بحوث ودراسات

بقلم
يوسف رزقي
القانـون التونسي والتشريع الإسلامي

 تهم المرجعية الفكرية للقانون النخبة وعموم الناس في المجتمع على حد سواء . كما يكتسي للموضوع أهمية خاصة في الفضاء الاسلامي نتيجة الارتباط الحميم الموجود بين التعاليم الدينية والمعاملات الاجتماعية مصداقا للقولة المأثورة  "الدين المعاملة".

 تضاف لما تقدم أهمية راهنة للموضوع مردها اتخاذ عديد التنظيمات والاحتجاجات السياسية الحزبية والشعبية طابعـــا دينيــــا منذ إلغاء الخلافة الإسلامية  سنة 1924.
فلقد كان من ضمن المطالب المرفوعة لهـــذه التنظيمـــات والاحتجاجات احترام التعاليم الإسلامية بالمعنى الواسع ومراعاة أحكام القرآن والسنة عند وضع القوانين بصفة أخص . 
بل عرف المشهد السياسي العربي في العقود الأخيرة بعض التيارات الفكرية والسياسية التــــــــي لا تتـــردد في تكفير الأنظمة بسبب عــــدم تماشـــي تشريعاتهــــا مع القانون الإسلامي .
و تجددت راهنية  هذا الموضوع بعد الثورة المنجزة في تونس و الدعوة إلى مجلس تأسيسي يتولى إعادة صياغة العقد الاجتماعـــــي الوطنـــي أي الدستـــور مع ما يعنيه ذلك من إثارة العلاقة بين الدولة والدين في النظرية الدستورية و القانونية  في تونس . 
وتحاول هذه الدراســــة فهــــم التفاعـــل الحاصـــل بين الاختيارات النظرية على مستوى نصوص القانون  في خصوص المصادر المادية من جهة والواقع العملي عند تطبيق القواعد القانونية سواء مـــن المحاكـــم عند فض النزاعات أو في  السلوكــــــات الاجتماعيـــة في الفضاء المدني من جهة أخرى.
لكن يتجه في البدء طرح سؤال متى يمكن أن توجد علاقة بين منظومتين قانونيتين مختلفتين الأولى وضعية ( أي سارية المفعول رسميا بشكل مباشـــر) هي القانـــــــــون التونســــي والثانيـــة غير وضعيـــة ( أي غير معمول بها رسميـــا بشكــــــــل مباشــــر) هي التشريع الاسلامي؟ 
الجواب مفاده وجود علاقة كلما وجدت قناة تواصل بينهما وهي عادة التاريخ الثقافي عموما والتاريخ القانوني خصوصا.
وللتذكير فإن التشريع الاسلامي كان صاحب السيادة التامة على القانون المنطبق بالبلاد التونسية من بداية الفتح الاسلامي لإفريقية خلال القرن السابع ميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر. 
لكن متى يتم اختيار التواصل مع المنظومة الإسلامية أو تجاهلها كليا أو جزئيا  ؟ إنها لحظة التقنين. 
يعني التقنين في مفهومه البسيط تحويل قاعدة منظمة لسلوك اجتماعي ما من قاعدة عرفية إلى قاعدة مكتوبة عامة ومجردة وملزمة تصدرها سلطة مختصة ذات سيادة على الإقليم وساكنيه.  فهو إذن إخراج القاعدة من مصدرها المادي الذي يمكن أن يكون الدين أو الأخـلاق أو العلم أو الفلسفة أو الحقائق الاقتصادية والاجتماعية إلى آخره وتكريسها ضمن نص مكتوب له قيمة تشريعية يسمى المصدر الشكلي.                            
لكن يتجه في البدء تعريف مصطلحين مركزيين فـــــي هـــذا البحث هما القانون التونسي و التشريع الاسلامي .
يمثل القانون التونسي بالمعنى الضيق جملة القواعد العامة والمجردة والملزمة والصادرة عن السلطة التشـــــــــريعية ذات النظر طبق الدستور والمنطبقة في إقليم محدد هو البلاد التونسية. أما في معناه الواسع فهو هرم من القواعد أعلاه الدستور وأسفله المناشير .
وتدخل بالتالي ضمن هذا المفهوم جميع القواعد سارية المفعول مهما كانت طبيعتها والجهة التي أصدرتها سواء كانــــت نصوصـــا في شكل أوامر علية أو قوانين أو أوامر أو مراسيـــم أو قــــرارات أو غيرها ترجع لعهد الملكية أو لعهد الجمهورية .
بينمـــا التشريـــع الإسلامـــي هو جملة القواعد الفقهية التفصيلية المتعلقة بالمعاملات والمستمدة من القرآن والسنــة أو المستنبطــــة على هدييهما بمعونة أدوات الاستنباط المعروفة.
و بناء عليه يمكن حصر إشكالية الموضوع في طرح مكانة التشريع الإسلامي ضمن مصادر القانون الوضعي التونسي . 
و يجب أن تدرس هذه المكانة من خلال الوضع الراهن والمسارات الممكنة للعلاقة  بينهما.
و يكون من الأفضل اعتماد مخطط أفكـــــار فيــــه جانـــب ســـردي أقل للمعلومات لكنه يثير النقاش والتفاعل حــــول الموضــــوع وذلك بتوسعة مجال البحث ليشمل بالإضافة لما هو تقني وتاريخي ما يمكن أن يكون داخلا في علم الاجتماع القانوني والسياسي. 
ويساعد هذا المخطط علـــى بيـــان الإرادة الكامنـــة وراء الواقــــع التشريعي الراهن وآفاق تطور هذا الــــــواقع فــــي اتجاه أو آخــــر وذلك من خلال معاينة وجود تواصل محدود للتشريــــع الاسلامــــي في القانون الوضعي التونسي (الجزء الأول) ليتم اثر ذلك الكشف عن آفاق العلاقة بين  التشريع الإسلامي والقانون الوضعي التونسي (الجزء الثاني).
 
