حوارت الاصلاح

بقلم
فيصل العش
حوار شامل مع الخبير التربوي وعضو المكتب السياسي لحزب الإصلاح والتنمية (الجزء الأول)

 الأستاذ محرز الدريسي ناشط  في الحركة الطلابية من (1983-1987)، انخرط في العمل الصحفي وعمل محررا في جريدة الأيام ولديه عمود أسبوعي حول الشأن الثقافي ، كتب العديد من المقالات في الصحف (الموقف - الرأي- حقائق)، عضو بهيئة تحرير مجلة 15-21(مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي). وشارك في العمل الجمعوي من خلال عضويته للجنة العلمية لمنتدى الجاحظ للفكر الإسلامي المستنير وعضو بالهيئة المديرة لمنتدى الجاحظ وكاتب عام مساعد. عضو هيئة تونس بجمعية تطوير التربية المدرسية مكلف بالندوات العلمية.

شارك في العمل السياسي من خلال انخراطه في الحزب الديمقراطي التقدمي وعضو لجنته المركزية، مقرر لجنة النظام قبل أن يستقيل سنة 2006 . أحد مؤسسي حزب الإصلاح والتنمية وعضو مكتبه السياسي .عضو مؤسس لنقابة المستشارين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي.
متحصل على الأستاذية في الفلسفة وعلى شهادة الدراسات العليا المتخصصة في علوم التربية وعلى شهادة الدراسات المعمقة في علم النفس التربوي ، ينتظر مناقشة  أطروحة  دكتوراه حول برنامج تدريبي في التربية على تنمية الذات.
خبير تربوي ومدرب كون أسلاك تربوية وإدارية عديدة،ساهم في صياغة الإستراتيجية الإعلامية للمستشارين في الإعلام والتوجيه. عمل في العديد من اللجان التربوية الوطنية لإصلاح منظومة التوجيه المدرسي واللجنة الوطنية لتقييم النظام التربـوي و اللجنـة الوطنيـة لتقييم المدرسـة الابتدائيـة، واللجنة الوطنية للتدريب على التعلمات الاختيارية. شارك في صياغة دليل إجرائي لحل النزاعات في الوسط المدرسي وفي إعداد أدلة تطوير مشروع المؤسسة (الابتدائي- الأساسي- الثانوي). 
عضو في اللجان العلمية لمناقشة بحوث تخرج مستشاري الإعلام والتوجيه، عضو في المجالس الاستشارية الجهوية للتربية. لديه العديد من البحوث الميدانية والدراسات والترجمات في السياسة التربوية والثقافية. والأستاذ محرز الدريسي مستشار عام في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي بوزارة التربية. التقيناه وأجرينا معه  حوارا شاملا حول السياسة والثقافة والتربية وإليكم الجزء الأول منه :  
(1) من هو محرز الدريسي؟
 
من جيل نشأ في خريف بورقيبة وتربى على حلم التغيير والتطلع إلى قيم الحرية والعدل والخير، وكانت مفاهيم الثورة لدينا تعبر عن الانبعاث الحضاري والتغيير لا ينفصل عن التقدّم والتنمية لا تنفك عن الوحدة. كنا جيل أعطى طعما خاصا  للفضاء التلمذي وغرس فيه الروح الجماعية وغذى فيه نبض النضالية، وفي المرحلة الجامعية أدمج التنوع الواسع ورفع الرؤوس المتخوفة في الميدان وطور مكونات الحركة الطلابية . أنا من جيل مرّ أغلب رموزه بدهاليز وزارة الداخلية وأقبية "القرجاني" و "محلات بوشوشة" والتجنيد الإجباري في قرعة بوفليجة والمطروحة 1 و2،إنّها وشم لا ينمحي،كان حاميا لنا في فترة سابقة ومحصنا لنا حتى لا ننسى عذابات المستضعفين.
 
