهرة عبر إحداث عديد الآليات التشغيلية الوقتية (البنك التونسي للتضامن) والتشجيـــع للإنتصاب الحر..الخ إلا أنها كانت جميعها عبارة عن وصفات علاجيـــة غيــر نافعــــة، بل زادت الوضع تعقيدا وتهميشا ومعاناة اكثر لهؤلاء المعطلين لأنها لم تعتمد برامج مدروسة وحلول استراتيجية لقضية البطالة. بل سعت من خلالها الدولة الى محاولة تسكين الأوجاع ولم تقم بالتشخيص لمعرفة أسبابها وتعالجها بشكل فعلي ونهائي.
 
ثانيا: الأهداف العامة لإصلاح التعليم العالي وتجليات المهننة
 
نقصد بمصطلح "المهننة"(professinnalisation) عملية ربط التعليم العالي من حيث البرامج والمناهج والشعب (المسالك) بتحقيق معرفة أكاديمية ومهارات وكفايات مهنية وتقنية/فنية بالأساس من أجل الاستجابة إلى مطالب المحيط السوسيو ـ اقتصادي والثقافي. فهذا المصطلـــح  أي "المهننـــة" مستقــــى من عالم الاقتصاد والشغل والهدف منه جعل التعليم يقوم على التخصص المهني أو الحِرفي من أجل القيام بأشغال وأعمـــال معينـــة. وبالتالـــي أصبح مطلوبا من المؤسسات الجامعية أن توفر لروادها (الطلبة) تكوينا ذا مواصفات وكفايات "مهنية" واحترافية تتوافق مع خصوصيــــة المهنـــة أو المهمـــة والدور الذي سيقوم به في المؤسّسة المشغلة.  ومهننة التعليم العالي هي تكريس للمقاربة الاقتصادية "المقاولاتية" لهذا القطاع. وهـــي الأداة الفعالــــة والعمليـــة ـ حسب الخطاب الرسمـــي للدولـــة ـ أيضا لربطـــه بالتنميـــة، وذلك بعد أن أصبحت مخرجاته غير ملائمة لطلبات سوق الشغل، ولآليات اشتغال الاقتصاد وتطور المجتمع بشكل عام.   
    لقد أدّت التحوّلات النوعية الشاملة للبيئة المجتمعية (الثقافة والاجتماع والاقتصاد..) في علاقتها بالتكوين إلى تفاقم ظاهرة بطالة الشباب المؤهل والحامل للشهادات العلميـــة والتكوينيـــة العليا والمتوسطة. وفي "ظل هذا المناخ الموسوم بالتأزم والتوتر، بدأت تظهر موجات من النقد، بل والاتهامـــات الموجهــــة إلى النظام التربوي ومؤسّساته المختلفة متهمة إيّاه بإنتاج الأزمة الآنفة ، وبمنظور اختزالي ضيق قد يكون قاصرا أو مغرضا وغير بريئ في منطلقاته الفكرية والسياسيــــــــــة والأيديولوجيـــــة الظاهـــرة منهــــا والمضمرة"(8). لكن هناك فرق بين النقد من أجل البناء، والنقد الذي يهدف إلى تقويض هذا لبناء. والنقد الموجه للمؤسسة التعليمية من قبل الرأسمالية يستهدف تفكيك هذه المؤسسة والتخلي عن مبدأ مجانية التعليـــم وعموميتـــــه. فقد تحولت الرأسمالية إلى "مصنـــع للتفتيـــت"(9)  وعـــدم الأمان الاجتماعي والبيئي والاقتصادي للمجتمعات المعاصرة...الخ.
  لكي نفهم سياق التحول الذي يعيشه الحقل التربوي عموما والتعليم العالي في بلادنا ينبغي علينا أن نعود إلى سياقه التاريخي والاجتماعي والقانوني والسياسي العام. وفي هذا الإطار سنكتفي ببعض الإشارات والمسائل التي تبدو في نظرنا ذات أهمية في بحثنا.
   لقد شهدت بيئة التعليم الجامعي عديد التغيرات وفرضت أمام الجامعات عديد التحديات منذ بداية التّسعينيات من القرن الماضي، لذلك تزايد الاهتمام اليوم بموضوع العلاقة بين مخرجات الجامعة ومطالب سوق الشغل  وذلك عبر الدعوة إلى تغيير البرامج التعليمية والمقاربات البيداغوجية حتى تكون متوافقة مع التوجــــه العـــام نحو حاجيات سوق العمل. فالسياسة التعليمية الجديـــدة  تسعـــى إلى تسخير الجامعة لخدمة الصناعة وإلى فك الارتباط بين الوظيفة التعليميـــة للجامعـــة وبيـــن وظيفتهــــا في البحث العلمي وتوطينه في بيئتها الاجتماعية. 