I/ التواصــل المحـدود للتشريع الإسـلامي
في القــــانون الوضــــعي التونسي
 
يلاحظ  الدارس دون صعوبة نوعا من التواصل بين المنظومة القانونية التونسية و منظومة التشريع الإسلامي. وهو تواصل استقر في الزمان مدة لا يستهان بها لكنه كان محدود المجال. 
ويتجه التساؤل عن أسباب المحدودية في التواصل (الفرع الأول) ليتم بعد ذلك عرض مظاهر التواصل المحدود (الفرع الثاني).
 
الفرع الأول : أسباب التواصل المحدود
 
توجد أسباب تاريخية للتواصل (الفقرة الأولى) وللمحدودية أيضا (الفقرة الثانية).
 
الفقرة الأولى: الأسباب التاريخية للتواصل
 
يفسر التواصل أولا و قبل كل شيء  بطول مرحلة سريان التشريع الإسلامي بالبلاد التونسية مما غرسه في الضمير الجمعي والسلوكات الاجتماعية . 
فلقد مر القانون التونسي بثلاثة مراحل ترتبط بثلاثة فترات تاريخية هامة مرت بها البلاد .
◄ مرحلة النشأة : بدأت من سقوط قرطاج إلى الفتح الإسلامي وتميزت بهيمنة القانون الروماني .
◄ المرحلة الوسيطة : بدأت من القرن السابع ميلادي إلى القرن الثامن عشر وتميزت بهيمنة الفقه الإسلامي .
◄ المرحلة الحديثة : بدأت مـن القــــرن التاســــع عشـــر إلى الآن وتميزت بالتأثر البالغ بالقوانين الوضعية الأوروبية.
و يتبين مما تقدم أن المرحلة الوسيطة تواصلت أكثر من ألف سنة ازدهرت خلالها العلوم الشرعية بما فيها الفقه وخصوصا المذهب المالكي واشتهر خلالها فقهاء وقضاة مثل ابن سحنون و ابن عرفة ويحيى ابن عمر وغيرهم . 
و تم  خلال هذه الفترة الاحتكام الكلي للفقه الاسلامي في جميع المعاملات بين الدولة والرعايا والرعايا فيما بينهم .
لكن القرون المديدة التي ساد خلالها التشريع الاسلامي في تونس لم تكن على منوال واحد من حيث القوة الفكرية والنجاعة العملية. فالحقيقة التاريخية تؤكــــد أن التشريع الاسلامي لم يكن في أحسن أحواله لما بدأ التخلي عنه بصفة تدريجيـــــة فـــــي عصـــر التقنيـــن خلال القرن التاسع عشر .
فقد عانى هذا التشريع من علتين رئيسيتين  الأولــــــى هي الجمود والتقليد نتيجة غلق بــــــاب الاجتهــــاد وهي علة تهم منهج التفكير وتمنع التطور والثانيــة هي  الفوضى نتيجة عدم الاحتكام إلى منهج واضح فتجد نتيجة ذلك  في نفس المسألة الــــــرأي ونقيضــه وما بينهما آراء كثيرة وهي علة تضعف إلزامية القاعدة الفقهية وتمنع وحدتها .                   
كما عانت  تونس أيضا من  صعوبات إضافية تتمثـــــل في ازدواجية المذهب وتعدد المحاكم الدينية والمدنية وهو ما صير تونس قبل الاستقلال بمثابة الفسيفساء التشريعية والقضائية  .                             
 
الفقرة الثانية
الأسباب التاريخية للمحدودية 
 
تفسر المحدودية تاريخيا بالوضعية التي مر بها المجتمع التونسي لحظة التقنين الأول خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولحظة التقنين الثانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين باعتبارها محطات نوعية في العلاقة بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي .
فلقد كانت تونس تعاني خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ضغوطا كبيرة من القوة الاستعمارية الفرنسية ومن بعض قوى الضغط الأوروبية الأخرى التي لها مصالح ومطامع في تونس  .
وهو ما أدى إلى إجبار البايات على القيام بعديد الأعمال التشــــريعية في شكل أوامر علية تحت التأثير الأجنبي من ذلك إلغاء الرق في 1846 وإصدار عهد الأمان 1857  ثم الدستور سنة1861 و المجـــــــــلة المدنية والجزائية في نفس السنة وصفة البائع في عقود البيع في 1868 والتزامات الخماس في 1874 وإبرام الرهون العقارية فــي 1879 ...
و راعت هذه النصوص التشريع الإسلامي دون أن تتقيد به بصفة كاملة باعتبار أن الباعث عليها كان في جزء هام منه خدمة المصالح الأجنبية أي حماية الأجانب و خصوصا حاملي جنسية المستعمر. ولعل أهم نصين مميزين في هذا الصدد هما عهد الأمان الخاص بحماية غير المسلمين والأجانب وقانون التسجيل العقاري الصـــادر بتاريــــخ 1885/07/01 الذي يرمي إلى تسهيل استيلاء المعمرين على الأراضي التونسية خصوصا الفلاحية منها. 
ولم تكن تونس شاذة فــــي هذا الاتجاه إذ أن الخلافة العثمانيـــة أيضا تأثرت في نفس الفترة بنفس الضغوط وجارت حركة التقنين متأثرة بالقوانين الوضعية إلى حد ما شكلا وأصلا.
أما إبان الاستقلال فقد آلت سلطة القرار إلى النخبـــــة المسيســـة  التي ساهمت في الحركة الوطنية. وكان بعض هذه النخبة متشبعا بالثقافة الفرنسية أساسا وطموحـــــه متجـــه إلى تعصيـــر الدولـــة والمجتمع بما يتوافق مع رؤيته التحديثية.
 كما كانت علاقة هذه المجموعة المؤثرة مع الثقافة الإسلامية العالمة ضعيفة وإن أبدت في بعض الأحيان دفاعا عن بعض رموز هذه الثقافة إبان الكفاح الوطني أو أثناء توليها الحكم بعد الاستقلال لغايات سياسية دون أن تعبر عن قناعاتها الحقيقية .
 
