متابعات

بقلم
فيصل العش
الندوة العلميّة الوطنيّة : الثّورة والمسألة التّربويّة، إشكاليّات وبدائل

 نظّم منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل بقاعة المؤتمرات بمعرض صفاقس الدولي خلال أيام 10 و 11 و 12 ماي الجاري ، ندوة علمية وطنيّة تحت عنوان « الثورة والمسألة التربويّة: إشكاليات وبدائل». وقد تضمّنت خمسة عشر(15) مداخلة توزّعت على ثلاث محاور وهي :

* واقع المنظومة التّربويّة
* مقاربات في إصلاح المنظومة التّربويّة
* التّربية رهانًا استراتيجيًّا للثّورة
الندوة افتتحها السيد وزير التعليم العالي في غياب شبه كلّي لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة، حيث لم تحضر سوى قناة الزيتونة وإذاعة صفاقس لفترة وجيزة خلال جلسة الإفتتاح وعدد قليل جدّا من الصحافيين لم يتجاوز الإثنين وهو ما يدلّ  على أن وسائل الإعلام التونسية مازالت بعيدة عن تطلعات الثورة ولم تدخل بعد عصر الحرّية والمهنيّة حيث لم تقدر على تجاوز ولاءاتها الايديولوجيّة واهتماماتها السياسويّة، وإلا فكيف نفسّر غيابها عن ندوة علميّة تهتمّ بالشأن التربوي أساس كل بناء ومحرّك كل مشروع تنمويّ رائد.
الحضور لم يكن جماهيريّا، غير أنه كان جيّدا نظرا للصبغة العلميّة للندوة. فقد جمعت ثلّة من أهل الإختصاص المهتمين بالشّأن التربوي من أساتذة جامعيين وباحثين ومتفقدين وأساتذة ومعلّمين ، بهدف البحث في أسباب عطالة المنظومة التربوّية ومؤسساتها وتقديم مقترحات في كيفيّة «بناء منظومة تربويّة متكاملة ومتوازنة تحرّر المؤسسة التربويّة من كلّ أشكال التسلّط والارتهــــان» (1) و «بلورة مشاريع تربويّة بديلة تؤسّس لتكامل وظيفيّ ومقاصديّ بين المؤسسة التربوية وبين المشروع الحضاريّ- التّاريخيّ لثورة الحرّيّة والكرامة والعدالة» (2) لأنه «لا منـــاص لمن أراد تحقيـــــق أهداف الثـــورة من مراجعة المنظومة التربويـــة مراجعةً نقديةً جذريّةً بدْءً بمنطلقاتهــــا وأهدافها، مرورا بآليات عملها والأطراف المتدخّلة فيها، وصولا إلى تحديد خططها وغاياتها الإستراتيجية»(3). 
أغلب المداخلات كانت أعمالا أكاديميّة منضبطة للمواصفات العلميّة سواء في تشخيص النظام التربوي المتردّي أو في محاولات تقديم بعض المقاربات لإصلاح المنظومة التربوية. كما تنوّع أسلوب التقديم من متدخّل إلى آخر وطغى على الجلسات جوّ من الجدّية ممزوج ببعض الدعابات الأدبيّة بين الحين والآخر تفنّن في تقديمها بعض الحاضرين سواء من المتدخّلين أو المحاورين.  
ورأى المحاضرون والمناقشون، أنه من البديهي اليوم ومن ضرورة بمكان، القيام بتشخيص دقيق علميّ ورصين للوضع التربوي وللمنظومة التربويّة ينأى عن الأحكام المسبّقة والقراءات ضيّقة الأفق، بعيدا عن أي توظيف ايديولوجي أوحزبي حتّى نتجنّب تكرار الأخطاء التي وقع فيها السابقون. ورأوا أن الاصلاح لايمكن أن يكون تواصلا مع الماضي تواصلا كليّا ولا هو قطعا جذريا معه، باعتبار أن المنظومة التربويّة القديمة عرفت تجارب إصلاحية حققت بعض المكاسب كمحاربة الأميّة ومجانية التعليم ولكنها عرفت اخفاقات تحتاج إلى تشخيص دقيق وعميق.
كما خلص الحاضرون إلى أن أزمة التربية هي أوسع من أن تكون أزمة برامج ومناهج بل هي في جوهرها أزمة أسس تفكير وثقافة ، وبالتالي فإن من أولويّات أي مشروع لإصلاح القطاع التربوي اختيار الأسس الفكرية المناسبة التي تعتمد البنية العميقة للمجتمع التونســــــي ( القيم المشتركة للشخصيّة التونسيّة ) بما فيها من قيم سياسية واجتماعية وثقافيّة لتتمّ تربية الناشئة ضمنها حاضرا ومستقلا بصورة يكون فيها الفعل التربوي منسجما مع الرؤية الحضارية التي يتبناها المجتمع وعندها يتحقق الهدف المنشود في  جعل التعليم يستعيد دوره المبدئي والاستراتيجي في انتاج إنسان مؤمن دائما بقيمه، فخورا بانتمائه، منفتحا على القيم الكونية تبادلا وتثاقفا دون اتباع أو اجترار.