  وعندما نعود إلى نص المخطط الخامس للتنمية (1977ـ 1981) يتبين لنا اتجاه الدولة بشكل واضح في مستوى توزيـــع الطلبـــة على الشعب وميادين التكوين المختلفة. فإذا شهدت الشُعب العلمية والتقنية ارتفاعا أو زيادة في طاقة استيعابها، فإنّ أقسام الشعب الإنسانية والاجتماعية شهدت تراجعا حينا واستقرارا أحيانا أخرى. فسياسة الدولة المتحكمة في بنية النظام التربوي أعطت الأفضلية لقطاعات على حساب الأخرى(10). 
    كما نقرأ في الفصل الثاني من القانون الأساسي لسنة 2008 المتعلق بالتعليم العالي(11) ما يلي:
 يضطلع التعليم العالي والبحث العلمي بالمهام الأساسية التالية:
 1ـ تنمية المعارف ونشرها لتأسيس اقتصاد يقوم على المعرفة، ودعم تشغيلية الخريجين وذلك في نطاق الشراكة مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،
2ـ القيام بالبحث العلمي وتطويره وتنظيمه ودعم جودته والمساهمة فـــــي التجديـــد التكنولوجــــي والعمـــل على توظيف نتائج البحوث في مجالات التكوين والتنمية،
3ـ إسداء التكوين الحضوري والتكوين عن بعد والتكوين المستمر والتكوين بالتداول والتكوين حسب الطلب وتوفير فرص التعلم مدى الحياة..الخ.
  ومن خلال الأهداف العامة للإصلاح التربـــوي للتعليـــم العالـــي "نظام إ م د" جاء في العنوان الثالث لهذا القانـــون (12) ما يلـــي حول: أهداف الإجازة التطبيقية:
    يهدف التكوين في الإجازة التطبيقية على إعداد الخريجين للاندماج المهني أو بعث مشاريعهم الخاصة. وهي ترمي إلى:
 1ـ إكساب الطلبة معرفة نظرية ومهارات عملية وتطوير ملكات الابتكار لديهم بما يتيح ممارسة مختلف المهن والوظائف المرتبطة بقطاع اقتصادي معين في سوق الشغل الوطنية والدولية،
 2ـ تأهيل الخريجين لمواكبة التطورات المستقبلية للمهن والوظائف،
3ـ ترسيخ ثقافة المشاريع وإحداث المؤسسات وتجديدها لدى الطلبة.
   إن مختلف هذه الأهداف تركّز على مفهوم "المهننة" والاحترافية في مستوى التكوين والوظيفة. أي أصبحت الوظيفة الفنية للتعليم العالي هي الوظيفة المهيمنة على أهداف الجامعة باعتبارها ستمكن المتخرج من إمكانية الاندماج في سوق الشغل. وبالتالي لم تعد الجامعة مؤسسة علمية وأكاديمية وبحثية، بل تحولت وفق المقاربة الليبرالية الجديدة إلى مؤسسة مهنية وظيفتها تدريب المتعلمين وتمكينهم من كفايات مهنية وعملية حسب حاجيات سوق الشغل المحلي والوطن. وهذه التفرقة بين الشُعب التعليمية التي تفضـــي إلى تخصص مهني من جهة، وبين الشُعب ذات التوجه التكويني العلمي العام من جهة ثانية"جعلت التلاميــــذ يتوجهـــون إلى شعب قد لا تلائم إمكانياتهم المعرفية وميولاتهم الحقيقية، ومبررات ذلك هي الاندماج في سوق الشغل وتخوفهم من الإقبال على تخصصات "العلوم الرّخوة" (les sciences moles))(13)  .