(2) ما الذي جاء بخبير في علوم التربية والثقافة إلى عالم السياسة؟
 
لم آت من مجال التربية إلى عالم السياسة، بل أتيت من عالم السياسة إلى مجال التربية، فالسياسة لم تكن نشاطا ملحقا أو ثانويا، بل كانت السياسة جوهر حياتنا و انطولوجيا وجودنا ،فمنذ أول شبابنا و بداية مراهقتنا اعتبرنا أن السياسة ليست احترافا نضاليا أو ممارسة إجرائية، بل هي التفكيـــــر في "وضعنــــا" التاريخي وفي مآزقنا المجتمعية. كنا ننظر إلى السياسة بما هي أفق معالجة قضايا مجتمعنا و مسالك الدفاع عن الحرية للجميع وتربية المجتمـــــع، كــــان النضـــــال فـــــي الساحــات العامـــة يتغـــــذى لا من الحلــــول الجزئيــــة بل من الإيمان بالمشاريع الكبرى، وتربينا على "قاعدة" - نطالب بالحرية  في الجامعة كما نطالب بها في البلاد- مع استبطان سؤال شكيب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهــــم؟"، وكان النضــــال الميداني موازيـــا مع المطالعة في غرف المبيتات وفي المكتبات، وقراءة الكتب ومتابعة الأحداث. والتربية بالنسبة إلينا ليست مهنـــة وإنما زاويــــة أخرى للنظـــر في خدمة المجتمع و تطويره، و أن التربية سياسة القيم والبشر،وأن السياسة ماهيتها تربية وليست تقاسم للمغانم وتوزيع للمصالح، إنها أيضا تربية للإنســـان على القيــــم، وبالتالـــي أؤمن أن السياسة والتربية يتكاملان، فالسياسة تربية وإعادة الاعتبار للضمير الأخلاقي كمــــا يــــرى "هابرمـــاس" والتربية تربيـــة على الاحترام والثقة في النفس والإيمان بالمستقبل وبالذكاء الوجداني،وأن كل من السياسة والتربية ترفضان الأساليب القهرية، وقد بين ابن خلدون في مقدمته أن المناهج القائمة على الشدّة والقهر مضرة بالإنسان سوى في التربية أو في السياسة.
 
(3) هذا يجرنا لطرح ســؤال عــــن العلاقـــة بين السياسي والثقافـي أيهما الفاعل وأيهما المفعول فيه؟
 
هذه العلاقة عايشناها منذ أواسط الثمانينات في الساحة الإسلامية، حيث اعتبرنا أن السياسة في الحقل الإسلامي ليست مواقف ومواقع بل بناء وإنجاز ، وأنها لا تبنى على مفاهيم تقليدية أو رؤية ميكانيكية للفعل السياسي. ذلك أن النضال الثقافي هو عمق النضال السياسي، فالسياسة ما لم تنتج مشروعا ثقافيا وتحدث نبضا جديدا ودماء حية في المجتمع وتساهم في بناء إنسان جديد مؤمن بالفعل التاريخي ومؤثر فيه، ليست إلا سياسة ميكيافيلية عقيمة. فالسياسة الناجعة تلك التي تتفاعل مع مقتضيات العصر وتتعاطى مع لحظتها التاريخية وتفك شفرتها، و تولى مشروع التقدم والحداثة والتجديد الحضاري أهمية محوريـــة في مدخلاتها ومخرجاتها، وتتجنب أن تختزل في مجرد أدوات تنافسية وتدافعية فارغة تفضي إلى تسطيح السياسي وإفراغه من مضامينه التاريخية ومن عمق رهاناته المجتمعية والإنسانية. و إذا أردنا تبيئة السؤال في لحظة ما بعد الثورة، نعتقد أن السياسة ليست المشاركة في اللعبة الانتخابية فقط، بل تستوجب طرح مضامينها الإنسانية والأخلاقية بالمعنـــى الفلسفي للكلمة و أن تجيب عن رهاناتها الثقافية والتحديثيــــة، حتى لا يقتصر المعجم السياسي على مربــع السلطـــة بل أن يشمل شروط النهضة الشاملة .
 
