شخصيات ملهمة

بقلم
نعيم الظاهري
علي شريعتي راهنا

 رغم أنّ مشروع علي شريعتي التغييري والإصلاحي قائم بالدرجة الأولى على« العودة إلى الذات»  شأنه شأن معظــــم المصلحيــــن مع فارق الكثافة الإصلاحيّة لصالح « فيلسوف الثّورة» إلاّ أنّه تبقى المقولة الأكثر مركزيّـــة فــــي أفكاره ومشروعه «التفكيكي» لأسباب الأزمة وسبل علاجها هي مقولة «النباهة والإستحمار» والّتي تصنّف مساره الإصلاحي على علم الاجتماع السياسي الّذي أوصله إلى «نباهة فرديّة» مفادها أنّ الإسلام ما هو إلاّ دين اجتماعي وسياسي، لا مذهبــــــــي «صفــــوي» و لا صوفـــــي ولا فلسفي أو غير ذلك بل كان هدفه بناء شبكة العلاقات الاجتماعية المتجانسة بتعبيرة مالك بن نبي. فشهيد عالميّة الإسلام نموذج للمثقّف الإسلامي العضوي المطلوب اليوم وغدا، الجامع بين استيعاب التراث وتمثّل الفكر المعاصر والتشبّع بالرّوح النقديّة، ويبقى التعريف بشريــعتي الّذي يكاد لا يعرفه النّاس اليوم عندنا لأسباب إستحماريّة منها «المذهبيّة الضيّقة» والّذين يعرفون عنه شيئا تغيب عنهم أشياء ويبقى التعريف بسيرته وفكره خطــــــوة ضروريّـــــة هي وحدها القادرة على أن تعطي لحياتنا الثقافيّــــــة ما هي في حاجة إليه من القدرة الذاتيّة على التصحيح والتجديد. فالشّهيد كتب« الشهادة» وكان من الشهداء قبل الثّورة الإسلاميّة بعام، هو شهيد الفكر والثّورة معا، ليس شهيد إيران فحسب بل يعتبر كل من عاصره أمثال « فرانز فانون» شهيد العالم الثالث، شهيد الحريّة والتحرّر . يتميّز معلّم الثّورة بمقوّمات شخصيّة تحمل «ذات ثوريّة» ولا تحمل بعـــــــدا واحــــدا، جمع بين العلم والفضيلة فكان يجسّد الفكرة الّتي قال بها سقراط وهي  أنّ المعرفة أساس الفضيلة «الفضيلة علم و الرذيلة جهل» فالعالم لا يكون إلاّ فاضـــــــــلا في تصوّر سقراط وإذا كان هذا التصوّر لا يجد له تطبيقات كافية في التاريخ فإنّ شريعتي أو « المعلّم الحاضر الغائب» بعبارة ميشال فوكو في وصفه لفيلسوف الثّورة، كان من القلائل الّذين إقترن لديهم العلم بالفضيلة، هذا ما جعلــــــه متميّزا عــــن غيــــره من المفكّرين في عصره أنّه جمع بين علم الإجتماع الدّيني والسياسي وبين واقع الأمّـــــــــة الّتي إستبدّ بهــــــــا « مذهب الدُوار». فكان شاهدا على عصـــــره وعلى صراع «الحق والباطل» في معركة التاريـــــخ، فكل الساحات هي كربلاء وكل الأيّام هي عاشوراء، فمسؤوليّة المثقّف وإحدى أولوياته هي الشّهــــــادة على العصر قبل التعبّد والانشغال بأكثر الأعمال قداسة. فتحرّر الشعوب لا يمكن أن يتم إلاّ من خلال فك رباعيّة قوى الإستحمار الجديدة المتمثّلة في « الإستعمار، الإستغلال، الإستعباد، الإستحمار» فكان فقيها عالما أوّلا ثمّ فيلسوفا ومحلّلا للظّاهرة السياسيّة والاجتماعية وكان رجل حركة دينيّة ثالثا من خلال محاضراته في «حسينية الإرشاد» الّتي إستقطبت الآلاف من شباب الجامعات. نحن في أمس الحاجة لثورة فكريّة شاملة، في حاجة إلى بناء جيل ثوري بمفكرين أحرار يحاكون شريعتي ولا أقول يكرّرونه بل يلتمسون روحه وأفكاره ، فالشّهيد كُفّر في إيران الشاهنشاهيّة آنذاك واتّهم بأسلمة أوروبا من خلال نصرته لحركة تحرير الجزائــــر خاصّـــــة، ربّما هذا ما جعل سارتر يقول جملتــــــه الشهيرة فيـــه « لو تعيّــــــــــن عليّ أن أختار دينا لأخترت دين علي شريعتي».

