نقاط على الحروف

بقلم
نعيم الظاهري
أدب المُفاصلة في الفكر القومي أو في الأصوليّة القوميّة

 ارتبط الكـــلام على الأصوليـــة والسلفيـــة بالحركات الدينيــــة التي نشأت، في صيغتها الحديثة، مع الجيل الأول من رواد النهضة العربية. أما الصيغ القديمة فبعضها يرقى إلى مرحلة "العقل العربي" بالتعبير الجابري، أو إلى ما قبله، حيث الصراع كــــان، في أحـــــد وجوهـــه، بين العقـــــل والنــــص، أي بين الإبــــداع والتحجـّــــر، أو بين الثابت والمتحول(أدونيــــس) أو بيــــن التـــــراث والتجديــــد (حسن حنفي)، ثم صار، في زماننا، بين الأصالة (العودة إلى الأصــــول) والحداثـــة (كأن الحداثــــــــــة خروج على الأصـــــول)، أو بيــــن العلـــم والإيمـــان، أو بين الشرق والغرب، وهي كلها ثنائيات مغلوطــــة لا تصلح لتشخيص أزماتنـــــا ولا لوصف العـــــلاج. بل لأن التباس أدوارنا في حل الأزمات العربية، القطرية والقومية ، يقتضي القيام بعملية نقد للنصوص وللأسلاف على حد سواء ، ويكون النقد أكثر جدوى ومصداقية إن هو بدأ بنقد الذات قبل نقد الآخر.

