قراءة في كتاب

بقلم
د. مصباح الشيباني
حفريات سوسيولوجيّة في الشخصيّة العربية: قراءة في كتاب "الشخصيّة التونسيّة، محاولة في فهم الشخص

 المقدّمة

 
 يتنزّل هذا الكتاب ضمن آخر الإنتاجات الفكرية والأبحاث السوسيولوجية المتخصّصة و"الأكاديمية" الجديدة التي قام فيها الأستاذ والباحث الاجتماعي التونسي المنصف ونّاس بـنوع من "التّعرية الأركيولوجية" للشّخصية التونسية . استهلّ المؤلّف كتابه بمقدّمة طرح فيها المبرّرات الابستمولوجية والمعرفية التي تشرّع لإعادة البحث السوسيولوجي والأنثربولوجي في مفهوم "الشخصية القاعدية" والوطنية للمواطن التونسي. فهذا المفهوم يشكّل حسب الباحث مدخلا مهما لدراسة تطور المجتمع التونسي ويحيل إلى تجليّات التحولات العديدة والتطورات البنيويّة العميقة التي شهدها هذا المجتمع منذ التاريخ القديم.
وتوزّعت أقسام هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول: 
الفصل الأول: اهتمّ فيه الباحث بدراسة أسس الشخصية القاعدية التونسية ومراحل تشكّلها تاريخيا واجتماعيا. فكانت خصائصها متنوّعة ومتناقضة أحيانا. إذ تتراوح السّمات العامّة للشخصية التونسية بين الشّمولية والتنوّع باعتبارها ”محصّلة تراكمات تاريخية وثقافية واجتماعية وحضارية متعدّدة“(1)  امتدت على أكثر من ثلاثة آلاف سنة : بدءا بالحضارة القرطاجنّية والرّومانية مرورا بالحضارات الوندالية والأندلسية ثم الحضارة التركية والغربية الاستعمارية وصولا إلى مرحلة الاستقلال. 
 على الرّغم من تعدّد هذه الحضارات واختلافها من حيث المدى والتأثير، فإنّها أكسبت الشخصية التونسية ثلاثة أبعاد وهي:التأقلم والصّهر والانصهار. وهذه الأبعاد الثّلاثة جعلت التّونسي يكتسب خاصية أساسية وهي المرونة والوعي بالانتماء إلى جماعة عرقية واحدة وإلى حضارة مشتركة مهما تكن قيمة هذه الحضارة(2)  فقد هيّأت الحضارة الرّومانية الطويلة مثلا، الأرضية الحضارية والنفسيّة حتى تكون شخصية التونسي شخصية مطواعة ومتقبّلة للواقع ومهادنة له جرّاء انسداد الأفق وانعدام فرص التّغيير على الرغم من كل الانتفاضات(3)  لذلك تميّزت شخصية التونسي بالمرونة والقدرة على الانفتاح على الوافد الأجنبي. كما إنهّا شخصية شديدة المهادنة واللاّمبالاة أحيانا وعدم تحمّل المسؤولية.
الفصل الثاني: تناول فيه سمات الشخصية التونسية وواقعيّتها القصوى. فهي شخصية تهرّبية والتفافيّة وبراغماتية. ونتيجة المسار التحديثي "المُدوْلن" للمجتمع (الذي هيمنت عليه مؤسسّات الدولة) اتّسمت الشّخصية التونسية في بنيتها العامة وسلوكها الشّائع حتى وإن وجدت استثناءات كثيرة، بأنّها شخصية غير مقاومة للأوضاع الصّعبة بمختلف معانيها. 