الفرع الثاني: مظاهر التــواصـل المحـدود 
 
إن المطلع على المنظومة القانونية التونسية بمختلف فروعها مهما كان المعيار المعتمد في التقسيم قانون عام / قانون خاص أو معيار قوانين الباي / قوانين دولة الاستقلال أو معيار قانون دستوري / قوانين عادية أو معيار قوانين مدنية / قوانين جزائية فإنه سيصل إلى نتيجة واحدة مفادها أن قناة التواصل مع التشريع الاسلامي موجودة ولكنها ضيقة . 
و لقد تجسم التواصل المحدود  مع التشريع الإسلامي  في لحظتين  اثنتين صدرت خلالهما  مجلتان قانونيتان الأولى قبل الاستقــــلال هي مجلة الالتزامات والعقود (الفقرة الأولى) والثانية بعد الاستقلال هي مجلة الأحوال الشخصية (الفقرة الثانية).
 
الفقرة الأولى : مجلة الالتزامات والعقود
 
تعتبر هذه المجلة من أطول المجلات عمرا في تونس وأكثرها إتقانا من حيث محتوى القواعد القانونية المضمنة بها لهذا نالت شهرة بين رجال القانون في تونس وخارجها واختارت دولة الاستقلال الإبقاء عليها رغم أنها صدرت في العهد الملكي تحت إشراف السلط الإدارية الاستعمارية في 1906/12/15. وقد تمت إعادة صياغتها لتهذيبها بمناسبة مرور مائة عام على صدورها وذلك بمقتضى القانون عدد 87 لسنة 2005 المؤرخ في 2005/08/15 .
يعود أصل فكــــرة المجلـــة الى رغبة المقيــــم العام بتونس "ميلي Millet" في توحيد فقه القضاء المدني من خلال توحيد  القاعدة القانونية المنطبقة  .  لذلك أذن بتكوين مجلس خاص يعنى بتدوين القانون التونسي سنة 1896 كان من بين أعضائه قضاة فرنسيين ومقرر هو المحامي الإيطالي دافيد صانتيلانا . 
وقد أنهت لجنة القانون المدني أعمالها بإصدار مشروع نهائي سنة 1899 فاجأ المختصين بعدم تحيّزه للمجلة المدنية الفرنسية الصادرة سنة 1804 (مجلة نابليون ) وسعيه للتوفيق بين أحكام المجلات المدنية الأوروبية من جهة والفقه الإسلامي والعادات والأعراف التونسية من جهة أخرى.
 لذلك عند عرض المشروع على لجنة توجيه النظر الشرعي المكونة من مشايخ زيتونيين من بينهم سالم بوحاجب، محمد بيرم، أحمد الشريف  أجازته.
وخلافا لما يعتقده البعض من أن الكتاب المتعلق  بالنظرية العامة مأخوذ من القوانين الغربية والكتاب الثاني المتعلق بالعقود مأخوذ من الفقه الاسلامي فإن المجلة بجزأيها مستمدة  جزئيا من الفقه الاسلامي. بل يوجد تطابق كبير بين القواعد المنصوص عليها بالمجلة والقواعد الفقهية بعـــــد إخراجهـــــا من مظانها المختلفـــة في المذاهب الكبرى. كما ذكر نص المشروع التمهيدي صراحة بعض القواعد  التي تكرس أحاديث شريفة وعديد المراجع الفقهية المالكية والحنفية. والمثال الأبرز هو جملة قواعد القانون العمومية التي تعد خلاصة بعض المبادئ الكلية للفقه الإسلامي في ميدان المعاملات.
ولفهم وشائج القربى بين مجلة الالتزامات والعقود والتشريع الاسلامي لا غنى للباحث عن الكلمة التمهيدية لمقرر اللجنة الأستاذ صانتيلانا المحامي . فلقد أكد المذكور أنه قد "تم الأخذ من القانون المدني الإسلامي أهم مبدأين فيه وهما مبدأ المساواة الذي يؤدي إلى توحيد القاعدة إزاء الكافة ومبدأ حسن النية الذي يؤدي إلى توسيــــــع مجــــال الإرادة بعيدا عن التشبث بالشكليات ... كـــــل ذلك مـــــع التأكيــــد على العرف والعادة التي يعتبرها فقهاء الإسلام اتفاقا ضمنيـــــا مــــن شأنــــه أن ينشــــأ القانـــون وينقحه لأن ما استحسنه المسلمـــــون كان عنــــد الله حسنا ... كما أشاد بما كان للفكرة الدينيــــــة من أثر عظيــــــــم في إكساء الفقه بطابع أخلاقي يتجاوز بالقاعدة مجرد المصلحة الخاصة إلى ما هو أوسع.
لكن هذا المدح للفقه الإسلامي لم يمنع ”صانتيلانا“ من لمس مكمن الداء الرئيسي الذي قعد بالفقه الاسلامي عن تبوء المكانــــة الساميـــة وهو الميل للفوضى والعجز عن التنظيـــــم وهو نفــــس السبب في ضعف الشرق حسب رأيه في جميع الميادين. 
 
