مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
حاجة المجتمعات إلى الاقتصاد و المالية الإسلامية

 تمهيد

 
إن أهمية الاقتصاد الإسلامي المستمدة من ثـــراء تاريخـــه الفكــري و جوانبه التطبيقية التي ساندت الحضارة الإسلامية في مسيرتها الممتدة قرونا طويلة من جهة وحاجة المجتمعات الإنسانية المعاصرة من جهة أخرى إلى بديل يضع حدا لجشع الرأسمالية وتغوّل العولمة ويخلصها من ويلاتها الاجتماعية والبيئية التي باتت تهدّد شروط استمرار الحياة على الأرض وترتهن بالتالي مصالح الأجيال القادمة، تدفعنا إلى التفكير بجدية في مدى حاجة المجتمعات اليوم للاقتصاد والمالية الإسلامية.
كما أن الحاجة ماسّة والبشرية تتطلع إلى دورة حضارية جديدة، أظهرت الثورات العربية الحديثة  إرهاصاتها الأولى إلى القدرة والفاعلية في علاج المشكلات الاقتصادية ومناقشة القضايا الاقتصادية التطبيقية الشائكة وفق منظور جديد و تصور تنموي تشاركي بديل يوازن بين النجاعة الاقتصادية والرفاهة الاجتماعية والحفاظ على سلامة البيئة.
وللتعمق في معرفة أهمية الاقتصاد و المالية الإسلامية وما لهما من قيمة مضافة على مستوى المعرفة الإنسانية والحاجة البشرية لهما، لابدّ أولا من تحديد انعكاسات الأداء الاقتصـــادي والمالــي السائــد في المجتمع  وما افرزه من فقر وإقصاء اجتماعي وتفاوت جهوي و الوقوف ثانيا على فاعلية الرؤية الاقتصادية الإسلامية و نجاعة ماليتها خاصة في مواجهة الأزمات المالية التي أنتجها النظــــام المالـــي العالمـــي وكذلك في قدرتها على استيعاب جزءا ممن بقوا على هامشه.
 
الواقع الاقتصادي و المالي و انعكاساته على المجتمع
 
 إن نتيجة تشخيص الواقع الاقتصادي والأداء المالي والمصرفي تدفعنا إلى ذكر الملاحظات التالية:
أولا- انعدام الاستقرار الاقتصادي و المالي في العالم منذ السبعينات إلى اليوم أي أكثر من ثلث قرن والأزمات المالية تتعاقب مما احدث شرخــــا كبيـــــرا في البنوك المالية وأزمات شديدة فيما بينها، اهتزت على أثرها الثقة في صلابتها وقدرتها على القيام بدورها خاصة في التمويل الدائم للعملية الاقتصادية. 
ثانيا- عجز مجموعة الــ 20 على حل جلّ مشاكل المعاملات المالية السائدة كغياب الشفافية وتعقد المنتجات المالية وتضارب الفوائد وغياب الرؤية بعيدة الأمد وإتباع منهج قاصر يعتمد على الاتفاق وليس على المسؤولية الاجتماعية ولا يعير أي اهتمام للقيم الأخلاقية كالتضامن الإنساني.
ثالثا- نظام اقتصادي ومالي لا يعكس حاجات المجتمع، مما أنتج آثارا سلبية بل خطيرة على المستوى الاجتماعي كالفقر والإقصاء  واختلال التوازنات خاصة الجهوية، مما ينبؤ بمزيد من عدم الاستقرار السياسي و الاجتماعي . 
رابعا- سيادة تصور تنموي لا يتمحور حول الإنسان كقيمة ثابتة وحقه في الكرامة المرتبطة شديد الارتباط بالعدل و الحرية كإطار و اقتصاره على البعد المادي الكمي و القيم الرقمية دون المعنويات و القيم الأخلاقية. 
 