لذلك فهي: 
أولا: شخصية منجحرة: تتخبّأ وتتهرّب من تحمّل المسؤولية ولا تفضّل الصّدام والمواجهة في أحيان كثيرة. فالانجحار والتهرّب الاجتماعيين حسب الكاتب، هما صفتان متلازمتان في الشخصية القاعدية التونسيّة. وفي مقابل هاتين الصّفتين "السّلبيتين" تتصف هذه الشخصية أيضا بالقدرة على إنتاج آليات من الذّكاء الاجتماعي النّفعوي الذاتي وليس على شكل ما يسميّه الكاتب بـالذكاء الخلاق الذي يفرض من النّاحية النفسية والّسوسيولوجية القدرة على تجاوز الذات وتأجيل مصالحها من أجل استنباط وسائل تطوير الحياة وابتداع أنماط معيشيّة جديدة ترتقي بالأفراد وتحسّن المكاسب المشتركة وتعود بالنفع على المجتمع في عمومه(4) 
ثانيا: شخصية قاعدية شديدة المهادنة: فمن السّمات غير الايجابية لشخصية التونسي هي "صفة الواقعية"وهي الواقعية المرَة" التي تتولد عنها ظواهر معينة مثل العزوف عن الشأن العام وتبني سلوكيات العزوف عن الاهتمام بالمدينة واللامبالاة والاكتفاء بالمشاهدة غير الملتزمة (5) . وتعود هذه الخاصية إلى مراحل التّنشئة الاجتماعية التي لم تساعد التونسي على إنتاج سلوك ديمقراطي شفّاف من جهة وعلى التّفاعل الايجابي مع الشّأن العام وعلى تقويم نقائصه ومعايبه من جهة أخرى (6) .
 فمن خلال ما ذكره الباحث من أمثلة شعبية وشهادات واقعية من قبل مختلف الفاعلين الاجتماعيين الذين شملهم البحث الميداني توصّل إلى نتيجة أساسية وهي وجود أزمة في الشخصية القاعدية التي تؤكّدها بعض المؤشّرات الأنثربولوجية والسوسيولوجية الدالة. هذه الأزمة يعبّر عنها بـالأنوميا المجتمعيَة وتفكَك البنيات الاجتماعية والثقافية والمخيالية والرَمزية تفكَكا عميقا دون إيجاد بديل لها (7) . 
ثالثا:شخصية مفارقية: فهي تعتمد أنماطا من السّلوكيات الاجتماعية اللاّمعيارية  (anomy).  وتقوم على منظومة سلوكية وقيمية مختلّة ومهتزّة، فيعيش فيها الإنسان نوعا من الحيرة الوجودية  فيما يتعلق باختيار المعايير والقيم التي يتوجّب إتباعها. ومن النّاحية النفسية والأنثربولوجية تعبّر هذه الأزمة عن حالة من الانفصام بين المنطوق اليومي والمعيش الحقيقي للمجتمع. ويصل الكاتب في الأخير، إلى القول بأنّها شخصية متوتّرة  وتعتمد في منطوقها اليومي العنف اللفظي. 
الفصل الثالث: أعاد فيه الباحث طرح الإشكالية الحضارية التي شغلت ومازالت تشغل المفكرين العرب المعاصرين وهي قضية أسباب فشل عملية الانتقال من مجتمع "الزّبونية" (المجتمع التقليدي) إلى مجتمع "الاقتدار"(مجتمع الحداثة) في الوطن العربي. 
 لقد تميّزت مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الجديدة في تونس بظاهرة التّلازم بين التحديث السياسي والتحديث الثقافي والدّيني من جهة أخرى. وقد كان هذا التّلازم عضويا لأنّه يمثَل مرتكزا استراتيجيا لعملية التحديث وتشكيل الأنا الوطني وإعادة بناء الشخصية القاعدية (8) . لهذا اتّخذ التَحديث في تونس طابعًا مُدوْلنا ومُعلْمَنا إلى حد ما. فأنتجت هذه الدَولنة حالة من "الاندغام" بين الفاعل السياسي الرسمي والمجتمع بحكم الطَابع المركزي من جهة والحرص على التحكم في أداء المجتمع ومختلف مفاصله من جهة أخرى. ولذلك لم يتمكن المجتمع من أن يوجد هامشا من الاستقلالية يساعده على التعبير عن ذاته وتشكيل مجتمعه المدني القوي والموازي لهيمنة الدّولة (9) .
