وجهة نظر

بقلم
د. مصباح الشيباني
فن المغالطات في الخطاب السياسي للحكومات العربية الانتقالية: الخصائص والنتائج (مثال تونس)

 المقدمة

يمر الوضع العربي والإسلامي اليوم، بمرحلة  فاصلة وفارقة في تاريخه المعاصر. فما تشهده المنطقة العربية منذ سنتين من انتفاضات شعبية ومن حراك سياسي واجتماعي وثقافي يمكن أن تؤدي إلى تعميق حالة الوهن والتفكك والصراعات الداخلية ( سياسية ومذهبية وإثنية..) أكثر مما يمكن أن تحققه من تغير وإصلاح مجتمعي وسياسي فعلي ونوعي في المستقبل القريب.

 ومن الأسباب التي تجعلنا نشك في تحقيق أهداف هذه الانتفاضات شرقا وغربا، هي أنه هناك فرق بين طرح قضية التغيير السياسي وفق المنطق الثوري الداخلي الذي يقوم على نضج ووعي مجتمعي سابق له، وبين أن يطرح هذا التغيير عبر السلاح والقوة والتهديد بالحرب الأهلية الداخلية تارة وبالاحتلال الخارجي تارة أخرى.

أي هناك فرق بين أن يكون الهدف من هذا التغيير إعادة بناء مؤسسات الدولة ( السياسية والأمنية والعسكرية...) والمؤسسات المدنية  من أجل خدمة مصلحة المواطنين في هذه الدولة بشكل يشعر فيها الإنسان العربي بمواطنته، وبين أن يطرحها الغرب الاستعماري  بهدف الهيمنة والسيطرة على مقدرات الأمة والتحكم في مستقبلها.

المرحلة معقدة واستحقاقاتها كبيرة

إن الجدل السياسي القائم في تونس وفي بعض الأقطار العربية الأخرى، منذ شهور، مازال لم يبرح مكانه وهو يدور حول أهم القضايا (سياسية ودستورية واجتماعية واقتصادية) التي انتفض من أجلها الشعب العربي، ولم يسفر إلى الحد الآن إلا عن نتيجة واحدة باتت مؤكدة وهي مزيد من الانقسام والتشتت والتوتر بين القوى السياسية في كل قطر عربي نتيجة غياب معجمية سياسية مشتركة (توافقية) بينها(تكون مُوحِّدة موحَّدة) حول الأهداف الكبرى لهذه الثورة. والنتيجة الثانية المترتبة عن الأولى هي أنّه كلما تصاعدت الخلافات وتباعدت المسافات بين الفاعلين السياسيين، كلما ابتعدت الحكومات الانتقالية التي تشكلت حديثا أو مازالت لم تتشكل عن تحقيق أهداف هذه الثورة. أما النتيجة الثالثة لهذا الصراع والمترتبة عن عدم التوافق السياسي فهي استغلال القوى الرجعية وأعداء الثورة من الداخل والخارج حالة الانقسام والتشرذم بين القوى التقدميّة ومنعها من إمكانية إعادة توحيد صفوفها وبناء قوتها وتقوية قدراتها المادية والبشرية حتى تفشل ولا تتمكن من قيادة الجماهير نحو تحقيق أهداف الثورة وإنجاز التغيير المجتمعي الحقيقي المؤمل منها. خاصة وأن هذه الثورات كانت أغلبها في شكل حركات شعبية متقطعة المسارات ومازالت في أغلب ساحاتها تتحرك بعشوائية نتيجة غياب الوضع المجتمعي الناضج لها، وبسبب عدم وجود قيادة سياسية موحدة لها في كل قطر تمكنها من مواصلة المشوار الثوري حتى تتمكن من إعادة بناء مؤسساتها المختلفة من جديد بكل ثقة واقتدار وعبر رؤية استراتيجية للمستقبل. 

