افكار

بقلم
محمد الحمار
مشهدٌ من الوفاق ولا العيش 23 سنة أخرى في الأنفاق

 إنّ الوفاق الذي شرعت تونس في محاولة تحقيقــه قبــــل تاريــخ 23 أكتوبر المثير للجدل لا يكفيه الحوار من الصنف السياسي. فالتوافقات المطلوب بلوغها ترتطم بعائــــق أســــاس يبرز جليـــا في التجاذب بين رموز ثقافية عدة كل واحد منها يمارس الإقصاء تجاه البقية: حساسية إسلامية مفرطة تزعم تمثيل الإسلام، فرنكوفونية موالية للقوة الاستعمارية القديمة، يسار كان بالأمس القريب مشتتا لكنه بالرغم من أنه بدأ يلملم جراحه إلا أنه يبقى بحاجة لمشروعية مشتركة؛ هي وغيرها حساسيات تتنابز بالرموز والحال أنّ من الممكن تصحيح العقيدة السياسية بغية توحيدهـــا، وإلاّ فكل حوارٍ يهدف إلى بلوغ  توافقات سياسية إنما هو كمَثل دارٍ بلا قواعد، أو كمثل حُكم النظام المخلوع الذي قضى بأن يعيش شعب تونس 23 سنة في ظل الديكتاتورية النوفمبرية المقيتة.

 ولكي تُصحَّحُ العقيدة السياسية يتوجب أولا تعريف الوفاق من هذا المنظور التصحيحي ثم النظر في طريقة التصحيح. إنّ الوفاق يترجَم بالتوصل إلى تأسيس الحد الأدنى الممكن من التوحد الإيديولوجي كأرضية سانحة للاختلاف السياسي و للتعددية السياسية. فضمان التوحد الأدنى سينجر عنه تحرر المخيال السياسي حتى يصبح قادرا على حسن التصرف في الاختلاف وفي التعددية وعلـــى رعايتهمــا و الحفاظ عليهما . أما المبرر المنهجي الأساس لفكرة التوحيد والتحرير لا يوجد بصفة مباشرة في السياسة أو في الفكر السياسي وإنما في الواقع اللغوي وفي الواقع الديني للمجتمع. وهذا الواقـــع ذو البُعدين غير مطمئن بالمرة. فاللغة هي محمل الفكر والإيديولوجيا والسياسة، والدين بما يوفره من إيمان حي في الفرد والمجتمع هو المنهاج الذي من المفترض أن تستخدمه اللغة لكي تصل العقل المنتج لتلكم المحمولات بالواقع المعيــــش. لكن اللغــــة و الدين الآن بعيدان كل البُعد عن أن يقوما بهذا الدور التشاركــي. لذا فبتصحيحهما ستتحد الأرضية ويتحــــرّر المخيـــال السياســي أي تُصحَّحُ العقيدة السياسية وتصح. 
لكن البلاد التونسية بحاجة لحلول عملية عاجلة ومستعجلة. فهل سنشرع في الإصلاح الديني واللغوي ونضحي بالخـــلاص الآنـــي؟ أم  سنسكت عن تمادي الطبقة السياسية في ممارسة التجاذب والفرز الذين يتسبب فيهما الرضاء بعقيدة سياسية بالية ومتكلسة؟ لا هذا ولا ذاك سيشكل مخرجا من أزمة محتملة تحوم حول التاريخ الرمز المنقضي. لذا نقترح في ما يلي عرضا لتوليــــفٍ استباقــي لِما يمكن أن يؤول إليه الوضع الإيديولوجي لو تـــم إنجـــاز الإصلاح في مستوى التوظيف الصحيح للغة وللدين. وهي صيغـــة توليفية من بين صيغ أخرى تتكون من مواقف وآراء وانتقادات ومراجعات وتصورات سياسية وسلوكيات تخص العديد من القضايا لا يسمح لنا حيّز هذه الورقة بالتوسع فيها أو حتى عرضها. 
سوف نطرح هذه التجليات في شكــــل خطــــاب استباقـــي مباشـــر إلى مختلف الحساسيات وهي في وضعية قبلية للتوحّد، لنرى إمكانية تحوّل هذه الأخيرة نحو الأفضل بحسب المنهجية التي وصفناها وبالاستناد إلى قناعات حقيقية. ويكون الطرح كما يلي:
 
