إثراء للنقاش

بقلم
محمد الحمار
داء التعليم المزدوج

 تشترك مراحل التعليم الثلاثة في تونس وفي الوطن العربي عموما في نفس الداء، ألا وهو ســوء الأداء في مجال مزدوج: اللغات والعلوم. فهل أنّ حصر الرداءة هناك يمثل فقط نتيجة لما آلت إليه عقـــــود من التمدرس العصري في ظل الدولة الحديثة، أم أنّه يهدي أيضا إلـــى منهجيةٍ للإصـــلاح؟ أي، ألا يصح أن يكون ثنائي اللغة/العلم هو نفسه منهاجا للإصلاح فضلا عن كونه موضوعه؟

سنركز على تناول السؤال الثاني لأنّ الإجابة عنه قد تحمل إجابةً عــــــن الأول. وفي هذا السيــــاق نرى أنّ الارتقاء باللغة وبالعلم يعني إصلاح تعليمهما، مما يتطلب إنجاز الإصلاح فــــــي المراحـــــل الثلاثــــة. أما بخصوص اللغـــة بالذات فهنالــــك مشكلــــة: لا بدّ من التأكد إن كان المقصود بها أداة التواصـــل العــــام أم أداة لتدريس العلوم. فالخيار الأول يعني أنه لا يهم التنسيق بين تدريس اللغة كمادة و تدريس المـــواد التي تُدرَّس باللغة. أما الخيار الثاني فيعني الدخـــول في سجال عقيم حول مَن منهما الأجدر بتدريس العلوم، العربيــــة أم الأجنبيـــــة. وينمّ الخيـــار الأول عن جهل بأنّ اللغة لم تعد تُعتبر أداة أي مَحْمَلاً لرسائل تواصلية وإنما أيضا فكرا ينقل ثقافة الناطقين بهـــا إلى الذين يتعلمونها وله تأثيرات إيديولوجية عليهم. وهذا يستوجب الحرص على تأمين التعبير الهوياتي لدى المتعلمين للغة الأجنبية بصرف النظر عن تبني هذه اللغة لتدريس العلوم من عدمه. أما الخيار الثاني فيعني القبول بتدريس العلوم باللغات الحبلى بمفاهيم العلم الحديث: اللغات الأجنبية. وفي هاته الحالة أيضا سنصل إلى نفس الاستنتاج، ألا وهو ضرورة ربط تدريس العلوم بتدريس ما الذي نريد أن ننجزه بفضلها، مما يستوجب تدخل "الرموز الثقافية" (التسمية مقتبسة عن محمود الذوادي)، وأيضا ضرورة تدعيم اللغة كأداة وكفكر حتى يكون الأداء اللغوي في كل الحالات مرآة تعكس الشخصية الوطنية. 
كيف يُجسَّد ذلك؟ والحال أنّ الطفل عندنا تغيب عنه أشياء كدقة الملاحظة والتفكير النقدي وروح التجديد والاكتشاف والابتكار ومــــا إلى ذلك مـــن التملكـــات، مما يحرم المتعلمين من الاستفـــادة مـــن العامـــل الذي تتمحور حوله التملكات، ألا وهو الفضول العلمي.فهذا الأخير موجود لدى الناشئة إلا أنه غير مستغل أفضل استغــــــلال عنــــد الصغـــار، فما بالك عند الطالب الجامعي، الــــذي لم يبقَ لديــــه فضول وهو الذي قد تجاوز سن صقل المواهب ونحت الشخصية. والحال أنّ قصور الكتب والمناهج التعليمية وكذلك قلة التكويــــن المندمــــــج لدى المدرسيـــــن على الأخص في مجالي علم النفس وعلم الاجتماع من أهم العوامل المعرقلة لحسن الاستغلال. أما أكبر عاهة في الجسم التربوي فهي فشل كل الأطراف في توظيف الدين كرافد أساس، أي كـ"رمز ثقافي" أســــــاس، في تكوين شخصية المتعلم المنتمي إلى ثقافة الإسلام. ويعود ذلك بالأساس إلى غياب المنهجية الدينية التحررية وفي المقابل إلى هيمنة الممارسة الدينية الاستبدادية، أكثر مما يعود إلى عدم قدرة الإســـــــلام المزعومــــة على مواكبة الحداثة، ناهيك على توليدها.
