زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
أحزابُنا! أيْنَهَا من فقرائنا؟!

 عرف الإنسان مشكلة الفقر على مرّ العصور وفي مختلف الأمصار. وقد شكلت هذه المشكلة ولا زالت تشكل، واحدا من أهم التحديات الواجبُ مواجهته والعملُ على رفعه والقضاء على آثاره السلبية اجتماعيا وأخلاقيا وصحيا وبيئيا، ذلك أن الفقر يلعب دورا مباشرا في تهديد الأمن الصحّي والبيئي والغذائي، ويساهم في تدنّي الأخلاق وتفكيك الأسر والمجتمعات، وفي زعزعة الاستقرار السياسي  والاجتماعي.

ونظرا لما يلقاه الفقراء من فاقة وحرمان وخصاصة وشظف عيش، فإن الذاكرة الانسانية قد احتفظت بهذه القسوة والمرارة والمعاناة واختزلتها في أمثال وأقوال تواترت على ألسنة معصومين وصالحين وفلاسفة وحكماء، فرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام قد اعتبر "الفقر أشدُّ من القتل" لقدرته على تدمير الذات البشرية في أبعادها المادية والمعنوية والروحية.
 وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تعجّب "لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" أقسم في الفقر بقوله: "والله، لو كان الفقر رجلا لقتلته" مخاطبا إبنه الحسن في مخاطر الفقر "يا بنيّ، استعذ بالله من الفقر فإنه منقصة للدِّين وداعية للمقت ومدهشة للعقل. يا بنيّ، مارستُ كل شيء فغلبته، ومارستُ الفقر فغلبني لأني إن أذعته فضحني، وإن كتمته، قتلني، فكاد الفقرُ أن يكون كفرا".
وقد عبّر عن هذه الشدة الحكيــــم لقمــــان حيــن كان يوصي إبنه "يا بنيّ، أكلتُ الحنظل وذقتُ الصبر فلم أر شيئا أمرّ من الفقر، فإذا افتقرتَ، فلا تحدّث به الناس كي لا يستنقصوك ولكن اسأل الله تعالى من فضله".
فـ"نهار الفقير طويل"  كما ورد في المثل الاسباني لأنه يؤرق المحرومين ويقضّ مضاجعهم والفقـر فـــي المثل التركــي " قميص من نار" يلهب ظهور الفقراء ويشوي جلودهم بلهيبه.
هذه الأقوال والأمثال المختزلة لمحنة الفقراء التي لا يعرف تفاصيلها إلا من عايشها ولِطعم الفقر الذي لا يعرفه غير من تجرّع من علقمه تثبت ما مثّله الفقر عبر التاريخ من خطر  على شرائح واسعة من شعوب العالم وتجعلُ منه قضيّة محورية تقتضي وضعَها في أولى الاهتمامات الجديرة بالتدخل المباشر والمعالجة السريعة.
 
الفقراء في البلاد التونسية
 
تشهد البلاد التونسية اتساعا باعثا على القلق لعدد الفقراء الذين يعيشون على هامش المجتمع معزولين في مواجهة عسر الحياة وشظف العيش، يسدّون الرمق، ويروون الضمأ بما تطاله أيديهم من غذاء شحيح قد يملأ بطونهم، ولكنه لا يغذي أبدانهم، تشغلهم على الدوام حاجاتهم الأساسية المتراكمة في المأكل والملبس والمسكن والعلاج والتعليم والنقل.
فالفقراء هم الفئة الأكثر عرضة لمختلف الأزمات الاجتماعية التي تمر بها البلاد وهم الأعجز عن تأمين أبسط مقومات العيش الكريم والأكثر استهدافا للآفات الاجتماعية كالتداين والتسوّل وتشغيل الأطفال، يغالبون بمفردهم أوضاعهم البائسة، ولا يجدون الوقت الكافي حتى لمواكبة ما يستجدّ حولهم من أحداث في المجتمع السياسي والمدني الذي كثيرا ما يغازلهم ويعاهدهم في المحطات الانتخابية وغالبا ما يدير لهم الظهر في ما دون ذلك من الأيام.
 
الفقراء في برامج الأحزاب التونسية
 
على الرغم من التضخم اللافت لأعداد الفقراء واتساع ظاهرة الفقر وبلوغها مستوى ينذر بمخاطر شتى تمس سلامة المجتمع وتهدد استقراره، فإن الأحزاب السياسية التونسيـــة ظلت كما قبـــل ثورة 14 جانفي تطرح هذه القضية بشكل عرضي ومناسباتي مقتصرة على تنظيم الندوات الفكرية والسياسية استنادا إلى بعض النسب والإحصائيات والاستخلاصات حول الفقر، دون أن تجعل منه أولوية مطلقة في اهتماماتها ومعركــــة مصيريــــة في ممارساتهــا، ودون أن ترتقي إلى مستوى التحسيس والتعبئة والضغط في سياق التصدي لسياسات التفقير والعزل والتهميـــش، ودون أن تنخــــرط في حملات تضامنية ميدانية وأنشطة اجتماعية دعمية في سياق تخفيف محنة الفقراء التي تبلغ ذروتها في مناسبات الصيام والأعياد والأفراح والمآتم والعودات المدرسية.
إن الاستنفار الحزبي من أجل مكافحة ظاهرة الفقر التي يكتوي بنارها قطاع واسع من التونسيين يُعدُّ اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى واجبا وطنيا وأخلاقيا وإنسانيـــا ودينيــــا وضـــرورة ملحة بل شرطا أساسيا لتحقيق مطلب الانتقال الديمقراطي الذي ناضلت في سبيله أجيال متعاقبة من التونسيين، والذي قامت من أجله الثورة التونسية المجيدة، ذلك أنّ الديمقراطيـــة المنشـــودة لا يمكن أن تستقيم في ظلّ مناخ اجتماعيّ يرزح غالبية مواطنيه تحت شبح الفقر، لأن الفقراء إذ يفتقدون الوقت اللازم للنشاط في الأحزاب السياسية والمشاركــــة فــــي منظمات المجتمـــع المدنـــي، فلأنهم قد تدحرجوا إلــــى هامـــش المجتمع يغالبون معاناتهم، ويكابدون من أجل إشباع ما استطاعوا من حاجاتهم الأساسية وهم يتحفزون على الدوام للانتفاض والتمرد على أوضاعهم وكسر جدران الصمت المضروب حولهم وإجهاض سياسات التهميش والتفقير المتبعة ضدّهم.
من هنا يمكن القول أنّ على الأحزاب السياسية التونسية العاملة على إرساء الديمقراطية أن تُعيد ترتيب أولوياتها فتجعل من الفقر معركتها المصيرية الأولى، ومن الأمن الاقتصادي هدفَها الحيوي باعتباره أساسا للصوت الحر والمشاركة البناءة وضمانة أساسية للسلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي والبناء الحضاري.
أما الاكتفاء بتحميل السلطة الحاكمة مسؤولية تدني الحالة الاجتماعية والمعيشية للفقراء، والاستمرار في دراسة ظاهرة الفقر وإحصاء عدد الفقراء في القاعات المكيفة والمناسبات المعينة، وعدم إعطاء الفقر أولوية مطلقة بل عدم إعلانه حالة طوارئ وطنية، لن يساعدها على إرساء الأسس القويمة لحياة ديمقراطية كفيلة بتأمين حظوظ العيش الكريم لجميع التونسيين بكافة شرائحهم.