الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محمد كشكار
المجـالات المعرفيـــة الأساسيـــة المَنسيـــة فــي تكويــن المدرّسيــن التونسييــن

 أنزلت وزارة التربية والتعليم التونسية منشورا يحث المدرسين ابتدائي وإعدادي وثانوي على التكون في مجال الإعلامية (استعمال الحاسوب و البرمجيات و السبورة التفاعلية لأغـــــراض التدريــس في القسم ”.Les T.I.C.E“). احتج المدرســـــون النقابيـــون على الوزارة وعارضوا التكوين في العطل المدرسيــة وطالبوا بأجر مناسب للمدرس المكوّن بكسر الواو.

سبق لي أن عملت مكوّنا لأساتذة علوم الحياة والأرض لمدة عامين. يستغرق إعداد حصة التكوين نصف شهر تقريبا. أعرضها وأناقشها مع الزملاء خلال أربع ساعات. أتقاضى على كل ساعة تقريبا دينارين ونصف (ما يقابل دولارين تقريبا). هل أجرُ عشرة دنانير يساوي جهد نصف شهر من البحث والتنقيب؟ عندما تستدعي الوزارة محاضرا جامعيا لتكوين أساتذة الثانوي أو معلمي الابتدائي تغدق عليه في الحصة الواحدة من 100 إلى 200 دينار. أنا أحترم العلم والعلماء والأساتذة الجامعيين والناس أجمعين وأطالب بمساواة المكونين في الأجر خاصة أن الكثير من المكونين من أساتذة الثانوي حاصلين على شهائد مرحلة ثالثة مثل الماجستير والدكتورا.
أرجع الآن إلى موضوعي الأصلي الذي من أجله أكتب هذا المقال وهو يتمثل في تذكير الزملاء والوزارة بأن التكوين في الإعلامية مهم و لكن الأهم منه هو التكوين في العلوم الضرورية لأداء وظيفة المدرس على أحسن وجه وهي العلوم التاليــــة: التعلّميــــة ”La Didactique“ و علم التقييم ”L'Évaluation“ و علــــــــــم نفـــس الطفــــل ”La psychologie de l'enfant“ والإبستومولوجيا   ”L'Épistémologie “ وربيبتهـــــــــــا إدراك عمليـــــــــــــــــــــة الإدراك ”La Métacognition “.
 لا تمثل الإعلامية علما بل أداة تكنولوجية عاجزة بذاتها وحدها ولا يمكن تفعيلها دون استعمال العلوم المنسية في التكوين. تحرص الوزارة على التكويـــن في الإعلامية فقط وتهمل العلوم الأخرى فمثلها كمثل ”من يهدي نظارات طبية لضرير“.
أذكّر زملائي أولا والوزارة ثانيا بأهمية العلوم المذكورة أعلاه لعل الذكرى تنفع المتعلّمين.
 
(1) التعلّمية ”La Didactique “ 
تهتم بالمعرفة وعلاقتها بالتلميذ والمدرس أكثر من اهتمام البيداغوجيا بطرق التدريس. يركّز هذا العلم خاصة على كيفية تعلم المتلقي و يعلّمه كيف يتعلّم. عدم إلمام المدرسين بهذا العلم يفســــر مقولة العالم الابستومولوجي الفرنســـــي باشـــلار ”المدرســـــــون لا يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون“.
 
(2)علم التقييم ”L'Évaluation“
علم قائم الذات يدرّس في الجامعات. تسمح آليات هذا العلم بتقييم مكتسبات التلميذ قبل وأثناء وبعـــــد الدرس. تساعـــد نتائجــــه على تحسين مردود المعلم والمتعلّم. مثل المدرس الذي لم يدرس أكاديميا التقييم كمثل "تاجر يزن سلعة دون ميزان.
 