فالإستفادة من تجربته خصوصا في هذه اللّحظة التاريخيّة الرّاهنة ببناء جيل واع بقضاياه دون وصاية وبدون قيـــــــــود، غاضبـــــا على الواقع بإمتلاكه «نباهة جماعيّة» مسلّحا بعلوم العصر وممتلأ بثقافة وتراث الأمّة لا فقط باللغة والتاريخ، هذا الجيل هو من سنعوّل عليه في الإصلاح والنّهضة والبناء والتقدّم. غنـــــــيّ عـــن الذّكــــر أنّ مشروع شريعتي القائم على خصوصية نلحظها في كلّ كتاباته، هذه الخصوصيّة تتجسّد في « مذهب الاعتراض» فهو شيعي أحمر، فالتشيّع لعلي هو التشيّع لقيم العدالة الإنسانيّة أو ما يطلــق عليـــــه « التشيّع مسؤوليّة». وتثوير المفاهيم أو توليد المفاهيم «المفهوم صديق الفيلسوف» بعبارة جيل دولوز، من خصائص كتابات شريعتي ومحاضراته الّتي تصل إلى 150 مؤلَّف. لا يكتفي شريعتي بالتحليل والتفكيك منعزلا في برج الفلسفة والنظريّــــة بـــل أبــــى إلاّ أن يمارس ويناضل ويسجن ليكون من الشهداء، فالشّهادة عنده حضور ولذاك فهو الشهيد الحاضر. لعلّ مشكل الحضور يقابله إشكال العودة، فالعودة إلى السلف أي المنبع وإرجاع الجِدّة الأولى للدّين من منابعه الصافية أي النّهضـــــة أو ثـــورة المستضعفيــــن ضدّ الملأ، يلخّصه شريعتي ويعطيــــــه مفهـــــوم « الدّين الرّسالي» أي قبل ظهور المذاهب، فالرّسالة للنّاس من « ملك النّاس» من آخر سورة في القرآن وأوّله « الحمد لله رب العالمين» فالعلاقة بين الله والنّاس تكامليّة إذ لا وجود لملك بــدون نــــاس يسوسهــــم وأيضا لا وجود لناس بدون ملك يحكمهم. يتجاوز شريعتـــــي هذا ليقــــــول إنّ كلمة «الله» في القرآن تعني«الشّعب». بهذا الفهم الثّوري الجديد يختلف شريعتي مع روّاد الإصلاح للنّهضة الأولى بالنّسبة لمدرسة محمّد عبده والأفغاني. أمّا بالنّسبة لشريعتي، فالنّهضــــــة محمديّة ثمّ النّهضة حسينيّة. ففهم الدّين كما فهمه سلف الأمّــــة يتعــــــارض مع مقولة العودة إلى الذات ولو تشاركت السبل واختلفت الغايات. فالعودة كما عرضها شهيد الفكر« العودة إلى الثقافة الإسلاميّة والإيديولوجية الإسلاميّة وإلى الإسلام لا كتقليد أو وراثة أو نظام عقيدة موجودة بالفعل في المجتمع بل إلى الإســـــلام كإيديولوجيــــة و إيمان...» فالعودة إلى الثقافة الإسلاميّة تقتضي عمليّة تفكيــــك قبل كلّ شيء بين الإســــلام كإيديولوجيــــــة والإســـلام كعقيــــدة وبين الإسلام السّابق للإيمان، هذا الفصل بين الإيديولوجي والعقدي سيقتضي بالضرورة إعادة الوصل بين الفكر الإسلامـــــــي النّاتــــج عن جملة من المقالات والحورات والآراء المختلفة بين الفرق والمذاهب وحتّى العلماء المحايدون في تاريخ الإسلام حتّى عصر النّهضة خلال القرن التاسع عشر، وصولا إلى الحركــــــة الثقافيّــــة في إيران ما قبل الثّورة أو فترة الثّورة الثقافيّة الّتي سبقت الثّورة الإجتماعيّة، وبين الإسلام الثّابت على مبدأ التوحيد، الإسلام الرّافض لدين الشّرك الّذي ظلّ مواكبا لدين التوحيد ولم يتم القضـــاء عليـــــه بل هو ماثل إلى حدّ الآن وهو ضرب من « الشّرك الاجتماعي»، نضيف الأركان الخمس ونضيف لهم« الولاية» وبين الإيمان العقلي والقلبي أو البرهاني والعرفاني. يؤكّد شريعتـــــي