 إنّ ما يخيف الغرب هو أن تلتقي مختلف القوى السياسية سواء كانت مشاركة في هذه الحكومات أو خارجها(معارضة) حول أهداف الثورة حتى ولو تم ذلك عبر التغيير التدريجي و"الآمن" من أجل أن لا يتحقق البناء الجديد ولا تنجح في إيقاف نزيف الفساد وعمليات التخريب المتعمد في الاقتصاد والاجتماع والإعلام ومن ثم سوف يكلّ المواطن العادي ويملّ من هذه الثورة.

 لقد بات المشهد السياسي في تونس يطغى عليه الأسلوب "الإصلاحي" وهو مؤشر واضح على أن الجهاز السياسي المتحكم في الدولة قبل 14 جانفي 2011 مازال متماسكا ولم تتغير آليات عمله رغم إحلال بعض الأشخاص محل آخرين في مستوى الوزارات وفي بعض المؤسسات العليا في الدولة. ولهذا لم تأت الحكومة الانتقالية بقيادة "حركة النهضة" بأي برنامج أو مشروع جديد سواء علــــى مستوى السياسات الداخليــــة (الاقتصاديـــة والاجتماعية والثقافية) أو في مستوى العلاقات الخارجية، بل كانت برامجها ارتجالية في ظل إقصــــاء القــــوى السياسيـــة الأخــرى حتى من داخل "الترويكا" وحرمانها من حقها فـــــي المشاركـــة في وضع هذه السياسات والبرامج واقتراح الحلول لمختلف المشاكل  والصعوبات التي تمر بها البلاد.

كما إن الحكومة الوقتية مازالت تعتمد منطق الولاءات الحزبية (الربط بين الحزب صاحب الأغلبية في الحكومة والدولة) والقرابية في تسيير الدولة وهي مؤشر على تواصل هيمنة البنية الفردية والأبوية وعجز الحكومة على تصحيح مسار البناء الديمقراطي. وهي تعتقد أن نتائج الانتخابات وحدها هي أساس بناء النظام الديمقراطي. وهذه الفكرة مضللة للرأي العام ومشوهة لطبيعة النظام الديمقراطي لأن الوجه الآخر للديمقراطية مازال غير قائــم في مجتمعنا. إذ أن أغلبية أفراد الشعب غير قادرين على المساهمة في التأثير في قرارات هذه الحكومة باعتبارها ظلت أغلبية تابعة لها وليست مشاركة فيها. وبالتالي فالديمقراطية باعتبارها فن المشاركة في الحكم من قبل مختلف القوى السياسية غير قائمة وهي الحصانة الأساسية التي تعطي لمشروع الدولة التنموي في المستقبل قوة ومناعة حقيقيّة لضمان نجاحه.

كما إنّ الديمقراطية ليست شعـــارا سياسيــــا انتخابيـــا، بل هي قبل كل شيء قيمة أخلاقية وثقافية لفن المشاركة في الحياة السياسية. أي مشاركة جميع القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدنــــي في وضع السياسة العامة للدولة والمشاركة في اقتراح الحلول للنهوض بالمجتمع في مختلف مجالات الحياة. وبالتالي يكون الحوار السياسي الحقيقي هو أهم آليّة لتعزيز الوحدة الوطنية وللحفاظ على ما تم إنجازه بعد 14 جانفي من إيجابيات وتجاوز السلبيات أو المعيقات أمام أهداف الثورة. والحوار البناء لا يمكن أن يتم في غياب ثقافة سياسيّة تقوم على مبادئ الاحترام والاعتراف بحق "الآخر" بدوره في النهوض بالمجتمع دون تحقير و تهميش لأي طرف مهما كان رصيده النضالي أو مكانته على الساحة السياسية. وهنا يطرح السؤال: هل لدى الحكومة الانتقالية قناعة صادقة واستعدادا حقيقيّا بحق الآخرين (المعارضــــة) في المشاركــــة في وضع السياسة العامة للدولة؟

في شروط بناء النظام الديمقراطي

 إن من شروط بناء النظام الديمقراطـــــي في أي دولة هو أن يمارس المواطـــــن حقوقـــــه السياسيــــة (التعبير، الانتخاب..) في إطار وضع اجتماعي وثقافي واقتصادي يمكنه من "الاختيار" الحرّ دون الخضوع إلى أي عوامل تأثير مباشرة أو غير مباشرة (مثال المال السياسي) التي من شأنها أن تغيّر موقفه تجاه مسألة ما. 