(4) هل نجحت الطبقة السياسية في بلورة المطالب التي قامت من اجلها الثورة؟
 
إن ثورة 14 جانفي المجيدة ساهمت فيها كل الفئات الشعبية وكل الفئات العمرية وجميع الجهات في إزاحة نظاما دكتاتوريا خنق الأنفاس وكبت الحريات وشلّ القدرات وحول المجتمع إلــــى نســــق مغلــق بعبـــارة" كارل بوبر". وتوصلت الطبقة السياسيـــة إلى بلورة الأداة السياسية والمؤسسية للثـــورة ممثلــة في المجلس الوطني التأسيسي، ولتتفق نظريا في تحديد مطالب الثورة وشعاراتها المركزية في شقيها السياسي والاجتماعــــي. لتختلف القــــوى السياسيـــــة فيمــــا بعد في تحليــــل المشهــــد و في المضاميـــن والآليــــات وهو أمر إيجابــــــي عمومــــا ، فالصــــراع في حد ذاته لا يخيف، إلا أن المخاطر بدأت تتسرب حين انزلقت بعض هذه القوى في تقديري في تشخيص خاطئ للمرحلة بين سلطة تحكم ومعارضـــة تعارض، في خطاطة تقليدية لدولة تركزت هياكلها وتشكلت مؤسساتها. لم تفهم الطبقة السياسية طبيعة المرحلــة أي مرحلــــــة ما بعـــــد الثورة ومــــا بعد الاستبـــداد، و أن المطلوب في هذه المرحلة التأسيسية الالتقــــاء على بلورة مشروع وطني متفق على ملامحه وجوهره، من حيث بناء الدولة وأسسها و مبادئها. وأن تدعيم الثورة لا يكون فقط بالأدوات السياسية فقط وإنّما بالحث على إحداث ثورة ثقافية وقيمية تتجاوز التجاذبات "التقليدية" بمضامينها الإيديولوجية والسياسية إلى ضخ روح جديدة في المجتمع أي ثورة ثقافية تجذّر قيم العمل والجهد والديمقراطية المحلية والتعايش وقبول الاختلاف، وأن تتساند من أجل إعادة بناء الاجتماع المدني والسياسي وتجديد قيم التماسك الاجتماعي والتضامن المجتمعي. 
 
(5) هل تعتقد أن المثقفين في مستوى المرحلة ؟
 
لم يشارك المثقفون كنخبة منتجة للرمــــــوز وللوسائـــط القيميــة في الثورة إلا كأفراد،وقد أبرز ذلك منصف وناس بدقة في كتابه "الشخصية التونسيـــــة" العوائــــق البنيويـــة المعششـــة فيهم، وأن على النخبة أن تشتغل على نقد نخبويتها وتفكيك فوقيتها والتخلي عن "زبونيتها". وأن على المثقف أن لا يبقى على الشاطئ يكتشف بحذر درجة حرارة الماء من حين لآخر ويظل معظم الوقت بعيدا عن البلل بعبارة "ادوارد سعيد"، فالمثقف يكشف زوايا الظل ويتمرد على التفاهة و يبدع بإنتاج الأفكار وإنشاء الرؤى أن يتحول إلى قوّة اقتراح وإجتراح مسالك ابتكار جديدة وتأجيج النزوعات الإيجابية في كل المجالات الثقافية. إن الثورة تنتظر من المثقفيـــن أن يكونوا في مستوى المرحلة الثورية التي تميز مجتمعنا حاليا بتحمل مسؤوليتهم الثقافيــــة ولعب دورا نقديــــا للفســــاد وشجب كل مظاهر الانحراف الكائن والممكن و والارتقاء بالذائقة الفنية والقدرات الفكرية لشعبنا، و أن يحذروا من الانزياح في أتون جاذبية السلطة أي كانت مسمياتهـــــا، فمجتمــــع بلا مثقفيــــن مجتمـــــع بلا روح وثورة بلا مثقفين ثورة بلا أفق تاريخي
 