إلى العروببين وإلى الفرنكوفونيين
 
ما من شك في أّنّنا معشر التونسيين عــــربٌ معتـــزّون بانتمائنــا إلى الثقافة العربية الإسلامية. وفي اعتقـــادنا لم يعُد من مصلحتنا أن نقسّم أنفسنا كما نفعل بيـــــن الحقبـــة التاريخيـــة والأخـــرى إلى مستعربين أو مُعرَّبين أو عروبيين أو عُرْب أو عُربان أو حتى  "أعراب" . وما من شك أيضا في أنّ الكثيرين منا يتقنون اللغة الفرنسية، مما يجعلنا نعتز أيضا بالتراث الثقافي الذي جلبته لنـــا هذه اللغة ورسخته فينا، مما جعلنا نؤمن بتواصل التلاقح مع الثقافة الفرنسية في أشكالها المعاصرة. وقد يجد بعضنا ضالته الفكرية تارة في أدبيات الجاحظ أو المعري أو نجيب محفوظ أو علي الدوعاجي وغيرهم وطورا في كتابات جون جاك روسو أو ألبير كامي  وغيرهما. فاللغة الفرنسية وثقافتها يشكلان عامل تقوية وتوسيع يساهم في تشكيل الهوية الكبرى وبالتالي عامل تمكين للشخصية الوطنية والكبرى، لا عائقا أمام ذلك. كما نحن عرب يتقنون سائر اللغات الأجنبية وفي مقدمتها اللغة الانقليزية، مما يحثنا على مزيد التمكن من هذه اللغات وغيرها ابتغاء تطويــر مستـــوى التعامـــل مع الناطقين بها. في ضوء هذا نعتقد أنه لا يجوز أن نعرّف عروبتنا بواسطة إقصاء الفكر و الثقافة الوافدتين علينا بطريقة أو بأخرى. بل نميل إلى تعريف العروبة بأنها الاضطـــــــــلاع بكـــل الثقافـــات التي تداخلت مع ثقافتنا الأصيلة النسبية واعتبارها جزءً لا يتجـــزّأ من العروبة الجديدة. أما إذا أردنا إثبــــــات ذلك بالعمـــل الملمـــوس لا بالقول فقط فالطريق إلى ذلك هي تحويل الحداثة والمحصول الثقافي الذي نشترك فيه مع الآخر الذي ليس عربيا إلى اللغة العربية. عندئذ سنكف عن طرح مسألة التعريب كمشكلـــة عصيـــة، إذ إننا نكون قد أنشأنا عقلا لغويا ناطقا بالعربية لكنه متضمنا لفكر عالمي من حيث ثراءه الثقافي وأداءه الحداثي. فالمهم أن نكون قادرين على التعبير عن نفس الوطنيـــــة وعــــن نفس الانتمــــاء وعن التراث المشترك وعن التاريـــخ المشتــــرك بلغـــة مشتركـــة ألا وهي العربية، ولكن أيضا بكل لغة.
 
إلى العلمانيين والإسلاميين
 
"لا إسلامي ولا علماني". هذا هو الشعار الذي اشتغلنــا عليه منــذ أن تفطنا إلى أنّ كلا الطرفين في المعادلة يمثل لب مشكلة الفرز والاستقطاب. كما أن "الوسطية التأليفية" شعار آخر من الممكن الاستفادة منه بناءً على أنّ الترويج الشعبي وحتى الأدبي لمفردة "الوسطية" عادة ما يتوخى التبسيط السالب أي الـــذي يُفقـــد هذا المفهوم الديني/المدني في نفس الوقت معناه وقيمته، بينما الوسطية كما تبيّن لنا إنما هي مسارٌ لا مقالٌ. على أية حال ليس هنالك شعار واحد أو جانب واحد بقادر على تغطية العلاقة المتشعبة بين الدين من جهة وبين كل من الدولة والسياسة والمجتمع من جهة أخرى. ولكي يكون الحسم في هاته المسالة رياضيا، بالمعنَيَين الذهني والحركي، يؤول الأمر إلى طبيعة القراءة المعاصرة للدين الحنيف التي سيتبناها المجتمع. ولئن تبقى هذه القراءة من مشمولات المجموعة العلمية والثقافية وحتى الشعبية فإنّ ما نحن بصدد اقتراحه من أفكار مبادىء ترتكز على قراءتنا للإسلام، التي بدورها ترتكز على منهاج عام صالح لتوليد قراءات متجددة للإسلام سميناه "التناظر والتطابق بين الدين واللغة".
 