  لقد أدّى تبني التوجه نحو مهننة التعليـــم العالــي" إلى تحميل التعليم مسؤولية بطالة الشّباب المتعلم مع إغفال ما للسّياسات الاقتصادية والاجتماعية التشغيلية العامة بدورها من تأثير فاعل في إنتاج وإعادة إنتاج وتأزيم هذه المعضلة التربوية والاجتماعية التي أمست من بين أبرز تمظهرات الأزمة الخانقة في بلداننا"(14). وهكذا تحوّلت المهننة في نظر البعض(15) إلى مجرد دعوى أيديولوجية مضللة عندما اعتبرت أنّ مهننة التعليم والتكوين هو الحل الأمثل لبطالة الشباب ولأزمة سوء التطابق أو عدم التكامل بين النظام التربوي والنظام الإنتاجي. وتحجب هذه الخلفيات تلك العلاقات والتبادلات الظاهرة والضمنية القائمة بين أنظمة التكوين والتشغيل والاقتصاد والمجتمع بشكل عام، والتــي دون استحضارهــا فــي أي سياســـة تربويــة أو اجتماعية لا يمكن حل معضلة البطالة أو تحقيق التنمية. وبالتالي يجب علينا أن ننتبه إلى الهجمـــة التي يتعرض إليها هذا القطاع في مستوى مكاسبه التاريخية من حيث عموميته ومجانيته. وحتى لا تكون المؤسسة الجامعية  العمومية هي المسؤولة عن حل مشاكـــــل التنميــــة والتشغيــــل، والحـــال أن عـــلاج هذه الظاهرة يجب أن يدرس ضمن رؤية استراتيجية تعتمد فيها المقاربة التشاركية بين مختلف المتدخليـــن في هذا الحقل وتشمــل مختلـــف القطاعـــات الأخــرى، كما أنه لا يمكن أن نصلح التعليم دون أن نصلح بقية النظم الاجتماعية والاقتصادية الأخرى في المجتمع .
 
الهوامش
(1) ملخص ورقة شارك بها الباحث في الندوة العلمية الدولية الأولى " خريجو المؤسسات الجامعية في تونس: بين راهن التكوين واشكاليات التشغيل"، نظمتها كلية الآداب والعلـــوم الإنسانيـــة بصفاقــس، من 28 إلى 30 نوفمبر 2012.
(2)  التقرير الصادر عن البنك الدولي في شهر فيفري 2008 تحت عنوان: الطريق غير المسلوك ـ إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيـــا"، بين أن من نواقص الجامعات العربية هي أن العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي ضعيفة، وأنه لم يتم بعد كسر الفجوة بين التعليم والتوظيف.
(3) محمد متولي غنيمة، التربية والعمل وحتمية تطوير سوق العمالة العربية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1998، ص 15. 
(4)François Partant, la fin du développement  Op.cit, p. 156.
(5) المسح الوطني حول التشغيل، المعهد الوطني للتشغيل.
(6)  برنامج الاصلاح الهيكلي بدأ العمـــل بـــه منــذ سنــة 1986 إثر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد وأدت بهـــا إلى الإفلاس مما استوجب تدخل البنك الدولي من خلال تقديمه إعانات مشروطة وتتمثل أساسا في فرض سياسة الخوصصة والانفتاح على االرأسمال العالمي. 
(7) عبد المجيد الجمل، "التدريب النقابي حول سياسات التشغيل واستراتيجيات الحد من الفقر" مـــن الـــدورة التدريبيــة بإيطاليـــا بين 12 سبتمبر و7 أكتوبر 2005، منظمة العمل الدولية. 
(8) ـ مصطفى محسن، "تمهين التعليم والتكوين: مقاربة سوسيولوجية نقدية للخلفية والسياق والآفاق" من  البيئة المجتمعية للعمل، مقاربة نفسية ـاجتماعية، (مؤلف جماعي) منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 161، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولة، 2009، ص ص 7ـ29.
(9) ديفيد هارفي، "الرأسمالية مصنع التفتيت"، ورد في ن تيمونز روبيرتس وأيمن هايت، من الحداثة إلى العولمة الجزء الثاني، ترجمة، سمر الشيشكلي، عالم الفكر، العدد 310، ديسمبر 2004، ص 169. 
(10) ـ محمد باشوش، " مساهمة في دراسة وظائف الجامعة التونسية"، المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، مرجـــع سابــق ص ص 5ـ 38.
(11) القانون عدد 19 لسنة 2008، المؤرخ في 25 فيفري 2008 المتعلق بالتعليم العالي، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية 4مارس 2008.
(12) ورد فـــي : مذكـــــرة إطاريـــة لاعتمـــاد " أ.م . د" عدد 30 لسنة 2006، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة العامة للتجديد الجامعي.
(13) الحبيب درويش، " أي دور للعلوم الإنسانية والاجتماعية داخل المؤسسات الاقتصادية" مقال منشور على الموقع التالي www.yemnitta.com. 
—————————