مواقف وآراء

بقلم
علي الطرهوني
ازمة النخب السياسية التونسية ورهانات المرحلة

 مقدّمة

يتميّز عالمنا الراهن بصفتين متلازمتين هما التسارع وانعدام التأكد، فكل شيء يتسارع بصـــــورة مفاجئــــة ســـواء على مستـــــوى التحـــوّلات السياسيـــة والاقتصاديـــة أو على المستوييـــن العلمـــي والتقنـــــي. فعمر التقنيات في تناقص، إذ بمجرد نشوء تقنية في الأسواق إلاّ وتكون التقنية الجديدة جاهزة هي أيضا للسوق. وهذا من فضل ثورة المعلومات التي ستفتح المجـــــال لثورة الشعوب بعد أن تخترق موانع التواصل الجماهيري.
أما صفة انعدام التأكد ، فكل شيء أصبـــــح قابلا للتغيّر كما تشهد على ذلك مختلف التقلبات على الساحة الكونيــــة فلـــم يعــــد هنــــاك ضمــــــان لأي شيء "Rien n’est garantie". وحتّى الأنظمة السياسية لا توجد لديها مرجعيّات تشكّلها وهو ما يجرّني للحديث عن أزمة النخب السياسية في وطني تونس. 
 
قراءة الراهن
 
إن ما يحدث اليوم في عديد البلدان العربية بمختلف توجهاتها السياسية وأنظمة حكمها الشمولية رئاسية كانت أو طائفية، ملوكية أو برلمانية أو عشائرية ، قبلية أو حزبية ( تونس، مصر، ليبيـــا، سوريـــا، اليمـــــــن، البحرين، المغــــرب... والقائمــــة تطــــول ) يطرح عديد التساؤلات وأوّلها سقوط الإيديولوجيــــات. فالشعوب التي تقود ثورتها لإسقاط الطغاة تتحرك بدون توجّهات حزبية أو خلفيات عقائدية إنما تأكّد لدينا أن عصر الإيديولوجيات قـــد ولّــــى وانتهـــى ولـــم يعـــد هنـــــاك مبرر أو حاجة لأحزاب سياسية.
إذن أين تتجلّى مظاهر الأزمة لدى النخب والأحزاب السياسية التونسية ؟
لقد استنزفت النخب السياسية التونسية جهودهــــا منذ فترة ثمانينات القرن الماضي حين كنّا في الجامعة في تصفية خصومها من يساريين وإسلاميين وبعثيين وقوميين ناصريين وغيرهم. ولم يدرك هؤلاء أن هذا التناحر والتقاتل والعنف الثوري تحت مسمّيات مختلفة سيؤدّي إلـــــــى إضعــــــاف هذه القوى وعدم تجذّرهــــا في الجماهير الشعبية . والمؤسف أن هذه الصورة تكرّس المزيـــــد من التفرقة مثل قضية العلمانية واللائكيّة بما يسهّل أمام السلطات القائمة مواصلة مشروعها لفرض الحصار عليها وعودة الأجهزة البوليسية للعمل تحت مبدأ ”فرّق تسد“ وفي العصر البائد تمّ تدجين واحتواء بقية الأحزاب الباقية التي لا تشكّل خطرا يذكر بعد التخلّص من المعارضين لها كالنهضة وحزب العمال الشيوعي ومنظمات حقوق الإنسان. 
واليوم بعد أن تخلّصت هذه الأحزاب الفعلية من شبح الاستبداد السياسي مع نسائم الثورة المجيدة وعوض أن يترك المستبدّ والحزب الحاكم المنحل تقاليد انتقال السلطة بصورة سلسة تيسّر تجربة الانتقال الديمقراطي بمرونة، غادر وترك خلفه مجموعات تتقاتل على السلطة والبعض هرول لاقتسام الغنيمة. لقد اشتغلت الأحزاب الموالية للنظام البائد بعد أن تخلّصــــت مــــن معارضيهــا في بناء المساكن عوض بناء الأوطان ومن الكتابة عن التاريخ عوض المساهمة في صنع التاريخ والآخرون لم يراجعوا ولم يقيّموا التجارب السابقة ، بينما انكفأ المثقفون الملتزمون بمواقع الربوة واعتزلوا العمل السياسي والنضال الثقافــــي ليس جبنا وإنما تعفّفـــا أو إشفاقا وحتّى يأسا مـــــن الولاءات الاجتماعيــــة.وكشفت بعض الفضائح  أن بعض الأحزاب تسلّمت مبالغ مالية من الدولة لقاء صمتها أو تخاذلها أو ... رشوة (إعلان السيد عبد الفتــــاح عمـــر ، رحمه الله، رئيــــس اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة عن قيمة المبالغ التي تسلّمهـــا بعض رؤساء الأحـــزاب المواليـــة من بن علي)
إذن سقطت شرعية الكثير منهم ،إن كانت لهم شرعية، وفقدوا سيطرتهم على الواقع. وكانت أطروحاتهم مثالية، انفعالية التسيير، براغماتية التّوجه. ولم تسعفها حماسة الشّعارات عن صناعة المستقبل الحقيقي للبلاد وللجيل القادم.
إن الشباب المهمّش الذي وقع تهميشه ليس معنيّا بهذه الشعارات فقد سلب حقّه ودوره في قضايا وطنه. إذن ما هو المطلوب للخروج من الإحباط السياسي والإفلاس الاجتماعي؟.
   