فاعلية الرؤية الاقتصادية الإسلامية و نجاعة المالية الإسلامية
 
إن تقييم فاعلية الرؤية الاقتصادية شديد الارتباط بمدى وضوح هذه الرؤية وقدرتها على استيعاب الثابت والمتغير في الواقع الاقتصادي من جهة ومن جهة ثانية بشدة ارتكاز هذه الرؤية على مجموعة من المبادئ والقيم الجامعة وكذلك على درجة واقعيتها وسعة الآفاق التي توفرها ومدى اهتمامها بالحاجات الحقيقية للمجتمع.
ورغم قدم الاهتمام الاقتصادي من الوجهة النظرية والتطبيقية الإسلامية وإسهامات ابن خلدون التأسيسية للاقتصاد الحديث بمقولته الشهيرة ”العدل أساس العمران والظلم مؤذن بخرابه“ وما أنتجه علماء الاقتصاد من نفس المنطلقات العقدية والفكرية طيلة القرنين الماضيين. إلا أن صورة الاقتصاد الإسلامي بقيت غامضة ولفت النظر إليه غائب لولا النجاحات التي حققتها المالية الإسلامية منذ السنوات الأخيرة خاصة عبر تخفيفها للازمة المالية العالمية.
 لذلك من جهة وللحاجة إلى رفع الالتباسات التي ألصقت بالتصور الإسلامي في مادة الاقتصاد من جهة ثانية و لحاجة البشرية أكثر من أي وقت مضى إلى النجاة من ويلات الاقتصاد المفرغ من القيم الأخلاقية والغير متواصل مع الخالق كمالك للوجود وباعث للحياة ومستخلف للإنسان في الأرض للاستعمار نرى ضرورة المساهمة في لفت الانتباه لقيمة الاقتصاد الإسلامي وتسليط الضوء على ما نراه إضافة نوعية في المجال :
أولا* للاقتصاد الإسلامي جوانب متعددة لا تكتفي بالماديات بل تتعداها إلى الروحانيات والمعنويات باعتبارها حاجات حقيقية للمجتمع أفرادا وجماعات وكذلك القيم الأخلاقية إلى جانب القيم الرقمية حفاظا على بقاء المجتمع وتماسكه مما يجعل الاقتصاد في خدمة المجتمع. 
ثانيا* ارتكاز الاقتصاد الإسلامي على المبادئ الإسلامية / العالمية من عدل وحرية وكرامة التي أصبحت مطمح الشعوب وهي تثور على واقعها المتردي واتخاذه للمقاصد التي يتطلع إليها الإنسان كحفظ العقل والنفس والمال والعرض مضلة تقيه من الانحراف عن مهمة تعمير الأرض وتحقيق شروط الحياة الطيبة التي بشّر بها الإسلام.  
زد على ذلك أن الاقتصاد الإسلامي كطريقـــة تفكيـــر في معالجة الظاهرة الاقتصادية وفق أسس أخلاقية وأهداف إنسانية تنموية مفتوحة على أنشطة بشرية متنوعة (البيئة- الصحة- التربية – الأفكار ...) يمنح البشرية مقاربة جديدة بها تتصالح مع ذاتها وتعيد للإنسان إحساسه بقيمته وتزوده بالأمل في المستقبل متجاوزة بذلك المقاربات التقليدية التي أكدت الأحداث الواقعية محليا وعالميا محدوديتها.
ثالثا*تميز البنوك الإسلامية والمعاملات المالية الإسلامية بأهدافها ومطلقاتها ووسائلها وارتكازها على قاعدة ”تحريم كل من أكل أموال الناس بالباطل لانه ظلم، والربا باعتباره غنم للمقرض دون غرم وكذلك الغرر لأن فيه غرم متحقق وغنم محتمل“ تحريم بمعنى التزام معنوي بين الإنسان وخالقه بعدم القيام بهاته الأعمال لهدف منع الاعتداء على مال الآخرين وظلمهم من جهة ومنع إضاعة المال واستغلال الآخرين وإهمال المصلحة العامة من جهة أخرى ليحول دون المخاطرة الدنيا(منطقة الربا) والمخاطرة القصوى(منطقة الغرر) مع إقرار ما عداها من مخاطر وهي المخاطرة المرتبطة بأحوال وظروف السوق وان الغنم لا يكون مبررا بدون تحمل هذا النــــــوع من المخاطرة السوقية وهو ما يجسم المبدأ العام للمعاملات المالية من منظــــــور إسلامـــــي "الغنم بالغرم".  