(6) بماذا تفسّر غياب الشباب عن الفعل السياسي بعد أن فجّر الثورة؟
 
بعد الثورة انقضّت النخب التقليدية والمتمرسة على المجال السياسي دون أن يصاحب ذلك تجديد في الفكر السياسي وتغيير في مفاهيمه وبقت في سياقات الفعل المجتر والسقف المحدد مسبقا. وأمام انكفاء الثورة في منطق الدولة وآليات السلطة وتسيير الشأن العام، لم يجد الشباب المساحة النضالية التي يتحرك على أساسها وضمن أفقها، فلا الأحزاب استطاعت تغيير آليات عملها ولا تغيير معايير فكرها وقيمها، لذا لاحظنا غياب الشباب في الحراك السياسي لما بعد الثورة. وأن الأحزاب تعاني فعلا في استقطاب الشباب في أنشطتها النضاليــــة والثقافيــــة، ذلك أن الشبــــــاب في حاجة إلى أفق إنسانــــي رحــــب ومهمــــة تاريخيــــة للانخراط المجتمعــــي، وبالتالي لا يمكن للهيكلة الحزبية الضيقة والأفق القيمي المطروح والوسائــــل التعبوية القائمة أن تستجيب لتطلعاتهم. والخيار الأمثل لمجتمعنا ولثورتنا أن يتموقع الشباب في الدينامية السياسية للحفاظ على جذوة الثورة، وأن يكونوا المشعل الذي لا ينطفئ، بابتكـــار أدوات فعل جديدة واستحداث آليات مؤسسية وتعبوية تحتفظ بحرارة الشباب وحماسهم، وتمنح الثورة ضميرها المراقــــب ونبضهــــا الذي لا يتوقف
 
(7) كيف ترون الساحة السياسية بعد سنة ونصف من الاطاحة ببن علي وما هو نوع الصراع الذي يحكمها؟
 
الساحة السياسية الآن في حالة تشظي وتفتت هيكلي، بل وكأنها تسير إلى مصير حتمي من الاستقطاب الثنائي،وهو أمر يمكن فهمـــه، ولكن لا يمكن تبريــــــره، لأن رغم الاختلافــــــات  والتباينات نحن نحتاج إلى لقـــــاء على أرضية  وطنية عامة ترتق الشرخ الذي يشــــــق الساحة السياسية ويحول دون تمزيق الجسم الاجتماعي. إن المشهد السياسي القائم حاليا لازال مشدودا إلى صور مستنسخة من صراعات إيديولوجية قديمة وتتغذى من تجاذبات فئوية ضيقة،نحن نحتاج بل وعملنا على مستويات عدّة على تقريب وجهات النظر حتى يرتقي الحـــراك السياســـــي إلى عتبة التنافـــس لا التنابــــذ والصـــراع لا الاحتـــراب، وأن السياسة التي تمارس الآن هي سياسة المخالب لا سياسة الأفكار.
 
