زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
أحزابٌ: من الوحدة إلى التفتّت

 عاشت معظم الأحزاب التونسية قبل ثورة الرابع عشر من جانفي 2011، ولازالت تعيش في راهنها بعد الثورة حالة من الانقسام والانشطار لعبت دورا مباشرا في إرباك أدائها السياسي، وإضعاف قدرتها على الفعل الميداني، وبالتالي في تحويلها إلى مجرّد ظواهر سياسية تؤثّث المشهد السياسي ولا تؤثّر فيه،  علاوة علـــى أنّ غالبيـــة التونسييــــن لا تُدرك لا وجود هذه الأحزاب ولا برامجها، وحتى الأحزاب التي ترددّت أسماؤها على مسامع المواطنين فقد اقترنت بأسماء زعمائها الذين احتكروا الأضواء الإعلامية والمنابــــر الدعائيــــة واختزلوا مؤسساتهم الحزبية في ذواتهم.

هذه الحالة المرضية تعود في نظري إلى جملة من الأسباب الذاتية المتعلقة بذات الأحـــــزاب، سأكتفـــي بالمــــرور على أبرزها كما بدتْ لي من خلال تجربتي في العمل السياسي.
 
عقدة الزعامة
 
في أغلب الأحزاب التونسية، واجه الأعضاء الحركيون داخل تنظيماتهم أصناما لا يتزحزحون، هم زعماءُ لا يرون في أنفسهم غير الكمال والتفوّق والشرعيــــة، ويتصرفــــون مـــــن هذا المنطلق في التعاطي مع محيطهم الحزبي، معتمدين على نخبة قيادية من الموالين الأوفياء المخلصين التي تؤيدهم في كل الأحوال والظروف، وتبرر لهم تقديراتهم وقراراتهم في حال الصواب كما في حال الخطإ. 
وغالبا ما تضيق صدور هؤلاء الزعماء بالنقد والدعوات إلى التقويم والمراجعة والتصحيح والتطوير، فتراهم يلجؤون في معاملة مخالفيهم وناقديهم إلى التهميش أو التجميد أو الطرد أو التشويه، كسلاح يحفظ لهم قدرتهم المطلقة على التحكم في القيادة وفرض الزعامة تحت لافتة الالتزام بالمبادئ الحزبية واحترام الخطط المرحلية والاستراتيجية، يتصرفون كذلك باستمـــرار ودون مرونـــة مهما كانت نسبة المخاطر التي تهدد الجهاز الحزبي تنظيميا وسياسيا.
إنّ كثيرا من زعماء الأحزاب السياسية التونسية لا يزالــــون يجدون في الآليات الديمقراطية والعمل الأفقي والفعل الجماعي حدّا من صلاحياتهم التنظيمية، وتهديدا لنفوذهم الحزبي، وخطرا على طموحهم الشخصي.
 
عمودية الهيكلة
 
رغم تراجع الايديولوجيا وانحسار النظريات الثورية نتيجة ما عرفه العالم من تغيرات سياسية سريعة، لم ترضخ عموم الأحزاب السياسية التونسية لرياح الديمقراطية إلا مسايرة ومناورة، ولم تغيّر من بُناها التنظيمية بما يؤسّس للفعل الحزبي الجماعي ويؤصّل للعمل الديمقراطي، بل وحافظتْ على طابعها العمودي حيث كانــــت القيــــادات الحزبيــــة في أعلى الهرم التنظيمي تتولى رسم السياسات وأخذ القرارات، وتعمل على تنزيلها إلى القواعد للاطلاع عليها وتنفيذها أو إثرائها في أحسن الأحوال، فالقواعد لا تُستشار أوّلا، ولا تساهم في بلورة الرؤى وضبط الاختيارات، بل أكثر من ذلك نادرا ما تُتاح لها فرص الالتقاء بأعضاء القيادة الحزبية والحديث إليهم، مما يخلّف لديهم حالة من عدم الرضى، وتململا غالبا ما يؤدي بهم إلى مغادرة التنظيم والبحث عن خيارات بديلة.
إنّ طبيعة الهيكلة العمودية لكثير من الأحزاب التونسية لا زالت تستبطن سلوكا ستالينيا يلغي الاستشارة والإشراك في تقرير مصير المؤسسة الحزبية، ويصادر الاختلاف والتنوّع وإمكانيات الإثراء والتطوير.
غربة الأقلية
 