الفقرة الثانية: مجلة الأحوال الشخصية
 
إن مادة الالتزامات والعقود أقل حساسية من مادة الأحوال الشخصية من الناحية الدينية والاجتماعية لذلك لم تجد سلطة الحماية الفرنسية في العهد الملكي حساسية في تنظيم الأولى بينما أحجمت عن تنظيم الثانية خشية ردود الفعل العنيفة. و لم تتسن إعادة تنظيم مادة الأحوال الشخصية بشكل جذري صلب مجلة عصرية إلا فجر الاستقلال لما تتطلب مثل هذه المبادرة من جرأة سياسية .
ومنذ صدورهــــــا بمقتضـــــى الأمــــر العلـــي المؤرخ في 1956/08/13  نالت هذه المجلة عناية خاصة أكثر من غيرها من القوانين نظرا لأثــرهـــــا المباشــــر على التنظيم الاجتماعي من خلال نواته الأساسيـــــة وهي الأسرة والتصاق أحكامهــــــا الحميـــــم بكثيــــر من النصوص القرآنية والنبوية الصريحة.
فماهي الفلسفة التي نهض عليها تشريع الأحوال الشخصية بعد الاستقلال أمام الوضع الاجتماعي المتردي للمرأة المسلمة والأسرة المسلمة مثلما تعكس ذلك الدعوات الإصلاحية المتكررة في شأنها مشرقا ومغربا ؟
دونت مشروع المجلة لجنة مختصة ضمت بعض علماء الفقه الاسلامي إلى جانب آخرين. وكانت الاختيارات توفيقية و اصلاحية. 
فالمجلة كرست عديد الأحكام المستمدة من التشريع الاسلامي فيما يتعلق بأحكام المراكنة وموانع الزواج والطلاق والعدة والنفقة والحضانة والنسب والميراث وغيرها ... وحتى ما لم يكن معروفا في الفقه الاسلامي وتم اقتباسه من التشريعات الأوروبية وخاصة التشريع الفرنسي فإنه جاء غير متعارض مع أحكام التشريع الاسلامي وإن كان معارضا لبعض العادات الاجتماعية. 
لقد ارتأى واضع المجلة أنه بتغير العرف يتغير الحكم من مثل تحديد السن القانونية للزواج قصد إنهاء زواج الصغار أو وجوب عقد الزواج بصفة رسمية عوضا عن الصيغة العرفية لأنه أضمن لحقوق الزوجة والأبناء وأضمن من حيث توفير استقرار الأسرة  أو اعتبار الطلاق حكميا ووضع حد للطلاق العرفي الذي كان يخفي في كثير من الأحيان طلاق النزوة غير المتبصر رغـــــم آثــــاره الوخيمــة على الزوجة والأبناء.
وتواصـــل العمـــل الإصلاحــــي التشريعي بعد صدور المجلة  تترى. فمحرر مجلة الأحوال الشخصية في صيغتها الأولى سنــــــة 1956 كان في عجلة من أمره لذلك كانت موادها في غاية الاقتضاب تناست مواد داخلة في مجالها مثلت نقصا يجب تداركه. 
وهو ما تم فعلا بإصدار الكتاب المتعلق بالوصية سنة 1959 وبالهبة سنة 1964. بل إن المشرع عاد فحور بعضا من أحكام المجلة المستقاة من الفقه الإسلامي مطورا  إياها فـي اتجـــــــــاه الأحســـن مثال ذلك تحوير أساس الحضانة من الإسناد الآلي حسب قائمة اسمية إلى مبدإ عام هو مصلحة المحضون سنة 1966 . 
كما  تواصلت التنقيحات فيما بعد  من خلال إحداث الجراية العمرية سنة 1981 أو إلغاء واجــــب الطاعة وإرســـــــاء مبدأ المســــاواة بين الزوجين في الواجبات والحقوق وتغليب الحضانة على الولاية في بعض الصور بمقتضى القانون الصادر سنة 1993 .
لكل ذلك  لم تكن المجلة في الإجمال محل اعتراض من الطبقة العالمة بالتشريع الإسلامي لما تضمنته من مـــــــزج اختيارات محافظة على القديم وأخرى محدثة للجديد في أفق إصلاحي واحد استنادا إلى فهم مقاصدي للتشريع الإسلامي .
ويتجه التذكير في هذا المستوى بما جاء بكتاب الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" باعتباره مصدر إلهام المشـــرع في المجلة وحتى للقيادة السياسية في اختياراتها غير التشريعية.  فلقد ميز الكاتب بين ما جاء به الإسلام و ما جاء مـــن أجلــــه لذلك لم ير تناقضا بين أفكاره الإصلاحية والشريعة الإسلامية.