(3) علم نفس الطفل ”La psychologie de l'enfant“
يفتح هذا العلم عيون المدرسين على عالم الطفولة والمراهقة ويكشف لهم "ما خفي من جبل الجليد النفسي عند التلميذ" فتتوضّح لديهم الرؤيا ويظهر لهم أن ”اللامعقول في تصرفات التلميذ هو في صلب المعقول النفسي“، فيعذرون حينئذ ويفهمون أسباب وعمق بعض السلوكيات التلمذيـــة العنيفــــة أو الخارجـــة عن المألوف ويكفّون عن التعامل مـــع التلميذ كمــــا يتعامــــل ”عالــــم النفس السلوكي مع فــــــأر التجارب يحدد لــــه المدخـــــل والمخرج في المتاهة“.
(4) الإبستومولوجيا ” L'Épistémologie “
 
 هي ”مبحث نقدي في مبادئ العلوم و فـــي أصولهـــا المنطقيــة“ و تهدف إلى الكشف عن الآليات و المفاهيم التي تعتمدها الثقافـــة في إنتاج المعرفة و نقدها. هي ”معرفة المعرفة أو نظرية المعرفة العلمية“. يحتاج لهذا العلم كل من يدرّس العلـــــوم معلمـــــا كـــان أو أستاذا.  عندما يعرف المدرس أن العلم لم يلد كاملا بل تكــــوّن على مراحل و بعد أخطاء جسيمة ارتكبها العلماء العظام، حينئذ يعذر ويتسامح ويفهم أخطاء التلميذ و لا يحمّله ما لم يقدر عليه كبار العلماء و هو الفهم المباشر و السريع للمسائل المعقدة في الرياضيات و الفيزياء و علوم الحياة و الأرض
 
(5) "إدراك عملية الإدراك ” La Métacognition “
يتمثل ”في التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل“ و كما قال بيـــار قريكـــو: ”لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف، عرف لماذا يقول لا، لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية“ أو كما يقول المثل الصيني المشهور ”لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطـــــاد“ والسمكـــــة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد هو ”إدراك عملية الإدراك“. أثناء "إدراك عملية الإدراك" ينشط التلميذ ذهنيـــا و ليس تطبيقيـــا و قد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح بالوعــــــي و الشعور بالإجراءات و الطرق و السيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسّخ اكتسابها. 
 
خلاصة القول
جل الأساتذة لم يدرسوا هذه العلوم في الجامعة و أنا اكتشفتها بعد 24 عام تدريس و الأستاذ أقل حظا من المعلم في هذا المجال وحتى من علم وتعلم لا يستطيع أن يطبق النظريات الجديدة في نظام تعليمي يعتبر الارتقاء الآلي ديمقراطية والتقشف في استعمال الطباشير حكمة. مدرسة ابتدائية دون ميزانية وميزانية المعهد تصرف في تسخين مكاتب الإداريين و طباعة الامتحانات والمناشير. السبورة التفاعلية [Le tableau interactif] ليست عصا سحرية سوف تخرج تعليمنا من المحلية إلى العالمية ولن تغير بين عشية وضحاها وضعا متخلفا وتسيبا عاما وتجهيزات مهترئة وأجورا زهيدة وبيروقراطية متكلّسة وقرارات فوقية وإملاءات خارجية و خريجين عاطلين عن العمل لمدة سنوات.
أنا عندي تجربة بسيطة مع توظيف التكنولوجيا الحديثة في التعليم: منذ ثماني سنوات وبضربة حظ، جهز لي وزير التربية التونسي السابق منصر رويسي مخبرا بعشر حواسيب لتدريس علوم الحياة و الأرض في معهد برج السدرية ومنذ  تاريخ مغادرة الوزير للوزارة في 2001 نسوني وتركوني أتخبط وحدي دون فأرة ودون برمجيات ودون صيانة و دون تجديد الحواسيب حتى هرمت ولم تعد صالحة للاستعمال.
في فرنسا لا تدرس الإعلامية كمادة مستقلة بل تستعمل كأداة تدريس في كل المواد منذ عام 2000