(8) كيف تصنــــف حـــزب الاصــلاح والتنميــة ضمــن هذا الصراع؟
 
حرص حزب الإصلاح والتنمية في سياق المشهد السياسي الهش، على تقديم الاقتراحات المشجعة لأطر الحوار والنقاش وتقليص مساحات التباين وتعزيز مساحات التفاهم، وذلك بالإشارة إلى المخاطر المحدقة بالثورة والتنبيه إلى التهديدات التي يمكن أن تمس بلادنا،وأكدنا أن حالة التنافي والتنابذ لن تزيد الأوضاع إلا غموضا وحساسية. واعتبرنا أن من مهامنا الوطنية تشجيع كل محاولات الائتلاف وحلقات الحوار السياسي، وعملنا بهذه الروح في فتح حوارات مع كل الأطياف وكل الحساسيات الفكرية والسياسية ولم يكن لدينا نفي مسبق لأي طرف منحاز إلى الثورة. و كنا في حزبنا نبحث عن المشتركات أكثر من الاختلافات، ورفضنا الاستقطاب الإيديولوجي كقاعدة للحوار والتعاون، كما دعونا إلى خفض التشنج الذي ضرب الساحة سياسيا بالعمل على تركيز مناخ ثقة بين كافة الأطراف رغم تبايناتها المعروفة وأن تتضافر القوى وتتماسك ضمن أهداف وطنية مشتركة. وطالبنا بتعزيز أطر تبادل الآراء والتنسيق المشترك إيمانا منا أن المرحلة تتطلب تكاثف المجهودات وتكتل الإرادات وتوحد العزائم لتفويت الفرصة أمام إفشال المسار الانتقالـــي، وأن العــــدوّ هو عودة الاستبداد أي كان شكله ومقاومة الفقر والحيف والتفاوت الجهوى.
 
(9) تكاثرت في المدة الأخيرة حالات التداخل بين الدينيّ والسياسيّ، وهو ما انعكس سلبا على وضع الحرّيّات والعلاقة بين مكوّنات هامّة داخل المشهد السياسيّ. ما هو موقفكم ممّا حدث؟
 
ما حدث من تنابذ وصراعات يدل على تقلص مساحة التسامح وضمور ثقافــــة التوافق وتضخم عقليـــة ردود الفعــــــل، بل أكثر مــــن ذلك أن هناك التبـــاس في المفاهيم  وتداخل منحـــرف بين الديني والسياسي، ويكشف أن الفضاء الثقافي والفكري في بلادنـــــا يحتاج إلــــى إثراء وتنقيــــــة للثنائيات الملتبســــة، وأن العديد من الثنائيات التي تحكم فكــــــرنا تحتـــاج إلى مراجعات تبعدها عــــــن المواقف الإيديولوجيــــة أو الإجابات المسبقة.فالثنائيـــات القائمــــة حاليـــــا على توظيف الديـــن في السياســــــة يفضــــــي إلى نوع من إفــــــــراغ الدين وتهميشه روحيــــــا ومجتمعيـــــــا ويبلد قيمـــه، كما أن إبعاد الدين عن الساحة المجتمعية يفقد المجتمع رافدا أساسيا في تماسكه و التحامه وإعـــــادة صياغــــة شخصيتــــه القاعديـــــة. والتجاذبات الأخيرة التي عاشتها بلادنا حــــول المقــــدس بقيت فـــــي حـــــدود المشاكســـات والمناوشـــات، بينما المطلوب أن يُفتح المجال العمومي لنقـــــاش حقيقــــــي وعميـــــق ومسؤول حـــــول دور الديــــن في الحياة الاجتماعية، وحول مساهمته في تكوين الوعـــــي المدنــــي، مما يثـــــري القراءات ويرفـــــض الصـــور النمطيــــة، وهــــذا يستوجــــب فتح أبواب الاجتهاد و تحرير الديـــــن من إمكانيــــة الاستغلال الحزبــــــي، حتى لا تتناسل الأشكال المشوهة للإسلام.
 