التحديات المطروحة
على النخب السياسية ورهانات المرحلة
 
ماذا ينتظـر الشعب والشبــــاب اليـــوم مـــن النخب السياسيــــة ؟ وما هي رهانات المرحلة واستحقاقاتها؟
لو تأملنا الشعارات التي رفعهـــا الشبـــاب التونســـي في ثورة 14 جانفي 2011 ، لأمكن اختزالها فــــي شعاريــــــن أساسييـــــن : شعار التشغيل ”التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق“ وشعار الكرامة ومحاربة الفساد ”نظام حرية كرامة وطنية “. فهذا الشباب الذي كان عبئا على سلطات الاستبداد المصادرة للخيرات الوطنية، أصبح هو وقود الثورة وتسلّم زمام المبادرة. لقد أكثر من الاعتصامات لأنه ملّ الوعود التخديريّة المراوغة مقترنة بالشدّة والتهديد بقبضة البوليس وهو الحامي للثورة. هو شباب الظّل المهمّش الذي انفجر بشكل فاجأ الرأي العام.
لقد تجاوز الشعب نخبه السياسية وصار هو القائد والمبادر والموجّه. إذن لم يعد الشباب في حاجة إلى قيادات مستهلكة وشعارات جوفاء وصراعات فكرية تستنزف الطاقات، إنما يحتاج إلى تأطير وتوعية كي لا يسقط في الوصاية والعنف.
فهل بوسع مجتمعاتنا النامية السيّر الحقيقي في طريق الثورة المتطوّرة إن هي افتقدت الحوار الحرّ وتبادل الرأي المسؤول مع احترام الآخرين مع جميع النخب السياسية؟ فلا توجد ألف طريقة لذلك.
وإن كنّا نلوم الحزب المنحل بالاستفراد بالرأي والقرار والاستبداد، فلماذا يصرّ العديد من رؤساء الأحزاب السياسية على التمسّك بالمناصب والكراسي ولا يسمحون بتداول المسؤولية وضخ دماء الشباب في أحزابهم؟
إنّي أسأل وأقبل التواصل والنقاش. فثورة الشباب العربي هي ثورة ضدّ الخوف. لقد سقط زمن الخوف من السلطة بل تحوّل الخوف إلى السلطة ذاتها  رغم أنّ العلاقة المستقبلية يجب أن تبنى على الثقة المتبادلة والنقد البناء.
إن ثورة الشعب تحتاج اليوم إلى بديل وزعيم مثقف . فقد انتقلنا إلى مرحلة جديدة صرنا معها أقلّ تحكّما في المستقبل. لقد كان المثقف العضوي في طليعة الجماهير التي تنشد التغيير فهو الذي يبادر ويؤسس الجمعيات.
إن الرّهان المطروح مستقبلا هو كيف نربّي أطفالنا ونساءنا ونعلّم عمّالنا و"نرسكل" أعواننا وننظّف أحياءنا ونحارب البطالة والعنف المضرّ بشبابنا ونزور المرضى ونقاوم الإعلام التافه. وهكذا يعيد المثقف الملتزم وغير المنخرط  تأطير الشباب وحماية الثورة ...
ومن هنا نبدأ...