وهذه المفارقة الثقافية مازالت تهيمن في مستوى العلاقات والقيم على الرّغم من وجود هياكل تعبير حداثيّة بغض النّظر عن درجة نجاعتها. وهذه الثّقافة المفارقية أدّت حسب الباحث، إلى انتشار ظواهر اجتماعية مكمّلة مثل: الزّبونية والمحسوبيّة والجهويّـــة، وإلى إعادة إنتاجها بغض النّظر عن اللّبوس الذي تتّخـــــذه سواء كان حديثا أو تقليديا. وهذه الثّقافة تعبّر عن إشكالية الأنوميا الأخلاقية والقيمية التي أدت إلى  فشل المجتمع التونسي في الانتقال إلى الحداثة وجعلته مجتمعا دون حصانة. هناك حالة من الوهن البنيوي لهذه الشخصية وهو ما يفسّر فشل مجتمعنا العربي في تحقيق الانتقال الديمقراطي وانتشار ثقافــــة اللاَمبــــالاة والعـــــزوف عن المشاركة في الشّأن العام. وظلّت مؤسّسات المجتمع المدني عاجزة إلى اليوم، رغم مــــرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال، من أن تكـــون قادرة على إعداد الفاعلين الاجتماعيين وتنشئتهم على قيم الإبداع الجماعي ومن تأسيس تجربة التغييـــــر (10) في الثّقافة والسّياسة والقيم والأخلاق والاجتماع.
 أهم ما تميّز به هذا النّص يمكن أن نقف عند مسألتين وهما:
 
1ـ المقاربة المنهجية للدّراسة 
 
 لقد تعدّدت الأسئلة في هذا النص. فكانت لازِمة ٌمنهجيةٌ تعبّر عن فكر إشكالي ومنهج تحليلي يقلَب المسائل تقليبا ويدقّق النظر فيها تدقيقا علميا. وهذا المجهود المنهجي يدلّ على وجود حيرة معرفية عاشرت المؤلف وصاحبته طويلا، بل مازالت ماثلة عنده، لذلك جاء النص يحمل في ثناياه ألمًا حقيقيا بشكل واضح وجلي، معلنًا أحيانا ومتخفيًا أحيانا أخرى من خلال النّصوص أو الحجج المتنوّعة وما ترمز إليه من معاني سوسيولوجية وحضارية ورمزية. ويعكس شكلا من أشكال "خطاب المجتمع" التونسي عن نفسه، ويحدّد المعاني الحقيقية التي تقوم عليها أسس الشخصية التونسية. فالمقاربة الحفرية التي تستهدف تعرية خفايا المجتمع العربي ووقائعه الحقيقية هي قراءة تحاول استنطاق معنى ما كان له معنى... وإعطاء نوع من المعنى لما كان يقدم نفسه بلا معنى..تماما كما يفعل عالم الآثار (11) .
 نعتقد أنّ هذا الشّكل من "أركيولوجيا الحفر" في ميدان مناهج العلوم الإنسانية عموما والاجتماعية خصوصا، أساسية من أجل البحث المعمّق في متون المعيش اليومي للمجتمع ووقائعه الحية. وقراءتها مجدّدا قراءة مختلفـــة ومن زوايا متعدّدة بهدف الكشف عن شيء غير معروف عنها سابقا. وفي هذه الحالة تتغيّر النظرة إلى متون هذا المعيـــش المجتمعــــي في مختلف تجلياته الاجتماعيــــة والنفسيـــة ـ موضوع البحـــث ـ من مجرّد رواية أو إخبار عن حقيقة الوقائع الاجتماعية ليصبح منتجا لها في الوقت ذاته. 