(10) في ضوء مرجعياتكم الفكرية كيف ترون العلاقة المفترضة بين السياسي والديني؟
 
لا تتحدد علاقة الديني والسياسي في الوصل أو الفصل، بالشكل الذي يطرح الآن، بل يكمن الخوف في تحويل السياسة إلى ممارسة مقدّسة واستبعاد الفعل العقلي والنقدي وإفراغها من معقوليتها التاريخية و قطعها عن قاعدتها الاجتماعية. وأن الدين كقوّة روحية لا يمكن أن يبقى بعيدا عن الرهانات الاجتماعية وإلا تحول إلى عقيدة لا روح فيها، ولكن دون توريط للدين حتى لا تشوش مفاهيمه وتضطرب قيمه ويفقد نجاعته التأطيرية والتوحيدية. كما أن الدولة مؤسسة انجازية وليست فكرة عقائدية، والتخوف أن تتحول الدولة إلى غاية في حد ذاتها، وأن تعيد إنتاج التسلط والهيمنة، عبر إعادة توزيع المنافع والمناصب والمواقع على حساب بناء قاعدة موضوعية للمساواة والعدالة. بينما تتطلع شعوبنا وقواها الحيّـــة إلى دولة وطنية تعاقدية تشكل الإطار المشجع للحوار المدني وتغيير طبيعتها القهرية إلى دولة المساواة والحريات، وتطمح مجتمعاتنــا إلى سياسة حديثة تأخذ معناها الحقيقي بوصفها فعالية اجتماعية وسلمية ومنافسة شريفة ونظيفة لكسب الرأي العام للوصول إلى السلطة.
(11) أي دور يمكن أن يلعبه التيار السلفي في الحياة السياسية بتونس بعد الثورة ؟ وهل تعتقدون أنه يمثّل منافسا جادّا لحركة النهضة؟
 
نختلف اختلافا جذريا مع التيار السلفي والتفكير السلفي في نمط تفكيره وتمشياته المنهجية في إدراك المقدس وفهم الدين والسياسة، وفي طبيعة تفاعله مع القضايا المجتمعية والتاريخية وتعاطيه معها. لكن نرى أن التعامل مع هذا التيار لا يكون كما يقترح البعض ويحث عليه باللجوء إلى الحل الأمني، الذي نعده عاجزا عن مقاومة الفكر التقليدي وأسلوب التفكير الماضوي والشكلاني. وأن الحل الأمثل للحد من سطوته وخطورته فتح قنوات الجدل والفكر مع السلفيين، ونشر الثقافة  العقلانية والحس النقدي والتفكير التاريخي والذهنية الإسلامية المستنيرة وتوفير الفضاءات الثقافية والفكرية لتطارح الآراء وصولا إلى تفكيك مبرراتها التأصيلية وإبراز عقمها المنهجي وإزاحة مبرراتها الاجتماعية. ويبقى الحوار – ما لم تنتقل الظاهرة إلى العنف -هو الحل الناجع، وهو ما عاينته خلال مقابلتي أخيرا مع أبي حفص أحد رموز التيار السلفي بالمغرب الذي عبر عن نوع من المراجعات الفكرية وذهنية مرنة في التعامل مع القضايا الفكرية والفقهية أو في النظر مع الأطياف الفكرية والسياسية المختلفة. كما أرى أن إدماج التيار السلفي في معقولية الفعل السياسي والدخول في لعبة التنافس السياسي ضمن تشكلات حزبية وسياسية واضحة يضفي طابعا مدنيا على التيار السلفي ويدفعه للتكيف السياسي وربما الفكري والقيمي. ولا نرى حاليا في تقديرنا تباينا كبيرا وتمايزا لافتا للنظر بين التيار السلفي وحزب حركة النهضة، ونحن لا زلنا ننتظر من النهضة أن تكشف خصوصياتها الفكرية و تمايزها المنهجي،وأن تجيب عن سؤال أساسي: هل تجاوزت الرؤية الفكرية والعقائدية التي طرحتها في أواخر الثمانينات؟ وما نبحث عنه أن يكون هناك تنافسا مثمرا داخل الساحة الإسلامية، وأن يكون تنوع الساحة وتعدد مكوناتها عنوانا لدفع حالة الاجتهاد بمعناه النظري العام وتكثيف حالات التجديد والابتكار المفاهيمي و الأدواتــي والقيمي بما يستوجب تطوير الفكر الإسلامي مضمونا ومنهجا ومفاهيم بالانفتاح على الفلسفة والعلوم الإنسانية.
 