حقيقة الأمر أن أفكار الطاهر الحداد كانت متوائمة مع أفضل الاجتهادات الفقهية لمعاصريه من شيوخ جامع الزيتونة والديوان الشرعي من أمثال الحطاب بوشناق وعثمان بلخوجة وعبد العزيز جعيط ومحمد الطاهر بن عاشور وبلحسن النجار وأحمد بيرم. وخير دليل على ذلك أجوبة المذكورين  على اثنا عشر سؤالا حول المرأة في خصوص الزواج والطلاق والمساواة والمال والولاية والحجاب طرحها عليهم الطاهر الحداد ثم استهلم من أجوبتهم مادة دعوته الاصلاحية .  
لكن التوفيق بين الثابت من أحكام التشريع الإسلامي والمبادئ الجديدة المستلهمة من القوانين الأوروبية كانت له حدود . 
فالتوفيق لم يكن مبنيا حقيقة على الإقناع المتبادل في كل الأحــــوال بل كان ذرائعيا بين التيارين التقليدي والتحديثي في صور عدة  مثال تسمح لي بتمرير إلغاء جبر الإناث على الزواج فأسمح لك بالإبقاء على قواعد الميراث كما هي بنص القرآن .
كما لم يكن التعايش بين النزعتين على نسق واحد من التعـــــادل فقد  تم  أحيانا فرض إرادة سياسية في خصوص بعض الأحكــــام ولو كان في ذلك خروجا صريحا عن أحكام التشريـــــع الاسلامـــــي من حيث النصوص المؤسسة له قرآنا وسنة لاختلاف موازين القوى لصالح النخبة الحديثة.
لذلك عبر الشيخ جعيط  عن عدم رضاه عن الصيغة النهائية للمجلة واعتبرها مخالفة للتشريع الاسلامي . وهو ما ألجأ السلطة السياسية إلى إصدار التوضيحات تلو التوضيحات للتأكيد على عدم تعارض المجلة مع أحكام الفقه الإسلامي . 
ويمكن تخمين محل الاعتراض الأساسي على المجلة من المتمسكين بالتشريع الاسلامي في أمور خالف فيها المشرع التونسي النص الصريح مثال ذلك منع تعدد الزوجات واعتبارها جريمة يعاقب عليها بالسجن أولا واعتبار الطلاق ثلاثا مانعا أبديا  ثانيا. 
ذلك أن هذين الأمرين يعارضان النص القرآني الصريح في الإباحة. (في خصوص الأولى قوله تعالى:”وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع“  الآيـــــــة 3 من سورة النساء. وفي خصوص الثانية قوله عز وجل:”فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها  فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود يبينها لقوم يعلمون“ الآية 228 من سورة البقرة ).
و قد كان من الممكن اعتماد حلول أخرى في خصوص الحد من مساوئ تعدد الزواج من مثل تقييد الزواج بثانية بموافقة الأولى أو موافقة القاضي والاكتفاء بالجزاء المدني و هو بطلان الزواج الثاني دون تتبعات جزائية  . كما كان من الممكن الحد من ظاهرة  زواج "التياس" وذلك باشتراط انقضـــــاء مـــدة معينـــة على طلاق المطلقة ثلاثا  من زوجها الثاني للرجوع  للأولى  او إبطال زواج المحلل لعدم جدية الرضا.
 يضاف لما ذكر في المثالين أعلاه الواردين  بالمجلة مثال آخر  من خارجه  إجازة التبني بمقتضى القانون عدد 27 لعام 1958 المؤرخ في 1958/03/04 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني. وهذا مثال معاكس للمثالين المتقدمين لأنه أحل ما وردت آية صريحة في تحريمه وهي قوله عز من قائل:”وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين“.الآيتان 4 و5 من سورة الأحزاب. وقد كان من الممكن اكتفاء المشـــــــرع  بالكفالــــة دون ترتيـــب آثــــار نســـــب على من هو ليس بولد الصلب . 
لذلك اعتبر من اعترض  على المجلة زمن إصدارها أنها أحلت حراما وحرمت حلالا.
 