 فمن أهم المغالطات في الخطاب السياسي لدى بعض الأطراف السياسية في الحكومة التي تسعى أن تضلل بها الرأي العام هي أن نتائج الانتخابات وفق المنطق الليبرالي المتبع في العالم اليوم كفيلة لوحدها لبناء الديمقراطية. لكن حقيقة الأمر عكس ذلك تماما لأن المسألة الديمقراطية تحتاج أولا إلى تحديد عوامل نجاح التجربة الانتخابية ومعيقاتها أي لابد من الإجابة عن السؤال التالي: هل أن المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي يسمح بنجاح الانتخابات حتى تكـــــون نتائجهـــــا معبــــرة عن طموحات الشعب أم لا؟

في الإجابة عن هذا السؤال المركزي نجد أنفسنا متجهين رأسا للبحث عن المعيقات الداخلية والتحديات الخارجية التي منعتنا سابقا (منذ الاستقــــلال) ومازالـــت تمنعنــــا من أن نؤسس تجربة سياسية وديمقراطية حقيقية في البلاد العربية والإسلامية. ولذلك، فإن بناء الديمقراطية يحتاج على إعادة بناء العلاقات السياسية التي تنطلق من ثقافة المجتمع ومن تركيبته النفسية والاجتماعية ومن ظروف حياته الاقتصادية.

 وإذا لم يتم التخلّص من بعض التشوهات السياسيّة والثقافية التي طبعت المشهد السياسي العربي على مدى ستة عقود ، فإن أي تجربة سياسية في المستقبل مثلما نراها اليوم، سرعان ما تتحول إلى لعبة "إقصائيّة" بلبوس ديمقراطـــــي. والمؤشرات الدالــــة على عدم جدية الحكومة الانتقالية في بناء الديمقراطية متعــــددة مثل السياسات الارتجالية فــــي الاقتصـــــاد والعلاقات الخارجيــــة التي لم تستشر فيها القوى السياسيـــــة فكانت نتائجهــــا سلبيــــة على جميع الأصعدة. ولم تكن مستجيبة إلى هموم الشعب ومشاكله اليوميــــــة. أي مازالت الديمقراطية نبتة بريّة غريبـــة عنا تواجـــه صراعـــات وتفاعلات وخلائط مـــــن النظام السابـــق. ومازلنا ننفـر من الديمقراطية ونحشوها بالممارسات الانتهازية والخطابات التضليلية وكل أشكال البزنسة السياسية والبراغماتية.

 في المحصلة نقول: إنّ الخطر الأساسي على أي تجربة سياسية جديدة هو استعمال بعضنا العبارات والمفردات في غير سياقاتها التاريخية والمجتمعية. واستعمال كلمة الديمقراطية اليوم، بات يمثل في رأينا قيدا مسبقا على ممارسة الشعب حقوقــــه وفي التعبيـــر عن إرادته ديمقراطيا ( النظام الولائي الذي يقوم على منطق التزكية الشعبية) وهو ليس إلا مصادرة للديمقراطية. فالجماهير البسيطة المنتفضة فــي مختلف الساحـات مازالت بعيدة عــــن المشاركــــة في "المعركة السياسية" ولن ننجح في تحقيق التحول الديمقراطي إذا لم تنجح القوى السياسية في الانتقال من إطارها الضيق النخبوي إلى الإطار الجماهيري الواسع عبر مختلف المؤسسات السياسية والمدنية الممكنة.

 وفي غياب السلطة المضادة لأي حكومة، سوف يؤدي إلى تواصل هيمنة الرؤية السياسية الواحدة واستئثارها بحق تقرير مصير الشعب والوطن، لأن الجيل الذي تربى في منظومة الأحادية الحزبية المهيمنة على مفاصل مؤسسات الدولة والمجتمع لا يمكن أن يكون في يوم وليلة ديمقراطيا وعلى استعداد لإنجاح التجربة الديمقراطية