إلى اليساريين والعلمانيين التقدميين
 وإلى الإسلاميين والليبراليين المحافظين
 
من الناحية العلمية والمبدئية لا نبالغ إذا أقررنا بأن ليس هنالك فرق بين أن يكون المرء يساريا أو إسلاميا ولا بين أن يكون المرء ليبراليا أو إسلاميا. وانطلاقا من مسلمة مفادها أنّ الإسلام دين علم لا يسعنا إلا الانحياز للعلم مع الاستئناس بالواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي ساد على امتداد قرون والذي ذهب بمجتمع مثل مجتمعنا إلى مثل هذه الانقسامات بين علماني وإسلامي من جهة وبين إسلامي ويساري من جهة أخرى من بين انقسامات أخرى. ومَن يُبجل العلم سيكون قادرا على التثبت من حقيقة لا غبار عليها: لمّا نقوم بنمذجة سلوكياتٍ إسلامية على قاعدة الإسلام المصدري لكن بمقاييس الفكر السياسي المعاصر المرتكز على العلم وعلى قراءة تاريخية للإسلام ولحياة المسلمين سوف ننتهي إلى إثبات أنّ الدين الإسلامي ذو توجه يساري لا ذو توجه يميني كما يشاع ويُروّج له خطأ منذ أن ظهرت مفاهيم اليمين واليسار والوسط في الفكر السياسي الفرنسي إبان الثورة الفرنسيـــة فـــي 1789. وفي ضوء هذا فالمطلوب من الإسلاميين والليبراليين أن يُعلمنوا (نسبة إلى العلم) نظرتهم إلى الإسلام  حتى يقتربوا مـــا أمكنهـــم من المقصد اليساري الضمني في الإسلام. وحريٌّ أيضا باليساريين أن يراجعوا مرتكزات الهوية لديهم ليتفطنوا أن ليس هنالك مانـــعٌ في أن يُشكلوا اليسار المؤمن. فليس كل دين يأتي على اليميـــــــن في السياسة، والمداومة على تصنيف دين العلم على اليميــــــــــن في السياسة مرادفٌ لتبويب العلم نفسه على اليمين. وإلا فهل يحق أن نعتبر العلم والعلماء يمينيين لا تُرجَى منهم ولا مــــن أعمالهـــم ولا من بحوثهم رحمة للفقراء والمساكين والمستضعفين؟ 
 
إلى القوميين العروبيين وإلى الإسلاميين
 
أنتم الطرَفان اللذان يُجسمان المشكلة الهوياتية أكثر من سائر الأزواج. وأنتم الذين بيدهم الحل والربط بخصوص فك الاحتقــــان في ما بين سائر الثنائيات حتى نحقق الهويـــــة الكبـــــرى. والسبب في ذلك بسيط: "أنتم مع أنتم" تســــاوُون "نحــــن". كلانا عربي ولو لم يتكلم العربية وكلانا مسلم ولو لم يكن مؤمنا. فمن منا ليس قوميا ومن منا ليس إسلاميا إذن؟
إنّ الإسلام دين الفرد ودين المجتمع. والمجتمع هو مجال عمل الدين ومجال فعله ومجال تفاعل الأفراد والجماعات والجمعيات والمنظمات غير الحكومية معه. أما الدولة فهي الحارس الأميـــن على الإسلام وبالتالي ليست مجالا تحدُث فيه مباشرة الحركة الإسلامية بمختلف تلوناتها. إذا انطلقنا من هذا المبـــدأ فسنلاحـــظ أنّ هنالك تعارضا بين هذا المبدأ وبين وجود الحساسية الإسلامية الحركية السياسية في بلد مسلم مثل بلدنا. وبالرغم من أنه لزامٌ علينا قبول هذا الأمر الواقع ومسايرته، إلا أننا لا نتوانى عن إطلاق نداءٍ مُلحٍّ إلى كل النخب الفكرية وإلى القيادات السياسية مجتمعـــة، لا إلى الحساسيات الإسلامية فحسب، لتعديل دور الإسلام في الحياة العامة وما سينجرّ عنه من ترشيد للتديّن وذلك وِفق تلك القاعدة، قاعدة ما للدولة للدولة وما للمجتمع للمجتمع. فبهذا التعديل سيستردّ الشعب الإحساس بالاضطلاع بهويتـــــه القوميــــــة الطبيعيــــة والتي كان مسلوبٌ من قسطٍ كبير منها بحُكم استحواذ الحساسية الإسلامية السياسية على ذلك القسط. وبهذا التعديل سيستردّ الشعب أيضا هويته الإسلامية الطبيعية والتي كان مسلوبٌ من قسطٍ كبير منها بحُكم استحواذ الحساسية القومية على هذا القسط. ومن هنا يصير الإسلام افتراضيا ومبدئيا للجميع وتصير القومية افتراضيا ومبدئيا للجميع بعد أن يكون كلاهما قد تحرر من التجاذب إزاء الآخر. فيكون حينئذ الانصهار بين القومية والإسلامية. 
ومن هنا ننتقل إلى الدور الذي ستلعبه اللغة العربية في المجتمع المسلم. فمن جهة، مثلما صار الإسلام افتراضيا ومبدئيا للجميــــع، لم يعُد هنالك مانعٌ في أن تقتفي اللغة العربية، وهي بامتياز لغة القومية، لأثر هذه الأخيرة فتصير على غرارها هي الأخرى ملكا للجميع. ومن جهة أخرى، لمّا نعلم أنّ العقل اللغوي للناطقين باللغة العربية في المجتمع قد امتصّ اللغة والثقافة الفرنسيتين فضلا عن استيعابه لكل وافدٍ من الثقافات واللغات الأخرى التي انفتح عليها المجتمع وتعامل معها العقل اللغوي، سنتأكد من أنّ توسّع اللغة للعربية قد بلغ مستويات عالية جدا. وخلاصة القول أنّ "العربية للجميع" ستعني أنّ المسلم عربيٌّ وانّ العربيّ مسلمٌ وأنّ من كان يسمى فرونكوفونيا أضحى عربيًّا متفتّحًا وأنّ العربيّ هو من ينطق بالعربية كلغة أمّ ومَن ينطق باللغات الأخرى مع بقائه عربيّا.
 