II/ آفاق العلاقة بين التشريع الإسلامي و القانون الوضعي التونسي 
 
إذا ما استثنيت المجلتان آنفتي الذكر لا يجد الدارس أثرا هاما وصريحا للتشريع الاسلامي في باقي المنظومة القانونية التونسية . فباقي القوانين التجارية والإدارية والجزائية والتنظيمية مستمدة من قوانين غير ذات مرجعية إسلامية لعل أهمها القانون الفرنسي . 
وهو ما يدعو إلى التساؤل عن مبررات هذا التخلي  (الفرع الأول) ولتتسنى عقب ذلك مناقشة هذه المبررات  (الفرع الثاني) .
 
الفرع الأول : أســـــــاس التخــــــلي
 
إن التخلي عن المرجعية الإسلامية له سببان الأول صريح مبناه مقولة الإسلام دين الدولة (الفقرة الأولى) والثاني ضمني مفاده السكوت عن مصادر القاعدة القانونية  بالدستور (الفقرة الثانية).
 
الفقرة الأولى
التصريح بأن الإسـلام دين الدولة
 
إن النخبة السياسية التي قطفت ثمار حركة التحرر الوطني التونسي كانت مشبعة تعليما وثقافة بمصادر فرنسية أساسا من مثل إعلان 1789 ودستور 1946 وكافة المدونة الفكرية الفرنسيــة سواء كانت فلسفية أم سياسية راجعة لعصر الأنوار أم لعصر الثورة وتداعياتهما .
ورغم  دفاع هذه النخبة في فترة ما عن الإسلام والثقافة الإسلامية بما فيها منظومة الأحكام الفقهية خلال نشاطها الســــــياسي الشعبي قبل الاستقلال فإنها اتخذت موقفا مغايرا لهذا بعد ارتقاءها سدّة الحكم وذلك استنادا إلى المعادلة التالية :
تثبت المعاينة أن وضعية البلاد التونسية قبل دخول الحماية وبعدها متردية على جميع الأصعدة بينما حال فرنسا كقوة استعمارية متقدمة  ماديا و معنويا . و من عناصر القوة الحضارة والثقافة بما فيها القواعد القانونية المنظمة للحياة . لذلك ما على تونس المستقلة إن أرادت النهوض والتقدم إلا أن تتبع سبيل الأمم الأوروبية وخاصة فرنسا التي تضمنت دساتيرها المتلاحقة ما مفاده أنها جمهورية علمانية ديمقراطية.
 و تعزز هذا الرأي  بالوضع الكارثي الذي انتهى إليه الرجل المريض من جهة والصعود الأوروبي الكبير على صعيد الثقافة السياسية والدستورية بعد الثورة الفرنسية من جهة أخرى.
 وصدقت مقولة  ابن خلدون أن المغلوب مولع أبدا بتقليد غالبـــه في حق الدساتير العربية الت جاءت نسخا مشوهة من الدساتير الغربية لا استمرارا لجهد زعماء الاصلاح الديني والنهضة العربية.
وبهذه الخلفية تفهم تجاذبات المجلس القومـــي التأسيســـي الأول الذي انتخب لوضع الدستور التونسي فجر الاستقلال . 
فعند الانطلاق كانت الفكرة الأساسية لدى المجموعـــة المهيمنـــــة في الجمعية التأسيسية أنه ليس في الإسلام تنظيم قانوني واضح للدولة وللسلطة السياسية إنما هناك مبادئ عامة تتعلق بالعدل والحرية والمساواة والأمانة أما باقي الأحكام التفصيلية المعروفة باسم الأحكام السلطانية فهي مجرد اجتهادات بشرية غير ملزمــــــة. و يتجه من ثمة الاكتفاء بغطاء فضفاض عام يسمى دين الدولة.
ويذكر في هذا الصدد محمد الشاذلي النيفر في شهادته في ندوة علمية حول المجلس القومي التأسيسي بوصفه عضوا فيه  أنه قبل بداية النقاش أشيعت لدى الأعضاء فكرة عزم بورقيبة و من معه على  تكريس دستور لائكي فقام بالاتصال بالمنجي سليم والطيب المهيري مذكرا إياهما بمساوئ إقصاء الإسلام من الدستور فتجاوبا معه . كما ذكر  نفس الأمر الطيب السحباني الذي تمت طمئنته بأنه لا يمكن فصل الدولة التونسية الناشئة  فصلا تاما عن الإســـــلام وأن موضوع اللائكية لم يثر على الصعيد الشعبي التونسي بقدر ما أثير في المحافل الفرنسية.
و بعد نقاش مطول  و استنادا على مقترح رئيس الجلسة أحمد بن صالح بالنيابة عن رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة استقر الرأي على استبعاد عبارة "تونس دولة إسلامية عربية مستقلة ذات سيادة" وتعويضها بعبارة  "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها". وبعد إعلان الجمهورية أضيفت كلمتا "والجمهورية نظامها ".
وقد  ذهب البعض الى أن عبارة الإسلام دين الدولة هي من قبيل الخبر وليست من قبيل الحكم الإنشائي معنى ذلك أن الأمر مجرد إعلام وتقرير لأمر واقع وليس التزاما بمرجعية.
 ومثل هذا الرأي مردود من ناحيــــة قواعــــد التأويــــل  لأن  عبارة " الإسلام دينها "  لم ترد  بالتوطئــــة حتـــى يمكن قبول النقاش في خصوص الزاميتها وإنما  هي عبارة واردة صلب الفصل الأول إلى جوار عبارات  حرة ومستقلة وذات سيادة ونظامها جمهوري.    و لا يمكن بالتالي القول أنها خبريــــة و إلاّ آل الأمر  إلـــى اعتبــــار أن الحرية والسيادة والجمهورية هي أيضا أحكام خبرية غير مقيدة للسلطة السياسية.
خلاصة القول أن هذا التنصيص الفضفاض القائل بأن دين الدولة الإسلام لم يكن ليجبر السلطة المؤسسة على احترام المرجعية الإسلامية و لا ليمنعها  لو كانت راغبة في  إعطاء مكانة مميزة للتشريع الإسلامي ضمن مصادر القواعد القانونية.
 