تظهر من حين إلى آخر داخل الأحزاب التونسية أقليات تتحلى بروح النقد والدعوة إلى المراجعة والتصحيح وتعبر غالبا عن رأي مخالف للسياسة والنهج المقررين من طرف الأغلبية الحزبية. 
وفي ظل غياب التقاليد الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، تواجه الأقليات الحزبية بكثير من البرود واللامبالاة من طرف عناصر القيادة التي تعمل في أحيان عديدة على تهميشها أو تجميد أنشطتها، بتعلة عدم الانضباط للقرار الأغلبي أو عدم الالتزام بالنظام الداخلي للمؤسسة الحزبية.
وإذ تظل الأقليات متحلية بالصبر متشبثة بمواقفهــــا الناقـــدة عاملة على تحقيق تصوراتها في الإصلاح والتطوير، فإنها تجد نفسها -أمام تعنّت القيادة وعجز المؤسسة عن استيعابها والاستفادة منها- مُحبرة على وضع حدّ لانتمائها الحزبي.
 وهكذا تفقدُ مثلُ هذه الأحزاب بعض مكوناتها الحيوية، وتتعرضُ للاهتزاز والتفتت، وتفقدُ تماسكها وقدرتها على الفعل والإشعاع.
إنّ الأحزاب التي لا زالت تضيق بأقلياتها الحزبية وترى فيها تهديدا للمسار وصنع القرار هي أحزاب بعيدة كل البعد عن الديمقراطية فلسفة وممارسة.
 
عائق الأيديولوجيا
 
رغم خطابها السياسي المفتوح وشعاراتها الديمقراطية المتنوعة ظلت عموم الأحزاب السياسية التونسية محكومة بعوائق عقائدية وأيديولوجية تتحكم في طرق تفكيرها وقواعد تسييرها.
 وإذا كان الانتماء إليها قد بدا في ظاهره رهين تبني المبادئ الحزبية والبرامج السياسية، فإنه عمليا ظل محكوما بالخلفيات العقائدية والأيديولوجية للأفراد. وقد كان الإقصاء والاستثناء والاستبعاد عملا ممنهجا في المحطات المهمة وخاصة عند التحضير لاصطفاء العناصر القيادية، حيث يقع التسويق لانتخابها بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك تقزيم المخالفين عقائديا وأيديولوجيا واتهامهم بالسعي لافتكاك المؤسسة الحزبية، والسير بها عكس مجراها الطبيعي يسارا أو وسطا أو يمينا، وهو ما يدفعهم غالبا إلى القطيعة التنظيمية وتغيير الوجهة الحزبية.
إنّ الديمقراطية في تاريخ الأحزاب التونسية لم تكن أمرا واقعا ومعيشا إلا متى كانت منسجمة مع التوجهات الأيديولوجية للقيادات الحزبية ورغبة هذه الأخيرة في إخضاع الجهاز التنظيمي لإرادتها. 
 
خلاصة القول
 
إن حالة الانقسام والتفتت والتشرذم والعجز عن تحقيق الاندماجات الحزبية وبناء التحالفات السياسية  التي عاشتها ولازالت تعيشها عموم الأحزاب السياسية التونسية، تُعدُّ سببا مباشرا في ما تعرفه تونس من هشاشة سياسية مُعطلة لمسار إرساء مجتمع ديمقراطي قوامه المشاركة الفعلية والمنافسة القوية والتناوب السلمي على السلطة.
 وأعتقد أنّ من المصلحة الوطنيــــة والحكمــــة السياسيـــــة أن تعيَ هذه الأحزاب خطورة ضعفها وسلبيتها فتراجعَ بُناها التنظيمية التقليدية، وتطوّرَ رؤاها السياسية وتتمرسَ بالديمقراطية، وتحتكم إلى آلياتها، وتجعلَ من الاختلاف والتنوع قاعدة لعملها الحزبي والسياسي، وعاملا أساسيا من عوامل إثراء برامجها وتطوير أدائها.