 لقد جاءت هذه الدّراسة حفريات في الوعي الفردي والجماعي، وحفريات في الواقع السوسيولوجي والأنثربولوجي التـــي تجلّـــت في مختلف أبنية المجتمع التونسي ومؤسسّاته الاجتماعية والسياسية. وحمل النص أيضا مجهودا بحثيا كبيرا في المخزون الثقافي والسوسيولوجي للمجتمع التونسي وفي ذاكرته وممارساته ومعيشه اليومي. فـالبشر الذين يصنعون ظواهرهــــم، لايتكوّنـــون في الفراغ ولا هم ودونما سبب، على هذا النحو أو ذاك. إنَما هم نتاج ما يصنعونه، فيكــــونــــون بشكــل أو بآخـــر ذوات الظواهــــر وموضوعاتهـــا في آن معا (12) . 
 كما تجلّت خصائص الشخصية القاعدية من خلال الكلمة الحيـــة التي تعبّر عن قصص ووقائع ظلّت ماثلة في مخيالها الاجتماعي والنّفسي وأصبحت بفعل تكرارها عند "الخاصة" (المثقفين والأساتذة الجامعيين مثلا) و"العامة" (المواطن العادي في الشارع والمقهى...) تشكّل مرجعا حيا لتقاليده وأصلا لثقافته السياسية والاقتصادية والتربوية...الخ. فهي عبارة عن إنتاجات مشتركة فكانت لها هذه السّمة الجماعية إنشاءً وتلقينًا وتداولًا (13) . 
 نعتقد أنّ هذا العمل السوسيولوجي والأكاديمي قد دشّن منطقا سوسيولوجيا جديدا في دراسة المسائل الاجتماعية والحضارية للمجتمع. لقد وجدنا في هذه الدّراسة الرّغبة في تأسيس حداثة الذّات الخاصة والانخراط في حقول الفعل المؤسّس للتّغيير دون القفــــز عن الواقع أي الانطلاق من واقع الأزمة العربيـــة. وهي دراســـــة من أجل وضع منهجية جديدة في البحث والفهم والإفهــــام (14) . كما تمكّن صاحب النص من استخدام نوع من الحيل المنهجية (15) على حد تعبير أميل دوركايم لصياغة الظواهر الاجتماعية وقراءتها قراءة علمية وموضوعية. 
ومن عناصر قوة المنهجية التي اعتمدهـــا الباحث في هــــذا النّص هي المزاوجة بين البعدين الكمي والكيفي. هذه الميزة المنهجية النادرة والمعقّدة حضرت فيها مختلف أنواع الإسنادات المرجعية بدءا بالتّاريخ والأنثربولوجيا الثقافية مرورا بعلم النّفس وعلم الاجتماع وصولا إلى الاقتصاد والجغرافيا..الخ كل هذه المداخل والمحدّدات المختلفة للشخصية القاعدية التونسية أنتجت قراءة متكاملة ومتكافلة لها. وجاءت أيضا قراءة موضوعية في قضية حضارية مازالت ذات صبغة خلافية وصراعيّة دائما. 
 فقد تمكّن المؤلّف من إبداع نص سوسيو ـ أنثربولوجي مغاير يقوم على معجميّة اصطلاحية تمتزج فيها ضوابط التّفكير العلمي و"المعرفة العالِمة" بالتحليل البسيط واستعمال مفردات الخطاب العادي والمألوف. كل ذلك من أجل التّنقيب عن خصوصيات الواقع العربي وما تختبئ تحته من ركامات ثقافية ورمزيّة ومن نفايات ومعاني ومعتقدات وسلوكيات مازالت فاعلة في هندسة سمات شخصية الإنسان العربي.