إذن الفضول معطًى فطري بالمفهومين العلمي/العلماني وكذلك الإسلامي. وهذا يعني على سُلم تطوير تعليم اللغة أنّ الفضول يبقى فضولا مهما كانت اللغة المستخدمة لغرض استغلاله البيداغوجي شريطة أن تكون اللغة مواكِبة آنيا للحداثة. وهذا يعني على سُلم تطوير تعليم العلوم أنّ اللغة الأجنبية هي التي يتوفر فيها شرط حسن استغلال الفضول من أجل اكتساب الحداثة، وبالتالي يبقى التعويل على اللغة الأجنبية لتدريس العلوم الخيار الأسلم مهنيا وعلميا. زد على ذلك فهو الأسلم حتى من الجانب الهوياتي، طالما أنّ الفطرة المزمع تنميتها لدى المتعلمين قد تم تنظيرها مع الفطرة من المنظور الديني. تبعا لذلك، تنسجم فكرة صيانة الثقافة الوطنية مع فكرة أنّ اللغة العربية روحها الإسلام. وبما أن الإسلام دين التحرر من العبودية ومن الاستلاب، بما في ذلك الاستلاب للغة الآخر، فحماية الثقافة الوطنية بما فيها اللغة تمر عبر التطعيم المستمر لعملية الكلام، إن لمّا يحدث بواسطة العربية (في درس اللغة والاجتماعيات والإنسانيات) أم بواسطة الأجنبية (في درس اللغة وفي درس العلوم)، بالدعائم التحررية التي يحث عليها الإسلام ويستبطنها. وفي الأثناء، نتوقف عند أهم هذه الدعائم:
أ. "الشريعة" وضرورة تدريسها كمحور استقرائي في وسط منظومة الدين، أي تنظيرها مع النحو في منظومة اللغة.
ب. "الحركة" الإنسانية (الطبيعية والثقافية؛ الفردية والاجتماعية)، وضرورة تدريسها كمفهوم وكممارسة متصلين بالقلب وبالعقل، اللذَين يتصلان بدورهما مباشرة بملكة الكلام وبالعقيدة، إن بإحداهما أم بكلاهما.
ج. "الطبيعة" وضرورة تدريسها كمصدر للطاقة وللحركـــة، ذي صلة وثيقة بالطاقة و بالحركة الإنسانيتين (الثقافة). وتكون اللغة هي الأداة المشتركة بين كل الناس لتأمين الربط بين الطبيعة والثقافة. هكذا تبقى العلاقــــــة بيــــن هاذيــــن المجاليـــن في مأمن من النكوص حتى في حال غياب العقيدة.
بالنهاية، إنّ إصلاح التعليم في مجتمعاتنا ذات الثقافة العربية الإسلامية ليست مسألة تغيير للمناهج والبرامج دون الحفر في داخل المنظومة المحافظة لغرض تغييرها نحو الأفضل. هكذا يكون الإصلاح رهنا برؤية تربوية تطال ينابيع التفكير وأسس الفعل لدى المتعلم لتحريرها و لتجديدها. إذا تحقق هذا الشرط في المراحل الثلاثة للتعليم ستكون الأبواب مفتوحة أمام الطلبة الجامعيين للتقدم أشواطا في البحث العلمـــــي، مما يجعلهم قادرين على الإسهــــام في إنتاج العلوم، بلغة سليمة، وأيضا على الإسهام في الوقت ذاته في تحقيق التعريب وتبعاته من تعريبٍ للعلوم وللحداثة من جهة ومن تحديثٍ للغة العربية من جهة أخرى.