في العمق

بقلم
د.محمد بوقرين
رؤية اصلاحية لمشكل الفقر

 تقديم

إن من أوكد مهام القوى الديمقراطية اليوم إيلاء المسألة الاجتماعية الأهمية القصوى وضبط أرضية نضال مشتركة لاستكمال مهام الثورة من أجل بناء مجتمع ديمقراطي قادر على توفير حاجياته والدفاع عنها وهذا في نظرنا تعريف التحرر الوطني والسيادة الفعلية للشعب.
ويعدّ موضوع ”الفقر“ من المواضيع التي تبرز كأكبر تحدّ أمام حكومة ”الترويكا“ والمجتمع نظرا لارتباطها بمعضلة البطالة وتدهور المقدرة الشرائيّة لمجموع العمّال في البلاد الذي يقدّر عددهم بثلاثة ملاييــــــــن و750 ألف عامل من بينهم 750 ألف عامل وموظف يشتغلون بالقطاع العام.
مفهوم الفقر
لقد تعددت المؤشرات التي يقاس بها الفقر من بينها مؤشر الدّخل ( دولاران إثنان للفرد الواحد) ومؤشر التغذية ( 2230 حريرة للفرد الواحد) ومؤشر الحاجات الأساسية التي ضبطت في الرعاية الصحّية والغذاء والملبس والتعليم . ويوجد من يوسّع هذه الاحتياجات الضرورية فيضيف المسكن والبعض الآخر يذهب إلى أن عدم التمّتع بالمنجزات الحضارية الحديثة كالحاسوب يضعنا في صنف "فقر الرفاهة"(1)
إلا أنه يوجد اتّفاق بين الخبــراء فــــي تعريــف الفقـــر على أنه الحالة الاقتصاديــة التـــي يفتقد فيهـــا الفـــرد أو الجماعــــــة الإمكانيات الكافيـــة (2) للحصــــول على المستويات الدنيا التي تؤمّن عيشا كريما.
 واقع الفقر في تونس
حسب المسح الوطني حول ”الانفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر“ بلغ عدد الفقراء في تونس سنة 2005، 376 ألف فقير وحدّدت عتبة الفقر بدخل أدنى هو 400 دينارا شهريّا إلاّ أن هذه الأرقام ظهر زيفها بعد الثورة فهي منافية للواقع كما صرّح بذلك وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة الترويكا فثلث الشعب التونسي يعيش حالة فقر إذ يوجد 235 ألف عائلة معوزة و 800 ألف بطاقة علاج  مجانية وأصدر راضي المؤدب كتابا بعنوان”حول الأوضاع الاقتصادية بتونس“ جاء فيه أنه يوجـــد مليون و 250 ألف نسمة  تحت عتبة الفقر أي ما يساوي 12 %من مجموع سكّان تونس.
أمام هذه الظاهرة الاجتماعية المستفحلة نطرح هذين السؤالين: 
السؤال الأول : هل يعقل أن نقــــول إنّ من يطـــرح مشكـــل الفقـــر هو بالضرورة يجب أن يكون طبقيّا فقيرا- ينتمي إلى الطبقة الكادحة حتّى يقدر على معالجة المسألة؟
فقد قال مهدي عامل في إحدى كتاباته ”إن رفض الواقع الاجتماعي من موقع الطبقة المسيطرة لا يقود إلاّ إلى تأبده والحفاظ عليه“. لذلك يرى البعض من أصحاب هذا الاتجاه الماركسي أن الثورة التونسية لن يكتب لها النجاح ما دام المهيمن على تحريك الشارع الإطارات النقابيــــة والماسك بزمـــام السلطــــة – كلاهما – ينحــدر من البرجوازية الصغيرة ذات الطبيعة الانتهازية
السؤال الثاني: وهو يتجاوز زاوية النظر الطبقية إلى الزاوية الدينيّة ( وقد كثرت المجموعات الإسلامية المنافسة لحركة النهضة كالتيّار السلفي وحزب التحرير ) التي يعتقد أصحابها أن المشكل الرئيسي اليوم هو التصدّي للاستعمار الكافر وأعوانه الذين يريدون طمس عقيدة التوحيد وإلغاء تطبيق الشريعة أو الوقوف حاجزا أمام استئناف دولة الخلافة فهل مــــــن المعقول أن نعتبر مسألة الفقــــر من المسائل الثانوية؟
رؤية إصلاحية للمسألة
إن المجتمع ليس مجموعة من التكتلات يتقدم بعضه ويتخلّف البعض للآخر فظاهرة الفقر في البلاد تهدد المواطنة بحكم تداعيّاتها السلبية على  كل الفئات الاجتماعية فهي تنشر الجريمة والتفكك الأسري وتكرّس المديونية والتبعية وهذه بعض الإحصائيات:
حسب الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري يوجد ارتفاع ملحوظ في حالات الإجهاض فمــــــن 1164 حالــــة سنـــة 2000 إلى 2126 حالة سنة 2005 (3)
وقوع حالة اغتصاب واحدة كل ثلاثة أيام حسب إحصائيات السنة القضائيّة 2008-2009 والعدد الجملي لحالات الاغتصاب لا يزال إلى اليوم لافتا للنظر فهو يتجاوز 100 حالة سنوياّ (4).