علـــى أنّ العـــودة لا تعني العودة إلى«عراقة الحمار» بل هي العودة إلى الذات الموجودة في قلب المجتمع. لعلّ شريعتــــي يقـــارب هنا بين فهمه و فهم غرامشي في ضرورة توحيد الجماهير المتديّنة كي لا تنفصل الفئة العليا أي النخب والفئة الدنيا أي العامّة والتوحيد هنا لا يمكن إلاّ بالعودة إلى الدّين الشعبي أو الإجتماعي. فالنّضال المجتمعي موكول للقوّامين بالقسط و للمستضعفين ممن ينتظرون وعد الله لهم ”ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين“. هذه النباهة الاجتماعية لا يمكـــــن أن تتحقّـــق إلاّ بحضور الخليفة الإنسان في الأرض أي في المجتمع، ففلسفة الإنسان لا يمكن أن تؤدي إلى صناعـــــة الحضــــارة إلاّ بفكّهــــا من الاستهلاك «الحضارة الاستهلاكية» ومعالجتها. فالجدليّة المركزيّة حسب شريعتي تتمثّل في« فلسفة المجتمع» وهو العلم الأوّل آليّا في «فلسفـــــة التاريـــــخ»، فالإســــلام وليـــد المجتمــــع أو هو «دين اجتماعي» وربّما يكون معلّم الثّورة قد تأثّر بكتابات ”برتراند“ راسل في ذلك الوقت في ضرورة الجمع بين الدّين الشّخصي والدّين الإجتماعي. لعلّ شريعتي رحل ولم يكمل مشروعه فهو إذن مشروع مفتوح يقبل النّقــــــد والإضافــــات والتطويــــر، لكنّه ضروري في توحيد الأمّة بين فرقائها في العقيدة أصحاب التسنّن وأهل التشيّع وتوحيد جهودهما وفي الحوار بين الإخـــــوة في الإيمان وتصويب كلّ النباهة نحو وحدة الأوطان ووحدة الرّابطة الإسلاميّة والإنسانيّة تجاه رباعيّة قوى الإستحمار والاستكبار بقيادة الإمبرياليّة والصهيونيّة ونبذ « النّظرة الفأريّة» للدّيـن وللثّقافــــة وللتّـــراث ثمّ للكون والعالم، فالإسلام رسالة عالميّة ثانية، والرّسالة ثّورة ودم، ثورة على الاستغلال والجور وخلق للعدل والمساواة والحريّة، فلا خوف على الإسلام من الحريّة ولا خوف على الحريّة من الإسلام ولاهم يحزنون. فالإسلام لا يكون إلاّ مستقبلي والحداثة أيضا مشروع مفتوح، وبمناهج الحفر والبحث والتفكيك مثل الّتي أوردها علي شريعتي يستطيع كلّ ذات مسلمة أن تأمـــــر بالمعروف وتنهى عــن المنكر وهــــــــذا دور الفاعــــل الاجتماعي و « المثقّف المســـــؤول» الّذي يكون لصيقا بالواقع، فالمفكّر بين النّاس وفـــــي الشــــاّرع لذلك يعطينا شريعتي حكمة مفادها أنّه يفضّل المشي فـــــــي الشّارع خير له من الجلوس في الجامع وهو ينظر لحذائه، إنّها فلسفة المشّاءون و كأنّه يرمي إلـــــى تذكيرنــــــــــا بحركــــــة الحنفـــــاء وفيما بعد بأصحاب الصُفّة. إنّ المصلــــح شريعتـي كــــــان ثائرا ضدّ انحراف واقعه ولم يكن ثائرا ضدّ التقدّم، فالعالم تبرزه أخطار عصره كما يقــــــول جمال الدّيـــن الأفغانــــي. وإن كان شريعتي تفاعـــــل مع عصره ولكلّ عصر إمامه وإمامه العقل فنحن معشر جيل الشّباب جيل الصّيرورة الثوريّة، جيل مؤمن بالتعدّد والاختلاف وصراع الأفكار وتعــــارض المصالـــح ما دمنا في ساحة التّاريخ فهناك تعارض بين «القطب القابيلي» و«القطب الهابيلي» بين معسكر النّاس والمجتمع الأهلي وملك النّاس «الله» وبين معسكر الشّرك الاقتصادي والإجتماعـــــي، معسكر المطفّفيـــن في الميزان.