وقد أكّد المتدخّلون في هذه الندوة على أهميّة المدرسة كمؤسسة تربوية وعلى ضرورة أن تستعيد حرّيتها وتقوم بدورها الفعلي من دون احتكار للمسألة التربويّة حتّى لا يتم إلغاء دور المؤسسات الأخرى كالأسرة والمسجد والمسرح والنوادي ... الخ. وهذا لا يتمّ إلاّ عبر تحديد وظيفة المدرسة بصفتها فضاء معرفيا، عمليا وتربويا وهي تساهم في إعدادّ المتمدرسين للحياة الإجتماعيّة في ثلاثة أبعاد، البعد الرمزي (التكوين اللغوي والأخلاقي وكل ما يجب أن يلتزم به الفرد إجتماعيّا) والبعد الإبداعي ( حيث تساعد على اكتشاف المواهب) والبعد التقنــي ( إتقان المهن والتمكّن من التكنولوجيّات ...). 
ويرى المشاركــون في الندوة أن البـــلاد اليــوم في أمسّ الحاجة  إلى تأسيس رؤية أصيلة، واقعيّة وشاملة يتداخل فيها التربوي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ومقاربة تشاركية تضم جميع الاطراف التربويــة دون اقصـــاء أو وصاية حيث يشـــارك الجميــع في تحديد توجهات المشروع التربوي الجديد على قاعدة الوفاق والتعاون بعيدا عن التوظيف السياسي الحزبي والمذهبي الايديولوجي حتى تكون المدرسة فضاء يوحد بين جميع التونسيين فـ «إصلاح المنظومة التربوية إذن هو مشروع مجتمعيّ يساهم في رسم مقوّماته ومراحله وأهدافه كلُّ أعضاء المؤسسة التربويّة، تعاضدهم في ذلك المنظّمات والجمعيّات الثقافيّة. و لأمر كهذا يكون من أولويّات أيّ مشروع إصلاحيّ اختيارُ أسس فكريّة جديدة لبناء مجتمعيّ وحضاريّ جديد ينخرط فيه الجميع في فضاء حواريّ – تعارفيّ يؤسّس لذات جديدة فكرًا وخلقـًا وذوقـًا. وتلك هي المهامّ الّتي من المفترض أن تؤدّيها التّربية والثّقافة»(4).
ومن بين أهمّ المقاربات في إصلاح المنظومة التربويّة وجوب القطع مع المسلك الفوقي للإصلاح وضرورة صياغة مقاربة جديدة للزمن المدرسي بما يكفل للمتمدرس أن يستوعب مــــا يقدّم إليــــه من معلومات وأفكار ومضامين بالإضافة إلى إعادة النظر في علاقة التعليم بالتشغيل.
إن الأصل في التربية هو التحرر العميق للإنسان ولهذا يرى الجميع أنه من الضروري إعتماد منهج تربـــويّ يرتكز على تفجير ما في الإنسان من طاقات خلاّقة وإبداعيّة ويساعده أن يتحرر بنفسه من نفسه.
لقد حاولت الندوة أن تقدّم إجابات لعدّة أسئلة حارقة تتعلّق بالتربية أهمّها : «أي منظومة نريد: تربوية،أم تعليميّة، أم تكوينيّة ؟ و لأيّ نمط مجتمعي نؤسس؟ وما هي صورة الإنسان التي ينبغي للنّظام التّربويّ أن يعمل على إنشائها وفق قيمنا و إمكاناتنا وواقعنا وآفاقنا؟ وما هي المنظومة التربوية التي تضمن الانتقال من تكديس المعارف إلى إنتاجها، ومن التعليم الكمي إلى تعليم يدرّبنا على كيفيّة التفكير؟ وما هي المقاربات الإصلاحية التي تخلّصنا من عقليّة الاستهلاك لمناهج جاهزة وافدة؟» (5) . وسيواصل منتدى الفارابي للدراسات والبدائل الغوص فيها عبر إقامة ندوات أخرى وحوارات مع أهل الإختصاص لضبط الإشكاليات العالقة بالمنظومة التّربوية في جميع مراحلها وأبعادها، والعمل على تقديم بدائل سواء على صعيد المبادئ و التّوجهات العامة أو على صعيد الممارسات البيداغوجيّة،حتّى يتحقق الهدف المنشود في تأسيس «مشروع تربويّ ثقافيٌ يكون فضاءً يغرس في النّاشئة إرادةَ المعرفة وحبَّ العمل ويؤصّل في وجدانهم الوعيَ بالمثل العليا للإنسانيّة والمواطنة »(6) وتكون فيه المدرسة فاعلا أساسيا للابداع العلمي والثقافي والتكنولوجي وفضاء للنهوض الاقتصادي. 
الهوامش
من (1) إلى (6): مقتطفات من الورقة العلميّة للمنتدى