رابعا* الأثر الإيجابي للمنتجات المالية الإسلاميــــة على الاقتصاد الحديث و دورها فــــــي التخفيــــــف من الأزمات المالية التي تفتك بالنظام الاقتصادي السائد.
فالتمويل والصيرفة الإسلامية منظومة متكاملة أثبتت جدواها في إيجاد الحلول الملائمة للمسائل التنموية بشهادة عديد الهياكل المالية والعالمية في الاقتصاد على غرار صندوق النقد الدولي و شخصيات مختصة كستيغلتز الذي صرح بأن التمويل الإسلامي يمكـــــن أن يكون بديلا ناجعا للتمويــــــل السائـــــد لمالـــــه من قدرة على التصرف في المخاطر و الصمود أمام الأزمات.
خامسا* قدرة الاقتصاد الإسلامي مع بقية القطاعات الاجتماعية وبنمط تمويله وخصوصيــــة صيرفيتـــه في إحداث العملية التنموية الدائمة و متعددة الأبعاد بما هي توفير لشروط الكرامة لكــــل الأجيـــــال وعلى كل المستويات  (بيئة - صحة – نفس).فالتمويل والصيرفة الإسلامية تتوفر على أدوات تمويل تشاركي كالتمويل الأصغر و موارد الزكاة و الصكوك التي يمكن توظيفها في مشاريع غير بنكية أو خارج مجال النظام المالي السائد يستفيد منها مئات من ملايين البشـــــــر الذين لم يلبى النظام المالي السائد حاجاتهم في التمويل وبقوا على هامشه وهامش العملية التنموية سواء على صعيد المشاركة أو على مستوى التمتع بنتائجها .                                                   وكما اظهر هذا الابتكار منتجات مالية متنوعة تستجيب لإنتظارات المجتمعات و تمكنها من رفــــع التحديـــات التي تواجهها وهي تشهد تحولات اجتماعية وسياسية مهمة عرض هذا النوع من التمويل فرصا حقيقية للتنميـــــــة الجهويـــة ولمواجهة الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعيين.
سادسا* التأمين الإسلامي في تطور مستمر و مرشح أن يتضاعف ثلاث مرات في حدود 2015 مما يجعل هذا السوق واعدا وفاعــــــلا في إحاطتــــــه بالمستثمريــــن وكل الفاعلين الاقتصادييـــــن ذووا الصلة مما يوفر احد شروط جلب الاستثمار لإحداث نسب النمو المطلوبة.
إن ما آل إليه الواقع الاقتصادي اليوم والأداء المصرفي المتعثر والمعاملات المالية الغير مؤطرة أخلاقيا وما خلفه كل ذلك من آثار سلبية على المجتمع قد يبعث علــــى التشاؤم حــــول المستقبـــل لولا فسحة الأمل التي توفرها الرؤية الإسلامية أولا والتي تنطلق من تكريم الإنسان وتوجه كل نشاطاته نحو المحافظــــــة عليهــــا ولولا الإمكانية التي تتيحها المالية الإسلامية ثانيا وما برهنت عليه من نجاعـــــة وقدرة على التعاطي الايجابي مـــــع التطــــــورات الأخيرة على مستوى المال والأعمال.
إن حاجة المجتمع لمواجهة الفساد الاقتصادي و المالي باعتباره منظومة في حد ذاته و الحاجة إلى نظام اقتصادي عادل يساهـــــم في رفاه البشرية و نمائها و تكون له آليات ذاتية للتعديل تواجه المشكلات بنجاعة لا أن تولدها وكذلك الحاجة إلى تطوير الصيغ المصرفية المتناسبة مع مصلحة طالب التمويل والنمو الاقتصادي السليم وإلى استنباط الهياكل المناسبة للمصارف وفق البيئات الاقتصادية المختلفة والحاجة إلى تطوير النظم المحاسبية والإدارية والقياسية تجعل الحاجة ماسة إلى الاقتصاد والمالية الإسلامية خاصة إذا استحضرن أن الرسالة الإسلامية رسالة إصلاح بامتياز"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" رسالة لا تتم إلا بإقامة العدل ووضع الميزان وتقدير كل شئ بقدر.