(12) ماذا تنتظرون من مؤتمر حركة النهضة ؟ 
 
أن تتحرر من "صنمية" التنظيمــــات "السراديبيــــة" وأن تنفتح على ما بعد التنظيم المغلق إلى تنظيم منفتح ودينامي وبرامجـــي وأن تنفتح على عوالم فكرية متنوعة وشبكة قيمية مرنة وكفاءات بشرية وعلمية  توسع بها القاعدة السياسية للدولة وتجدد بها النخب المجتمعية المنتجة  للرموز والمعاني والدلالات، وخاصــــة أن تسهم في تطوير الفكر الإسلامي بمداخل منهجية وقيمية قادرة على القطع مع التمثلات التقليدية و التصورات اللاتاريخية .
 
 
 
(13) ما موقفكم من التشتت الحزبي ؟ الا ترون أن السبب يعـــود إلى طبيعة مؤسسي هذه الأحزاب وعقلية الزعاماتية السائـــــدة على الساحة؟
 
التشتت الحزبي في قراءة حسية مباشرة نتاج تضخم الزعماتيـــة  بلا شك، لكن في تحليل أكثر عمقا يبين أن التصحر السياســـــي الذي خيم على  الممارسة السياسية في بلادنا وعدم خصوبة الفكر السياسي والثقافة السياسية المحدودة و الإدراك التقليدي للمسألة السياسية هو في أصل التشرذم السياسي، وأنه كلما نضجت السّاحة السياسية سيتقلص عدد الأحزاب وتنزع نحو الائتلافات والتكتلات الكبرى، وننتقل من المباشرة الأنوية إلى المقاربات الموضوعية للواقع السياسي.
 
(14) هل يمكن الجزم بدخول تونس عصر الدولة المدنية الديمقراطية؟ كيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟ 
 
لا تزال العديد من المخاطر تهدد مرحلتنا الانتقالية سوى ممن لديهم الحنين لاستعادة الاستبداد أو ممن انكمش على نفسه وتقوقع واعتبر أن تأسيس الدولة ينبني على معايير إجرائية أو الشرعية الانتخابية فقط. نحن في مرحلة ما بعد الاستبداد ولم ندخل بعـــــد في مرحلة الديمقراطية، إذ أن الديمقراطية ليست نوايا صادقــــــة بل ترجمتها إلى خطط وبرامج ومشاريع فاعلة، وإزالة القطيعـــة بين السلطة والمجتمع. إننا في مفترق طريق تاريخي، فالديمقراطية لا بد أن تتحول إلى قاعدة جماعية وأن تهاجر من عالمها النظري والسياسي وتتحول إلى حركة اجتماعية، وتصبح مشروعا اجتماعيا وتاريخيا، بترسيخهـــــا وبنائها ثقافة وقيما وممارسة وشعــــورا. إن بناء الديمقراطية في بلادنا ليست قضية سهلة وليست مجرد انتقال من مرحلة إلى مرحلة، بل هي ميلاد جديد، من حيث أسسها وأفقها وأدواتها، فهي لا يمكن أن تتحقق من خلال النظام السياسي فقط، بل من خلال محددات أخرى كأجهزة الرقابة والحامية لقيم الديمقراطية و ترسيخ الثقافة الديمقراطية، وتبقى الديمقراطية هيكل خاو إذا لم يسندها حد أدنى من العدالة الاجتماعية، إذ لا ثورة دون إعادة توزيع الثروة.
 
( في الجزء الثاني من الحوار سنتحاور مع الدكتور محرز  عن التربية والثقافة وعن عملية الإصلاح التربوي و موقفه من الخوصصة في ميدان التعليم وعودة التعليم الزيتوني .)