الفقرة الثانية : السكوت في الدستور عن ذكر مصادر القانون
 
امتد نفي وجود نظرية عامة مفصلة في الحكم في الإسلام و هو رأي صحيح  إلى نتيجة غير صحيحة تماما و هي إنكار وجود تراث قانوني زاخر ومتنوع خصوصا في ميدان القانون الخاص يشكل منظومة قانونية ثرية منهجا و أحكاما .
و على خلاف نواب التأسيسي الأول بتونس و الثاني فيما يبدو فان عديد الدول العربية نصت على مرجعية التشريع الاسلامي بصيغة أو بأخرى بحسب طبيعة ودرجة التبني للمرجعية. مثال ذلك الدستور المصري الذي نص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع و هذه المادة لم يطلها تغيير بعد التنقيحات الأخيرة إثر ثورة 2011/02/23 التي تمت المصادقة عليها في استفتاء بتاريخ 2011/03/29 بالموافقة. ونفس هذه المادة تقريبا موجودة بدساتير السودان والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت وقطر و سوريا .
وتترتب عن هذا التنصيص نتائج هامة على الصعيد الدستوري من بينها ضرورة ملاءمة القوانين العادية للتشريع الاسلامي وإلا عدت قوانين غير دستورية جاز الطعن فيها  .
لكن السلطة المؤسسة في الدستور السابق لم تخير أية صيغة من الصيغ المذكورة وسكتت تماما عن هذا. 
و لا يعني هذا السكوت حسب البعض  التخلي الكامل عن التشريع الإسلامي لأن بعض الدساتير لا تذكر مصادر التشريع مطلقا و رغم ذلك يولى له اهتمام عند التشريع و القضاء.
لكن هذا القول لا يتماشى مع الأعمال التحضيرية للمجلس القومي التأسيسي والنقاشات التي دارت فيه من جهة والسلوك التشريعي اللاحق لدولة الاستقلال من جهة أخرى .
فمن الواضح من التحليل أعلاه أن دولة الاستقلال اعتمدت منوالا في الشأن التشريعي يقطع مع المرجعية الإسلامية بما يصح معه القول مع أحد شراح الدستور أنها كرست  عَلمانية مستترة. 
 
الفرع الثاني : آفــــــــاق العلاقة
 
يمكن للأمور أن تبقى على ما هي عليه الآن أو تتطور في أحد اتجاهين : إما فك الارتباط كليا بالتشـريع الإسلامي كما هو حال عديد الدول الغربية كفرنسا أو بعض الدول الإسلامية كتركيا مثلا (الفقرة الأولى) وإما إعادة النظر في العلاقة بين المنظومتين على أساس جديد (الفقرة الثانية).
 
الفقرة الأولى : إتجاه فــك الارتــبــاط
 
لا يزال للتيــــار المتغـــلب إبــان الاستقلال أنصارا متحمسين لاختياراته لحد الآن بل هم مغالون في حماسهم 
للعلمانية شعارهم أن ما أنجز هام بالمقارنة مع الماضي لكنه غير كاف. وهذه النخبة تجاهر بالدعوة إلى فك الارتباط كليا بالتشريع الإسلامي وذلك من خلال إلغاء آخر ما يظن أنه عقبة أمام التحديث الكامل.                  
فهناك دعوات من هنا وهنــــاك للمســــاواة الكاملـــة فــــي الإرث بين الجنسين وتسوية الابن الطبيعي بالابن الشرعي ورفع جميع التحفظات الواقعة على بعض المعاهدات الدولية بسبب الخصوصية الثقافية لتونس كدولة وشعب ينتميان إلى العروبــــــة والإســـلام وذلك فيما يتعلق خصوصا بالمرأة والطفل. كما تشهد بعض الندوات حتى الدعوة إلى عدم تبني عبــــارة الإســـلام دين الدولة  أو الدعوة إلى إلغاء شرط ديانة الرئيس. بل إن الأمر وصل إلى حد بعض الممارسات الاجتماعية المستهجنة من مثـــــل علمانية الجنائـــز عند التأبين  من خلال الامتناع عن تلاوة الفاتحة أو حتى  الترحم على الميت عندما يكون أهل وأقارب وأصدقاء وزملاء المتوفــــــى من العلمانيين الأصفياء .
مثل هذا الاتجاه الفكري و السلوكي غير غريب على بعض النخبة في تونس التي شهدت تشجيعا على مواقف علمانية شاملة تهدف إلى استئصال الشعور و الفكر الديني من القلوب و العقول .
 فقد وصل الأمر أحيانا في العقود الأولى للاستقلال إلى حد سخرية  الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من بعض العقائد الإسلامية كالمعجزات المادية المذكورة بالقرآن تأييدا من الله لبعض أنبيائه ومن بعض الشعائر الإسلامية كالصيام والزكاة.
 