 
2ـ أنساق الحجج  في النص
 
كل مفهوم علمي اعتمده الباحث له مبرّراتـــه ودواعــــي استخدامه في علاقة بهدف البحث وهو إعادة النظر في المسألة ـ الشخصية التونسية ـ مجدّدا ولكن بطريقة مغايرة من حيث المعالجة والأسلوب وطرائق الحجج. فالرّافد الثاني الذي تميز به هذا النص هو أنساق الحجج التي استخدمها الباحث كشبكـــة من الاسنـــــادات المرجعية في الدّراسة الميدانية. فجاءت هذه الأنساق منتمية إلى مصادر استقاء مختلفة ومتنوعة. منها ما هو رئيسي ومنها ما هو فرعي ضمن منظومة لعرض رؤيته الكلية (16) في سياق تعاضد الحجج من حيث مجالاتها المعرفية ومصادرها ولغتها أيضا. فكانت لغة التّواصل اليومية في المجتمع التونسي مصدرا من مصادر بناء النص ومادّة الحفر السوسيولوجي والبحث في مضامينه ودلالاته النفسية والاجتماعية والرمزية. وبهدف الكشـــــف عمّــــا تضمّنه هذا الخطاب من فكر ووعي اجتماعيين تمّ السّكوت عنهما في سابق الدّراسات السوسيولوجية التونسيّة والعربيّة عموما. 
لهذا يمكن الوقوف عند ثلاث مسائل رئيسة ضمن متون هذا النص وهي:
أولا: لقد وجدنا في متون هذا النص ودواخله قدرة كبيرة على الحفر والكشف ثم الإفهام. وجدنا فيه خطابا علميا يتشكل من سياقات التاريخ والجغرافيا والثقافة. وفي هذا النص هناك اكتشاف لعمق الإنسان العربي في كليّتـــه وفردانيّته عبر المزاوجة بين النصوص التاريخية والتراثية والشهادات الحية والأمثال الشعبية. هذا التمفصل بين جميع هذه الحجج أنتج نصّا تتفاعل فيه خصائص جغرافيّة المكان والوسط الطبيعي الذي نشأت فيــه الشخصيـــــة التونسيــــة وبين سماتها الثقافية والاجتماعية والنفسيّة الأساسية باعتبار أنّ شخصيات الشعوب والمجتمعات والأفراد ليست محصّلة السياقات الاجتماعية فقط، بل هي ثمرة عنصرين نراهما على درجة من الأهمية: التاريخ والجغرافيا (17) .
ثانيا: في رأينا، مثّل هذا النص إحدى القراءات الجامعة والعالمة التي أكّدت معنى التكافل والتكامل بين المداخل المعرفية والحجج والاسنادات المشكلة لخاصيات الشخصية التونسية والعربية عموما. هناك تأصيل علمي في الوعي بالموضوع و"صناعة" لصورة الإنسان العربي ضمن مقاربة سوسيولوجية عميقة ودقيقة في النّظر والتّنظير. لقد كشف هذا النص  الحجاب عن الجوانب المستترة للظواهر الاجتماعية ولسلوكيات الفاعلين الاجتماعيين (18) بالمجتمع التونسي من خلال منهج المعايشة الميدانية والبحث والتحقيق حتى يصل بالقارئ إلى فهم هذه الظواهر وتفسيرها دون عناء من خلال اعتماده أسلوبًا بحثيا بسيطا وعميقا في الآن نفســـه. لذلك، يعتبر هذا النص " الشخصية التونسية" نصًا حضاريًا بكل ما تعنيه الكلمة من معان. فأهميّته لا تتوقّف على الوعي بمشكلات البناء المجتمعي في كليته، بقدر ما تظهر أهميته أيضا في كشف "معمار" العلاقات الاجتماعية وفق منهج ورؤية واضحتين لجميع عناصر الذّاكرة الحضارية للمجتمع.
ثالثا: نعتقد أنّ هذا النص قد أعاد إثارة قضية حضارية في زمن فارق في تاريخ أمتنا العربية التي مازال النّقاش حولها والبحث فيها لم يحسم بعد. فدراسة الشخصية القاعدية للإنسان العربي ووضعها موضع إشكال سوسيولوجي تحتاج إلى كفايات علمية وبحثية من أجل إعادة تأسيس البنى المكوّنة لها وتصحيح عناصر الخلل الماثلة فيها في إطار حوار فكري ناهض ودافع للتغيير:فكرا وبنيانا وممارسة. وضمان الدقّة المنهجية والتمشّي الموضوعي حتىّ تكون في النهاية ذات كفاءة وكفاية بحثية سوسيولوجية عالية من أجل التعرّف على مضمون النص الحضاري وحركة أفكاره وسياقاته ومفاهيمه وحججه وأسلوب معالجته للقضايا، وغير ذلك من المسائل البنائية المشكلة لمختلف عناصر النص الأساسية والفرعية.