تونس الأولى عربيّا والرابعة عالميّا في نسبة الطلاق فمن بين 16 ألف حالة زواج بلغ عدد حالات الطلاق 9127 حالة حسب إحصائّية وزارة شؤون المرأة والأسرة التونسية سنة 2009. ومن أهمّ أسباب الطلاق هو الفقر وعدم القدرة على توفير الحاجات الأسرية . فقد أثبت تقرير صادر عن البنك العالمي لسنـــــة 2009 أن 75 % من الأجراء التونسيين ينفقون رواتبهم الشهرية خلال أسبوعيــــن ثمّ يلجؤون إلى الاقتراض . فلئن كنّا أمام وضعية بائسة تتخبّط فيها الأغلبية من التونسيين في الخصاصــــة(5). فإن الأقلية لا يمكــــن أن يهنأ لها بال وتشعر بالأمن  والأمان لأن الفقر عواقبه وخيمة على الفقير والغني فهو كالنار تأتي على الأخضر واليابس لذلك جاء فــــي الحديث النبــــــوي " كاد الفقــــر أن يكــــون كفرا" وأثر عمر بن الخطاب قوله " لو كان الفقر رجلا لقتلته" والقيمة المفتاح في الاسلام هي قيمة العدل فهي الغاية التي أرسل من أجلها الرسل لذلك لا يمكن أن نقـــــول إنّ الفقر موضـــــــوع لا يهتـــــمّ به سوى الفقــــــراء أو هو مسألة ثانوية ولا ننسى أن المنظمة الشغيلـــة في تونس التي من المفروض أن تمثّل العمّال وتدافع عن مصالحهم هي التي وافقت النظام الليبرالي التابع على برنامج للإصلاح الهيكلي سنة 1986 الذي يقضي بانسحاب الدولة التدريجي من عدّة قطاعات هامّة وتشجيع الاستثمار والخصخصة وتحرير التجارة وقبول اقتصاد السوق . كما وافق الاتحاد العام التونسي للشغل على دخول البلاد في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 حتّى أصبح الاقتصاد التونسي يتّصف بالتبعيّة للاقتصاد الأوروبي بنسبــــة 80 % خاضعا لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي الذي نصح السلطة التونسية بتقويض القطاع الفلاحي والكفّ عن إنتاج الحبوب والخضر واللحوم والألبان بدعوى أن استيرادها أقل تكلفة من انتاجها فترتب على الانصياع لهذه التوجّهات " النيوليبراليّة" عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي فتونس لا توفّر سوى 46 % من الحبوب وهيمنة قطاع الخدمــــات الذي يساهم بنسبة  54.1 % من المنتوج الداخلي الخام بينما تساهم الفلاحة بنسبة 10.9 % واكتسحت التجـــــارة الموازيــــة الســــوق التـــي تشغّل أكثــــر من 40 % من الفئـــــة النشيطـــــة ورهنت البـــلاد بيد عصابة نهبت أكثر من ربع الثروة الوطنية. وارتفع نسق الخصخصة والتفويت وبيع المؤسسات العمومية والتشغيل الهش والبطالة وتحوّل الاتحاد العام التونسي للشغل ليؤدي دور وزارة الشؤون النقابية ويسهــــر على استتباب السلم الاجتماعية لصالــح السماســــرة كما قال بعضهم (6) وها هو اليوم بعد الثــــورة يكفّر عن ذنوبه فيصدر في مؤتمر طبرقة في شهر ديسمبر 2011 في اللائحة العامّة مطالــــب أهمّهــــا القطـــع مع النهج الليبرالي وإعادة الحياة إلى رأسمالية الدولة    
الخلاصة
خلاصة القول اننا نهتمّ بموضوع الفقر من منطلق إنساني وديني ووطني فمكافحة الفقر تندرج في نظرنا ضمن المطالبة بحقوق الإنسان و الإسلام يرفض الفقر ويدعو إلى مقاومته تحقيقا لمبدإ تكريم الإنسان ومن مقتضيات المواطنة أي المساواة في الحقوق والواجبات الإنشغال بهذا المشكل (الفقر) لأنه يهدّد الوعي بالإنتماء ويؤذن بخراب البلاد لذلك فالجميع من مصلحته الوطنية أن يبحث عن مخرج لهذه القضية فإذا كان رهان العمال والفلاحين وسائر المحرومين واضحا فإن أمل أصحاب المشاريع المتوسّطة والكبرى في الحفاظ على مكاسبهم لن يتحقق إذا لم يوفّروا الضمان الاجتماعي والصحّي للفقراء 
الهوامش
 
(1)  انظر كتاب "معوقات بيانات قياس الفقر م. عبد الله الرفاعي 2007.
(2)  الدخل مثلا أو المؤهلات التي تؤهله للعمل والكسب
(3) من بين أسباب الإجهاض حسب التفكير الشائع الفقر وعدم القدرة على تحمّل أعباء تربية الطفل
(4) من بين أسباب الاغتصاب كما يبرّر قلّة ذات اليد وعدم القدرة على الزواج واستفحال ظاهرة العنوسة التي تجاوزت 50 %من الفتيان و 49 %من الفتيات.
(5)  10  %من التونسيين يملكون 32 %من ثروة البلاد ويملك 60 %حوالي 30 %.
(6) تجري المفاوضات الاجتماعية في عهد المخلوع كل 3 سنوات وتحسم بتدخّل منه