إلى المتفتحين المتأصلين وإلى المنفتحين المغتربين وإلى المنغلقين المنطوين على ذواتهم
 
إن التعامل بندية مع الأمم المتقدمة ابتغاء شذب التبعية هو المحور الرئيسي في الحديث إليكم. والندية المنشودة تضعكم أمام تحدٍّ حضاري لبلدان قد منحَها تقدمُها مبررا للهيمنة على بلدان مازالت تبحث عن نفسها مثل تونس والوطن العربي بأكمله. أما الأحقيـــة في تحقيق الندية فلهُ مبرراته في الثورة وفي أهداف الثورة وفي الرغبة في تحقيقها. ومن أخطر الجوانب التي ترتسم فيها ينبغيات الندية ومستلزماتها نذكر جانبَ الرسالة التي ستتضمنها اللغة العربية بصفتها لا فقط أداةً يتوجب تطويرهـا والارتقاء بها إلى مستوى اللغات التي تنطق بها تلك الأمم وإنما أيضا بصفتها فكرًا، أي فكرا منبثقا عن الثورة وعن التفكير الثوري بالتحديد. فاللغة، لمّا تؤدي وظيفتها كفكرٍ للثورة (وتثبت كمفصل للهوية الكبرى)، تتحول بكل جدارة إلى مضمون للسياسة الكبرى التي نطمح إليها.
كما يستبطن هذا الجانب المقاصدي للغة عديد الجوانب الأخرى التحتية أو الساندة لغاية السموّ باللغة العربية وبالناطقين بها إلى مكانة الهوية الكبرى المؤدية للسياسة الكبرى. وأبرز هذه الحوافز الغيرةُ التي ينبغي أن تتوفر عند الشباب الحالي؛ غيرة من المكانة المرموقة التي تحظى بها لغات الأمم الراقية على غرار اللغة الانقليزية واللغة الألمانية. وهي غيرة وظيفية لا انفعالية تندرج في إطار تحفيز الأجيال الجديدة على صنف من الانقلاب في الموقف إزاء اللغة. ويتمثل الانقلاب في استبدال محاكاة الشباب للغرب والتي للأسف تتم إلى حد الآن بواسطة التصاقهم المرَضي بلغات هذا الغرب، استبدالها بمحاكاة نفس هذا الغرب في اعتزازه بلغاته وبحرص أهله على صيانة اللغة الأم وترويجها بين الأمم.
 
الخاتمة
 
في الختام نعوّل على الطبقة السياسية كافة وعلى كل الفاعليــــــن في المجتمع المدني ليجسدوا مثل هذه الوضعية الاستباقية الوفاقية في المستقبل القريب. وهو مطلب ليس بعزيز عليهم بدليل أنهم حريصون على العمل الدءوب من أجل أن تتجنب تونس أزمة حقيقية. وحتى وإن تعذر ذلك فالأهم هو الإيمان بأنّ التغيير نحو الأفضل أضحى خيارا حقيقيا للتونسيين كافة. وكما أثبته العلم الحديث وآثاره على الفلسفة (نظرية "سهم الزمان" لإيليا بريغوجين) فإنّ الإيمان بصورةٍ معينة للمستقبل هو الذي يكيّف الحركة في الزمن الحاضر. وهل تونس وشعب تونس بحاجة لأقل من الحركة المُبدلة للواقع نحو تحقيق أهداف الثورة وصياغة البديل المحلي والعالمي ؟
عاشت تونس في مأمن من كل المكائد وفي غنًى عن الأزمات. عاشت تونس رائدة في مجال غزل المستقبـــــل الأفضــــل لشعبهــا و للإنسانية.