من هنا كانت فرضيات عن وجود أصوليات ماركسية وأخرى قومية، بدأت محاولات  الكتابة فيها  منذ مطلع التسعينيات (وتركز معظم النقد حول الأصوليات الماركسية).أما اليوم ، مع عصر الثورات العربية صار ينبغي أن يكون نقد الأصولية القوميـــــة أكثر جـــرأة، بل صار يستساغ الكلام اليوم عن وجود قاسم مشترك كبير بين المكونات الدينية والاشتراكية داخل الحركة القومية. الحركة القومية بكـــــل مكوناتهــــا انطلقــــت من أن سبب الأزمة خارجي : إنه الصهيونية والامبريالية والاستعمار( والرجعية بصفتها من عملاء الاستعمار والاستكبار...). ومن سلالة هذا الاعتقاد وعلى أساسه نشأت نظريات ووضعت خطط للمواجهة، كان من أبرزها نظرية المؤامرة وخطة الممانعة. ومنهما توالدت سلسلة مـــــــن المصائــــب المتتاليـــة من النكبة إلى النكسة ( الهزيمة ) إلى نقض شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية بل إلى تحقيق نقائضها، إذ بديلا عن الوحدة تفككـــــت دول وأوطـــــان، وبديلا عن الحرية انتشرت الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وبديلا عن "البحبوحة" الاشتراكية و"الرفاه" الرأسمالي كان جوع وأمية وتخلف ودويلات قراصنة وقبائـــــــل وعشائــــر وأفخــــــاذ، الــــخ. وصــــولا إلى كل الانتصارات الوهمية التي سوّغت بقاء القائد إلى الأبد وبرّرت الاستبداد. نظرية المؤامرة سلطت الضوء على عدو خارجي ، ما يعني أن وحدة الأوطان العربية والأمة العربية ليست ضرورة بنيوية داخليــــة بل هي حاجة وأداة تمليها آليات المواجهة مع العدو الخارج. هذا منبع الشوفينية و الشيزوفرانيّة والتعصب وكره الآخر الذي يبدأ بالأجنبي والغريب والوافـــــد خاصّة من التراث الغربي، وينتهي بالرأي المختلف حتى لو كان صاحب هذا الرأي ابن جلدتك وشريكـــك في المواطنية. وهو منبع الاستبداد (لأن من معاني الاستبداد الاستفراد بالرأي) وبالتالي تغييب الديمقراطية ، ولهذا لم توضع الديمقراطية علـــــــى جـــــدول عمــــل التاريــــخ العربـــي الحديث، إلا مع الثورات المظفرة الراهنة. نظرية المؤامرة غيّبت الأسباب الحقيقية لبقاء الأمة العربية في عداد دول العالم الثالث ، ثم سقوطها في خانة الرابع أو الخامس في التصنيف. وهي التي صوّبت النظر إلى غير المصدر الحقيقي للتخلف، بل إلى غير تاريخه الحقيقـــــي. إذ هو يعود بحسبها إلى مرحلة الاستعمار، في حين أنه متأصـــــل في تاريخ أبعد، أي منذ أن دخلت الأمة عصر الانحطاط وانهيار الدولة العباسية والحروب الصليبية وتيمورلنك وهولاكو والمغول وتدمير المكتبات، وخروج العرب من الأندلس، وبالتالي سيادة الجهل والأمية في ليل الأمة الطويل .لا يجوز إدراج هـــــذا الكـــــلام في خانة الدفاع عن الاستعمار والصهيونية والقوى الخارجية كلها، بل هو دعوة إلى إزالة الأوهام عن مناهج النظر إلى تاريخنا القريب والبعيد وإعادة الاعتبار للتحليل العلمي ولدور العوامل الداخلية الحاسم في صنع التاريخ، من غير إغفــــال لتأثيــــر ما ودور يمكن أن تلعبه القوى الخارجية. أليس هذا ما أثبتته الثورات العربيــــة التي صنعها شباب الأحياء في تونس وشباب مصر على سبيل المثال، ذلك أن قوى الغرب و"الإستعمار والصهيونية و الإستحمار والاستكبار" ارتبكت حيالها، ولم تعرف كيف تتخذ موقفــا أو قــــرارا بالتأييــــد أو بالتنديـــد، غير أن هذه الثورات كشفت ستار الوهم عن نظريــــة المؤامــــرة، إذ لم يقتصر الارتباك على الخـــــــارج بـــل أصـــاب في الصميم العقل السياسي القومي المهيمن على الأمة العربية، ذلك أن القوى القومية، بتياراتها الأصولية المختلفة، توزعت بين مؤيد ومعـــــارض ومتــــردد، لأن الخيط الهادي في تحليلها انقطع أمام عاملين مستجدين في تطورات المنطقة : الأول تشديد الثوار على العامل الداخلي مختصرا بمحاربة الاستبداد ومرموزا إليه بشعار إسقاط نظام التوريث السياسي والفساد وقوانين الطوارئ، والثاني دخول ظهور القوى الخارجية كعامل ملتحق بالأحداث لا كصانع لها.
من الطبيعي أن تتناسل من نظرية المؤامرة خطة للمواجهة استقر إسمهـــــــــا علـــــى "الممانعــــة" بعد أن استخدم الفكر القومي الأصولي للتعبير عنها مصطلـــــــح "الصمــــــود والتصـــدّي". المشترك بين العبارتين، على كل حال، هو سلبية الخطة واختيار الدفاع بدلا للهجــــــوم. ذلـــك يعنــــي أن الأصوليـــة، على أنواعها كانت تعــــــرف مـــــا لا تريـــده، وترتبك في تصوير ما تريده. كل الأصوليـــــات المعاصــــرة، بهذا المعنى أقرب إلى منطق الرفض الذي لا يبني خطة ولا وطنا ولا حضارة بل يكتفي بالانكماش على الذات والتقوقع على العجز. الــــلاءات لا تبنـــــي وطنــــا، قيل هذا عند تأسيس الجمهورية اللبنانية، وقيل كذلك في غمــــــــــرة النضـــــال الفلسطينــــي المسلـــــح. ما يبني هو المشروع الإيجابي لا الخطة السلبية. الممانعة تعني، ظاهريا فقـــــط، عــــدم الموافقــــة على ما "يطبخه" تكتيك العدو الخارجــــي، والبقـــــاء في الانتظار أو في " المُمانعة"، إلى أن تنتصر "المؤامرة" أو تتغير الظروف فيتراجع أصحابها عنها بإسم "فلسطين"، وفي الحالتين تدعي الممانعة لنفسها شرف عدم التفريط، النظري فقط ، بالقضية. غير أن هذا هو التفريط بعينه ، لأن التاريخ لا يقبل الانتظار ولا يسير بوتيرة الممانعة ، فالتاريخ علم صيرورة الإنسان بعبارة تشاندل. الحركة القومية العربية وافقت على التقسيم الذي كانت قد رفضته غداة النكبة . كان الثمن نكســـة أو نكبة جديدة وعشرين عاما من الممانعة تصديا للمستبد الخارجي وتعزيزا للاستبداد الداخلي. وهي وافقت على الصلح والمفاوضات والاعتراف في مدريد بعد أن كانت قد رفضته في لاءات الخرطوم الشهيرة. كان الثمن انخراط الحركة القومية كلها في غزو العراق، وثلاثة عقود من الحروب والحروب الأهليـــــــة مــــــن المحيـــط إلى الخليج. الدخول إلى مرحلة الهيمنة الأصولية كلفنــــا قرنيـــن من القراءات المغلوطـــــة للتاريـــخ ومــــن البرامــــج المستحيلة التي اختارت إما شدّ التاريــــخ إلـــى الــــوراء  والنكوصيّة إما القفز فوق التاريخ  وفوق الواقع أي الوقوع في الممكنات بتعبيرة الجابري...