كلمة وكفى

بقلم
لطفي الدهواثي
ذوي الهامات العالية

 هل كان من الصعب حقا أو باطلا على حكومة النهضة أن تنظر بعين الحق إلى آلاف المعتصمين في ساحة القصبة منذ أشهر؟ وهل كان من العيب حقا على حكومة الثلاثة أن تنظر بعين الإنصاف إلى هؤلاء المتجمعين من كل أنحاء البلاد أملا في استرجاع البعض من حقوقهم؟ هل هم يقينا على حق ؟ هل يستحقون الإنصاف ؟ ولماذا ؟والأهم من ذلك كيف ومتي؟.

كل هذه الأسئلة أصبح من الضروري طرحها قبل البحث في مشروعية ما يطلبونه من عدمها، ذلك أن حجم ما تعرّضوا له من تشكيك وتبخيس وازدراء كان في ظنّي أشدّ عليهم مما تعرّضوا له أيّام محنتهم من عذاب وتعذيب وسجن وملاحقة ومراقبة وتحقير وغير ذلك مما تنوء به الجبال، وقد كانت من قبل أشفقت من حمل الأمانة.
يستشهد المرجفون من مدعي المعرفة بسبل العدالة الانتقالية  برسالة الزعيم نيلسون مانديلا في كون تحقيق العدل بردّ الحقوق ورفع المظالم، لا يكون إلاّ بالتدّرج بعيدا عن التشفّي أو استبدال ظلم قديم بآخر ناشئ  وكأن هؤلاء كانوا من الظّلمة أو حتى من أعوانهم، متناسين إن الزعيم نفسه لو قصّ عليه بعضهم شزرا من قليل المعاناة لأتي من سرير مرضه معتصما معهم متقهّرا على زمن ينازع فيه أهل الخسّة أهل الشّرف ولكان قال لهؤلاء المدّعين ممن كان بعضهم بلا ريب من أعوان الظّالم « بئس ما كتبت لكم اذ كنتم لاتفقهون».
أما ما يأتيه ذووا القربي من أهل  الجماعة نفسها، والدين نفسه ، والمسلك ذاته، فقد كنّا ربّما نجد له تأويلا يبعد عنهم الشبهة ويقيهم الرمي بالتخاذل أو باللامبالاة وإذ نبالغ فبالتّنكّر والإجحاف لو أنهم لم يساموا مثلهم سوء العذاب ولم يدخلوا عراة إلى جلادين لا يعصون الشيطان ما أمرهم ويفعلون في حبه أكثر مما يؤمرون، أو لو أنهم لم يجرّبوا صقيع الزنازين وحرّها الملتهب، فكيف وقد أنزلوا من قبل منازلهم وانتهكت بالمثل أعراضهم وضاقت عليهم أنفسهم وأحلامهم ودورهم ومراقدهم وفاضت عنهم وعن صبيتهم وحليلاتهم دموعهم وأحزانهم وأشجانهم وآلامهم وظنّ أغلبهم أن لا سبيل إلى خلاصٍ إلاّ برحمة واحد أحد جبار. 
لو أن هؤلاء الذين دخلوا دور الحكم وقصوره محمولين على هودج الإرادة الشعبية التي اعتصرها الألم سنينا رقة ورأفة بهؤلاء وبغيرهم إلا ما خلا القلة القليلة ممن رفعوا من قبل شعار العار، إذ قالوا لاحقوق لاعداء حقوق الإنسان لو أن هؤلاء قالوا لا قبل لنا الآن برد حقوقكم أو نحن لا نملك قوة السلطان التي بها نستطيع أن ننصفكم أو قالوا لهم أي شيء يُعلي الهمّة ويثبّت العزم أو كانوا استمعوا لأهل الحق فيهم ممن قال وممن كتب، أمّا صمت العاجز فليس من العزم ولا من علوّ همّة أهل السلطان في شيء. 
إن الذي يريب من ذوي القربي على مضاضته، ليس أقل ممّا يريب من غيرهم من أهل السلطان أو من المعارضة، وخاصة ممن يرفعون في المنابر الإعلامية فقط شعارات حقوق الإنسان في كونيتها  لأن هؤلاء يجمعون إلى العداء والحقد الظاهر منهما والدّفين علّة أخرى لا يبرئهم منها إلا هادم اللذات، وهي شعارهم الخالد عندهم والمرجف عندنا سيء الذكر الذي ذكرناه من قبل والذي به وعليه يقيسون كل حق. فإن كان أصحاب الحق منهم أخرجوا لهم حقهم وزيادة ببركات الثورة أو بدونها.أما إن كان من الموصومين بكونهم من جماعة «خوانجي يستاهل» ثم صاروا من جماعة «خوانجي مسكين» حتى أصبحوا الآن عندهم «خوانجية طمّاعين» عليهم أن يحدّدوا بكم «كيلو» النضال. فهذا لاحق له وليشرب من أي ماء رديء يختاره وعند المشككين عبرة في بقية الاعتصامات.
إن الكثير من الناس ليسألون مثلي ماذا يُضيرالشيخ راشد الغنوشي، لو جعل من قضيتهم قضيته الأولى من دون أن يلتفت البتّة إلى تجّار الحقوق؟ وما الذي منع فخامة الرئيس أن يحمل صورة لمعتصمي القصبة كما حمل من قبل ما يخص جرحي الثورة وهو أدري الناس بعدالة قضيتهم لأن هؤلاء ضحايا عهد بل عهود فيما اللآخرون ضحايا حقبة لا يُبخَسُ حقّهم ولكن الأمرين  ليسا سواء.
لم نشأ في مقالنا هذا أن نفصّل في مأساتهم درءا لاستدرار العطف فهم من ذوي الهامات العالية. ولم نرغب في إدانة أي طرف إلا من استحقها من منتفخي الكروش والأوداج النائحين على قطّاع الطرق والسّاقطين من الشّواذ. وليس لنا فيما كتبناه إلا قصد التبليغ حتى نكون أدّينا شيئا مما علينا وهو كثير.  
إن قول الحق ليس منة والعمل بالحق عندي مقدّم في السياسة كما في غيرها من الأعمال على كل أمر. إذ العدل أساس العمران أمّا الاتكاء على الباطل واسترضاء أهله دون نيل الرضا منهم، فلا يورد إلاّ المهالك وحينها فسوف يكون هؤلاء القابعين في العراء، القابضين على جمرة الحق أول المنفضّين، فهل فيما قلناه عبرة لمن يعتبر أو سبيلا لرد الحق؟ هل سيلفحهم قيض الصيف كما لفحهم قارص الشتاء أم تراهم منقلبين إلى ما يسرهم؟ ليتني لا أضل غارقا في لعل عسي.