 إذ قامت الأطروحة على عديد الافتراضات العلمية المدعّمة بما فيه الكفاية بالمعطيات والاحصائيات ومختلف المؤشّرات الكيفية والكميّة.فـ "التّعرية الأركيولوجية" التاريخية والحضارية للشخصية التونسية التي أنجزتها الدّراسة تمثّل في رأينا أوّل شرط لفهم الوضع المجتمعي القائم حتى نتمكّن في ما بعد من إنجاز أي عملية تغييـــر أو إعادة بناء لمختلف المنظومات المشكلة للشخصية القاعدية. فقد توصل هذا النص إلى تعرية ما ترسّب في المجتمع التونسي من قيم ومعايير ورموز التي أدمجها النّاس في ذواتهم وأصبحت تمثّل جزءا من أنظمتهم العقائدية وتمثّلاتهم الاجتماعية وسلوكياتهم اليومية.
كما وجدنا في هذا النص حصيلة رحلة الكاتب الحافلة بالبحث والعلم والمعرفة،  فتجلّت لنا من خلاله أنّه مؤرّخ وباحث وأكاديمي وعالم اجتماع ومعني بالاقتصاد والسّياسة. فكفايته ) competenc (la البحثيّة التي جمعت بين  مختلف هذه العلوم مكّنته من توليد الأفكار وبلورتها وتوظيفها من أجل الإقناع والاستدلال العلميين. كلّ ذلك بشكل يتجاوز فيه المألوف ويسجل من خلاله أيضا جرأة في الطرح والتّحليل وسلاسة في عرض النتائج. فجــــاءت الدّراسة عبــــارة عن قراءة سوسيولوجية وبحثيّة حيّة ومتطــــوّرة وهادفة تنهـــــل من جميع المعارف وتقتحم جميع حقول المجتمع من أجل فهم منطق الوقائع الاجتماعية ( les faits sociaux) وفهم معيش النّاس اليومي وفق مقاربة هادئة وحذرة في الفهم والتّفسير لتّحليل.
                                                                             المراجع
 
(1) المنصف ونّاس، الشّخصية التونسية ، محاولة في فهم الشخصية العربية، الدّار المتوسّطية للنشر، الطبعة الأولى 2011، ص 31.
(2)  المرجع السابق، ص32.
(3) المرجع نفسه، ص48.
(4) المرجع نفسه، ص68.
(5) المرجع نفسه، ص77.
(6) المرجع نفسه، ص81.
(7) المرجع نفسه، ص93.
(8) المرجع نفسه، ص65.
(9) المرجع نفسه، ص ص66 ـ 67.
 (10) Renaud Sainsaulieu, Des sociétés en mouvement, la ressource des institutions intermédiaires, Paris, Dexlée de Brower, 2001, p. 81.
(11) محمد عابد الجابري، حفريات في الذاكرة من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 1، 1997، ص8.
(12) حامد خليل، أزمة العقل العربي، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1993، ص5.
(13) محمد عجينة، حفريات في الأدب والأساطير، دار المعرفة للنشر، الطبعة الأولى، 2006، ص38.
(14) محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص 8.
(15) أميل دوركايم، قواعد المنهج السوسيولوجي، ترجمة سعيد سبعون، دار القصبة للنشر، الجزائر، الطبعة الأولى، 2008، ص 35.
(16) طه عبد الرحمان، الإنسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998، ص254.
(17) المنصف وناس ، الشخصية التونسية، مرجع سابق، ص71.
(18) محمود الذوادي، الوجه الآخر للمجتمع التونسي، تبر الزمان ، تونس 2006، ص11.