الفقرة الثانية : إتجاه توثيق  الصلة 
 
إن التخلي المنهجي عن المرجعية الإسلامية لـــم يستأصـــل  نهائيا من الضمير الجمعي علوية القاعدة القانونية الشرعية على القاعدة القانونية الوضعية والأدلة على ذلك كثيرة. من ذلك موقف المحاكم عند فض الخصومات بين المتقاضين على أساس القانون الوضعي في مادة الأحوال الشخصية بصفة أساسية وفي مادة الالتزامات والعقود بصفة ثانوية.
فلقد حاول القضاة جاهدين الإبقاء على الوصل الموجود بين القانون الوضعي التونسي والتشريع الإسلامي على الأقل في مستوى تفسير وإتمام القاعدة القانونية فــــــي حالتــــي الغمـــوض وسكوت النص في المادة المدنية بالمعنى الواسع للكلمة .
وكان فقه القضـــاء ملتصقا شديد الالتصــاق باجتهادات الفقهاء المسلمين وذلك كنوع من المحافظــــــة المبنيـــــة علــــى القناعــــة أو حتى على  رد الفعل.
كما أن عموم الناس يعتقدون لحد الآن في مرجعية التشريع الإسلامي في ميدان المعاملات الشخصية والمالية من ذلك تنامي المعاملات المالية غير الربوية .
و يرجع رفض بعض النخبة للتشريع الإسلامي جزئيا إلى الجهل بعوامل السعة والمرونة الموجودة ضمن آليات الاستنباط من جهة ومحدودية النصوص القطعية قرآنا وسنة المتعلقة بالمعاملات مما يكون معه للاجتهاد مجال واسع  من جهة أخرى.
فالتشريع الإسلامي كما يعلم ذلك خبراء القانون هو أحد الأنظمة القانونية الأربعة المعترف بها في تاريخ القانون. ويرجع ذلك أساسا الى دور العقل الخلاق في الفهم و التوليد والتنزيل حسب احتياجات الناس وتغير الأحوال ,
وكما قال الشهرستاني "إن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية ولا يمكن للمتناهي أن يحد اللامتناهي. لذلك علم أن الاجتهاد أصل  من أصول التشريع".
وخير دليل على أن العلم الموضوعي بالتشريع الإسلامي يفيد في تطوير القانون الحديث ما أثمره الزواج بينهما من إصدار مجلتين قانونيتين رائدتيــــن في تونس هما مجلة الالتزامات والعقود ومجلة الأحوال الشخصية. 
و تتجه هنا ملاحظة أن ولع بعض النخبة في تونس بالنموذج الفرنسي مبني على عقدة النقص و على عدم التبصر باختلاف البيئتين وخصوصا ما تميزت به التجربة الفرنسية من عداء مستحكم مع الكنيسة وصل أوجه في المرحلة اليعقوبية التي جرمت التدين أصلا .
كما أن المعاينة المعرفية لتاريخ الأفكار تفيد اختلاف الروح التي سادت تحت تأثير الوضعية و تلويناتهــــا من أن الدين في انكماش مع الروح السائدة في النصف الأول من القــــرن الحــــادي والعشريـــن والمصطبغة باتجاهات أكثر انفتاحا على تعقد الظاهرة الإنسانية بجميع أبعادها بما فيها البعد غير المادي  .
و الأبحاث الإنسانية في الغرب اليوم تؤكد على ضرورة تجاوز نموذج نظرية العلمنة كما صاغها ماكس فيبر في اتجاه التخلي عن طابعها العقائدي بعد المراجعات العميقة لمصادراتها التاريخية التي تبين خطأها.
 إن من واجب المثقف الذي يحترم نفسه أن يتساءل هل أن الاختيـــــارات السابقــــة للسلطـــة السياسيـــة في الميدان التشريعي كانت معبرة فعلا عن إرادة عامة بعد نقاش حقيقي وديمقراطي أم أن الأمر كان حصيلة القوة والحيلة. 
 في الختام الرأي عندي ضرورة تخلي التيار العلماني  عن الموقف المتشنج إزاء الدين أصلا و فروعا، عقيدة وشريعة الذي يحـــــاول فـــــرض نظرتــــه السلبيـــة على جمهور المؤمنيــــــن وتخلي التيــــار المتديــــن عن الموقف العاطفي إزاء التراث الفقهي الذي يخلط بين التعاليم السماوية القاطعة ورودا ودلالة واجتهادات البشر النسبية.
كما أن المثقف الحقيقي المعبر عن مطامح الشعب لا يفوته أن الشعب التونسي متشوف  اليوم للديمقراطية أكثر من تشوفه للعلمانية خصوصا في صياغتها الشاملة. 
 
مصادر البحث
 
I/ باللغة العربية:
 
1/ قانون مدني ، محمد كمال شرف الدين ، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية 2002 .
2/ الضمير والتشريع ، عياض بن عاشور ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى بيروت  1998 .
3/ كتاب مئوية مجلة الالتزامات والعقود 1906 ــ 2006 ، مركز النشر الجامعي ، تونس 2006 .
4/ بورقيبة والمسألة الدينية ، آمال موسى  ، دار  سيراس للنشر تونس 2006 .
5/ السياسة الشرعية ، يوسف القرضاوي ، مكتبة وهبة ، الطبعة الأولى القاهرة 1998 .
6/ التاريخ والقانون والحداثة ، محمد بن الأصفر ، دار الإتحاف للنشر ، طبعة أولى 1998 .
7/ مدخل للقانون الخاص الإسلامي ، فاخر سالم ، دروس مرقونة ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ، السنة الجامعية 1989/1990.
8/ المجلس القومي التأسيسي ، أعمال ملتقى أيام 29 ـ 30 ـ 31 ماي 1984 ، الجمعية التونسية للقانون الدستوري ، مركز الدراسات والبحوث والنشر 1984 .
9/ ملف حول العلمانية في السياق العربي الإسلامي : ثلاثة أجزاء ، مجلة الآداب البيروتية ، الأعداد  : 7 ـ 8 ـ 9 ـ 10 ـ 11 ـ 12 / 2007.
10/ تطبيق الشريعة واستمداد القوانين من معين الفقه الإسلامي ، وهبة الرحيلي ، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة عن جامعة الكويت العدد 9 ، ديسمبر 1987 ، ص 73 وما بعد .
11/ التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية ، محمد عبد الغفار ، مجلة الحقوق سنة 19 ، العدد 2 ، جويلية 1995 ، ص 255 وما بعد .
12/ قانون العا